03 - 07 - 2024

هل بدأ العد التنازلي "للإنسانية" في أوروبا؟ موقفها من حرب غزة ربما يؤشر لسقوطها

هل بدأ العد التنازلي

- لن تجد أي أوروبي لا يؤمن بحق اليهود في دولتهم ولن تجد أي سياسي في حكومة اوروبية يدافع عن حق الشعب الفلسطيني في دولته

في البدء علينا أن ندرك أنه لا يمكن لأي متابع عاقل للسياسة الأوروبية، خاصة الذي يعيش في أوروبا، أن يأمل بميل كفة التأييد أو التضامن الأوروبي لصالح الشعب الفلسطيني ما دامت إسرائيل تجلس في احدى كفتي الميزان. فاسرائيل تمثل عقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، والتي من خلال المحافظة عليها وعلى ديمومة هذا الكيان، يمكن للدول الأوروبية تبييض ضميرها الملوث بالملاحقة والاضطهاد لليهود على مدى أكثر من ألف عام، والذي توجته أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي في حملة تطهير عنصري لليهود في معظم الدول الأوروبية، بل حتى في أميركا التي بقيت رافضة لاستقبال اليهود الهاربين من ظلم الأوروبيين حتى دخولها في الحرب العالمية الثانية ضد هتلر وحلفائه. وما تمخض عن تلك الحرب هو بالتحديد اعلان قيام دولة اسرائيل بعد أن مهدت لها أوروبا منذ ختام الحرب العالمية الأولى، بعد اعلان ما يسمى بوعد بلفور الانكليزي. وهنا ضربت الإمبريالية عصفورين بحجر، الأول ابعاد اليهود عن أوروبا إلى الأبد، والثاني زرع كيان يعتمد بقاؤه على ولائه المطلق وتنفيذه للسياسات الامبريالية.

أما أوروبا اليوم، فهي تنضوي تحت لواء الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر نموذجاً فريداً لتحالف معظم شعوب وأنظمة قارة واحدة، تحالف يتفق على المبادئ الأساسية التي تجمع دول القارة وتوحد مواقفهم جميعاً تجاه القضايا الحياتية، من سياسة داخلية وخارجية. ولكن كل هذا يمكن رؤيته في الظاهر. 

أما ما يدور فعلياً، فإن سياسة شراء الذمم وتقديم الرشاوي للحكومات والشعوب فهي التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي لتمرير قرارات "الاجماع" على هذه المسألة أو تلك. فالنظام الأوروبي يعتمد حق النقض الفيتو لأي دولة على أي قرار يصدر عن الاتحاد، وهذا ما يجعل اجماع السبعة وعشرين دولة الأعضاء في الاتحاد شبه مستحيل، إلا إذا مورست سياسة المساومات المادية، كما هو متبع في الكونغرس الأمريكي بين الديمقراطيين والجمهوريين. 

فعندما تقف بولندا ضد قرار لا تجده يصب في صالح انتاجها الزراعي، او عندما تقف الدنمارك ضد قرار لا يتماشى مع سياستها الداخلية ضد اللاجئين، او عندما تقف أي دولة اخرى ضد أي قرار، تجري المساومات لشراء قبول هذه الدول، أما بالمدفوعات المادية المباشرة او بإعطاء امتيازات في جوانب اخرى. وهذا يمثل أحد أعمدة الاسناد التي يستند عليها الاتحاد الأوروبي في سياسته. أما العمود الأخر، والأكثر صلابة من الأول، فهو أن الجميع ينتمي إلى الجنس الأبيض المسيحي، رغم الاختلافات البسيطة بين اليمين واليسار، الأمر الذي يعزز الأهداف المشتركة ويجعلها أسهل تنفيذاً. وهذا ما رأيناه واضحاً عندما اجتاحت القوات العسكرية الروسية أراضي أوكرانيا.

قيام اسرائيل واعلان قانون الفصل العنصري في جنوب افريقيا

من ولد أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وهذا زمن يمتد لأكثر من سبعة عقود، نشأ وتعلم وتشرب بمبادئ العالم الجديد الذي أفاق من كابوس حرب استمرت لأكثر من خمسة أعوام، جرّت أوروبا إليها كل شعوب العالم! وذهب الملايين من الأبرياء ضحايا في هذه الحرب، ناهيك عن الخسائر الفادحة في الممتلكات وما تركته على الطبيعة من دمار، مثل ما حدث في هيروشيما التي لا تزال تعاني من تلوث البيئة بسبب القاء أميركا القنبلة الذرية عليها. أما تداعيات هذا الحرب فما تزال واضحة في كل معالم الحياة، من التعليم والسياسة وطرق التفكير، وإلى آخره من تبعات اجتماعية وسيكولوجية. كيف؟

بعد أن كان العالم منقسما إلى دول قومية لها حدودها ومصالحها وأطماعها، انقسمت أوروبا بعد تلك الحرب إلى معسكرين، شرقي وغربي، او شيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي ورأسمالي بقيادة الولايات المتحدة،  والدولتان لم توقفا الحروب، بل استبدلاها بابتكار جديد للحروب، أطلق عليه الحرب الباردة. اي ان الطرفين لا يتحاربان مباشرة مع بعضهما، وإنما يعملان لإنهاك بعضهما البعض من خلال حروب تنوب عنهما فيها دول أخرى. وهنا كان نصيب الدول التي اطلق عليها "النامية" الحظ الأوفر، فتلك الدول التي تضامنت مع أحد هذين الحلفين وجدت نفسها مضطرة لدخول حرب، او حروب مع دول أخرى تضامنت مع الحلف الأخر. 

وكانت حرب 1948 أول هذه الحروب، عندما زرع الغرب كياناً جديداً في الشرق الأوسط، سمي باسرائيل، حيث اعترف الطرفان، الشيوعي والرأسمالي بإسرائيل عام 1948، في هيئة الأمم المتحدة التي أنشئت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأسس لها مجلس للأمن، يتألف من الدول الكبيرة آنذاك، الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة والصين والاتحاد السوفيتي، أي المنتصرون في الحرب العالمية الثانية. 

والجدير بالذكر ومن المهم التذكير به دوماً، أن إعلان المواثيق الانسانية في الأمم المتحدة، مثل ميثاق حقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير المصير، تزامن في نفس العام مع إعلان قيام دولة إسرائيل! وتزامن ايضاً مع إعلان قانون الفصل العنصري "الابارتهايد" في جنوب أفريقيا! الأمر الذي لم يثر اهتمام مجلس الامن. فهل كان ذلك محض صدفة؟ أم أنه بذلك أرادت القوى العظمى أن تعلن لشعوب العالم غير "المتقدم" أن مواثيق الامم المتحدة لا تشملكم، بل جاءت لحماية شعوب الدول القوية فقط! ولنا الحق في تقرير من له الحق في ذلك ومن ليس له الحق!

كل ذلك علينا تذكره عندما ننظر إلى مواقف أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن بما يتعلق بالشأن الفلسطيني وبالصراع من أجل أن ينال الشعب الفلسطيني حقوقه، كما هو مثبت في تلك المواثيق التي سنتها هذه الدول. 

وقوف بجانب إسرائيل ضد الحق

عند مراجعة مواقف الدول الأوروبية، نراها ودون استثناء تقف في جانب اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، رغم أنها تقر بحقه في نيل حقوقه المشروعة وتطلق بعض الخطابات والتصريحات المطمئنة لشعوب المنطقة. في أوروبا لن تجد، وهذه خبرة عيش وعمل واختلاط على مدى أربعة عقود، أي أوروبي لا يؤمن بحق اليهود في دولتهم اسرائيل، بغض النظر أن هذا الأوروبي علماني أو متدين، مسيحي او يهودي، يساري او يميني! وفي أوروبا لن تجد أي سياسي في حكومة اوروبية يدافع أو يصرح أو حتى يتطرق إلى حق الشعب الفلسطيني في دولته. والأوروبيون الذين يتذكرون حرب أكتوبر عام 1973، نجدهم يتباكون "لنكبة" اليهود وهم يحتفلون بعيدهم الكبير عندما هاجمتهم القوات العربية من كل الجهات! بينما يتناسون كيف هاجمت اسرائيل مصر عام 1956 وعام 1967.. ويقولون لك أن الاسرائيليين وفي كل حرب كانوا يدافعون عن وجودهم، عن بقائهم ضد من يريد إزالتهم من على وجه الأرض. 

إن الحكومات الأوروبية، وإن صرحت بقلقها من انتهاك اسرائيل لمواثيق الأمم المتحدة بين الحين والاخر، فانها لا تجرؤ على توجيه الانتقاد لاسرائيل، لان كل اوروبي يعلم أن انتقاد اسرائيل يعني نكأ جراح قرون من اضطهاده لليهود، ووصمة معاداة اليهود جاهزة لتلاحقه مدى حياته، كما كان على رئيس حزب العمال الانكليزي السابق "جيرمي كوربن" أن يتحمله عندما انتقد سياسة اسرائيل في حربها السابقة على غزة. حينها لم يتوان الاعلام الاوروبي عن لصق تهمة معاداة السامية به، مما اضطر حزبه إلى تنحيته من منصبه.

اسرائيل تحتكر الاضطهاد عليها ولها؟

هذا ما يتمخض عنه فعلياً عدم التجرؤ على انتقاد اسرائيل، لانها كدولة تتمسك بما تعرّض له اليهود على مدى العصور كفزاعة الطيور"خيال مآتة" تشهرها في وجه أي منتقد لسياستها لنعته بمعاداة السامية، رغم انها تتربع على رأس قائمة الدول التي تخترق قوانين الامم المتحدة ومواثيقها الانسانية منذ تأسيسها. إن اسرائيل تحتكر الاضطهاد عليها ولها! 

ففي الرواية الاسرائيلية، لا يوجد أي شعب تعرض للاضطهاد كاليهود، وليس هناك من مضطهَدٍ في هذا العالم غيرهم، ولذلك فإن على العالم اجمع أن يدين بالتضامن والاسناد ودعم اسرائيل في كل ما تقوم به ضد الفلسطينيين، ومهما فعلت هذه الدولة المختلقة من أجل الاطماع الإمبريالية، فان لها الحق في فعله، فهي أعلى من أي قانون يحكم العلاقات الانسانية بين الشعوب. 

ونراهم يكررون ما يذكره كتاب اليهود المقدس، فهم شعب الله المختار، والذي وعدهم بهذه الارض، بفلسطين، رغم ان كتابهم نفسه يحدثنا أن النبي موسى كان في مصر قبل خروجه منها، مع اتباعة من اليهود، وهجرتهم إلى فلسطين التي كان يسكنها العديد من الملل والقبائل والشعوب قبل مجيئهم اليها. كل هذه الحقائق لا تشكل أي حجة تفوق حجة حقهم في أرض فلسطين. ولذا فان الموقف الأوروبي يبقى في جانب اسرائيل مهما فعلت ومهما اخترقت من قوانين سنتها أوروبا لها وللعالم!

وما شهدناه منذ السابع من أكتوبر 2023 ولحد الآن يكشف وبشكل ذريع المواقف الأوروبية، عندما تسابق قادة الحكومات الأوروبية، بعد الولايات المتحدة، في الذهاب إلى اسرائيل وتعزية نتانياهو والتصريح بوقوفهم مع حكومة اسرائيل وشعبها. فرؤساء حكومات المانيا وايطاليا وفرنسا وبريطانيا واليونان، الخ من الدول الأوروبية منحوا علنياً الحق لحكام اسرائيل أن يفعلوا ما يرونه ممكناً، حتى وإن اقتضى الأمر إبادة وتهجير الشعب الفلسطيني. وهم ضليعون في هذا المشروع، مشروع نتانياهو، الذي لم يخفه عن أحد منذ مجيئه للسلطة. وقد وقف نيتانياهو اثناء انعقاد اجتماع الجمعية العامة السنوي الاخير للامم المتحدة، يعرض خارطة اسرائيل الجديدة، والتي لم تتضمن أي مليمتر لفلسطين أو حتى اسماً للضفة الغربية أو لقطاع غزة المنصوص عليها في قرارات الامم المتحدة. نيتانياهو لم يخفِ يوماً مشروعة العنصري، بل على العكس، كان مشروعه دوماً بطاقة انتخابه ليترأس بها الحكومة بعد الاخرى في اسرائيل منذ ما يقارب عقدين من الزمن اليوم.

ظاهرة زيلنسكي

منذ اندلاع الحرب الروسية-الاوكرانية ولم يفتأ الرئيس الاوكراني عن تذكير العالم بأن أوكرانيا تحارب من أجل كل أوروبا، ونجده لا يفوت الفرصة في أي حديث له، ان كان مع الصحافة أو في البرلمانات الأوروبية التي يزورها، أن انتصار روسيا سيؤدي إلى نهاية أوروبا الديمقراطية. واليوم نجد نيتانياهو قد تعلم من زميله زيلينسكي، ليكرر في مقابلاته وخطاباته الرواية ذاتها، وأن حرب اسرائيل على الفلسطينيين، هي من أجل العالم المتحضر ضد ما يسميه "البرابرة"، وأن نجاح اسرائيل في اجتثاث حركات المقاومة، التي ينعتها بالارهابية، هو انتصار للعالم المتحضر. وهذا بالذات ما تريده الحكومات الأوروبية لتعزيز مواقفها في الدعم اللامشروط لاسرائيل أمام ناخبيها. غير أن القصف الهمجي الاسرائيلي لغزة وأهالي غزة حرّك ضمائر الشعوب الأوروبية مما جعلها تنزل  وبأعداد غير مسبوقة إلى الشارع وهي تحمل العلم الفلسطيني، مطالبة حكوماتها بوقف اطلاق النار من قبل اسرائيل وفرض حل عادل للقضية الفلسطينية يضمن حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. 

وبينما قررت العديد من الدول الأوروبية، ومن بينها الدنمارك، وقف المساعدات الانسانية لغزة، ودول اخرى منعت حمل العلم الفلسطيني، وذهب بعض السياسيين الأوروبيين إلى ابعد من ذلك، فمنهم من طالب بمنع هذه المظاهرات وآخرون بفرض "الاعتراف باسرائيل" كأحد شروط منح الجنسية لأي مقيم في البلد، أو عدم قبول أي لاجئ من غزة في المستقبل! شهدنا منذ بدء هذا القصف الوحشي لاهالي غزة مطالبات شعبية لمقاطعة اسرائيل ولوقف الدعم الاوروبي لحكومتها اليمينية الفاشية، وضرورة وقف الحملة العسكرية لابادة وتهجير الشعب الفلسطيني من ارضه، وهذا ما صرح به بعض البرلمانيين الاوروبيين في ايرلندا واسبانيا، وحتى وزيرة الشؤون الاجتماعية في اسبانيا، ايون بالارا، طالبت بتعليق العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل، وفرض حصار اقتصادي على نيتانياهو وكافة القيادة الاسرائيلية، ومقاطعة الاسلحة الاسرائيلية، ثم احضار نيتانياهو أمام المحكمة الدولية لمواجهة تهم جرائم الحرب التي ارتكبها في غزة. وكذلك نذكر العضو البرلماني باول بريستو والمستشار الحكومي في انكلترا الذي أُقيل من وظيفته لانه كتب رسالة لرئيس الوزراء يدعو فيها إلى وقف اطلاق النار في غزة. وقد جمدت عضوية اندي ماكدونالدز في حزب العمال وهو ممثل له في البرلمان، بعد أن صرح في مظاهرة لدعم الشعب الفلسطيني بأن التظاهر يجب ان يستمر حتى "يحل السلام على الناس، فلسطينيين واسرائيليين، ساكني الارض بين النهر والبحر"! ولكن عبارة "بين النهر والبحر" تعتبرها اسرائيل عبارة فلسطينية، وتبني صريح للموقف الفلسطيني الذي يمكن له أن يفهم بأنه عداء للسامية. وهناك 35 عضوا برلمانيا يطالبون بوقف اطلاق النار، ومن بينهم 13 وزير ظل. ولكن رئيس الحزب "كيير ستامر" صرح بأن الوقت لم يحن لوقف اطلاق النار، وهذا بالذات تبني اعمى لموقف اسرائيل والولايات المتحدة. 

وهذه الخلافات نجدها أعمق في الاتحاد الأوروبي بين المواليين للموقف الاسرائيلي، مثل المانيا والنمسا والدنمارك، وبين من هم يجدون أن للفلسطينيين حق، مثل اسبانيا والبرتغال وايرلندا ولوكسمبورغ، وبين من يقف في الوسط، مثل فرنسا وهولندا اللتين تؤكدان حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، وفي نفس الوقت يدعوان لوقف اطلاق النار. وهذا ما اتضح في اجتماع القمة الاخير لدول الاتحاد الأوروبي عندما عارضت ألمانيا أي قرار يتضمن عبارة "وقف اطلاق النار"، وهذه العبارة منعتها الادارة الاميركية أيضاً من التداول في الوثائق الرسمية! ولذا استبدل الاتحاد الاوروبي هذه العبارة بـ "فرصة انسانية"، عبارة لم تستخدم من قبل، ولا أحد يعرف بالضبط ما الذي تتضمنه هذه الدعوة، رغم أن بعض المحللين يذهب إلى أنها دعوة إلى وقفة قصيرة لاطلاق النار من أجل السماح للمعونات الدخول إلى غزة لسد الاحتياجات الانسانية. 

ومع هذا أثيرَ السؤال، هل ستكون "فرصة" واحدة أم "فرصا" متعددة؟ وحدث الامر ذاته في الاجتماع العام لهيئة الأمم المتحدة عندما عارضت النمسا وهنغاريا والشيك وكرواتيا قرار وقف اطلاق النار، بينما امتنعت المانيا وهولندا وبولندا عن التصويت، وهنا وافقت فرنسا والبرتغال واسبانيا على هذا القرار. غير أن المد العام، بعيداً عن القرارات والوثائق التي لا يسمع بها المواطن العادي وبالتالي لا تهمه، نجد السباق لكسب ود اسرائيل والولايات المتحدة، مستعراً بين ممثلي الحكومات الأوروبية.

أوروبا إلى أين؟

كل ذلك يفرض التوقف عند ما بدأنا الحديث عنه، وبالذات عن حقوق الانسان وحرية الرأي والاعتقاد.. إلخ من القوانين التي سنها الأوروبيون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لنتساءل، هل سيضحي ساسة الدول الأوروبية، بحكوماتها الحالية والقادمة، بكل ما تفتخر به الشعوب الأوروبية وما تتميز به عن الشعوب الاخرى؟ هل ما نشهده الآن يدعم ما طرح من قبل بعض المفكرين الأوروبيين أثناء وبعد الاجتياح الاميركي للعراق وأثناء الربيع العربي وانتفاضة الشعوب العربية ضد حكامها الدكتاتوريين، وبعد أن أقفلت أوروبا ابوابها أمام النازحين واللاجئين السوريين، بأن العد التنازلي "للإنسانية" في أوروبا قد بدأ؟ وهل ستكون أوروبا قادرة على حماية مكتسباتها الانسانية، وحكوماتها تكيل بالمكيالين عندما يتعلق الامر بشعوب بعيدة عن قارتها؟ وهل سيبقى العالم احادي الطرف تقوده الولايات المتحدة، أم أن العالم متعدد الاطراف اصبح حقيقة ومطلبا لابد منه، بعد أن عاشت شعوب أوروبا في ذلك الجيب الزمني الذي امتد منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى الاجتياح الروسي لاوكرانيا، مطمئناً أن العالم الغربي هو المنتصر وهو الذي يقود العالم؟.

جميع المؤشرات تشير أن ذلك بدأ يتداعى، فالانقسامات بين الدول الأوروبية عميقة جداً، ولا يفوت يوماً إلا وتظهر انقسامات جديدة بين هذه الدول، حتى وصلت إلى تضارب الآراء بين قيادة الاتحاد الآوروبي نفسها، بين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دالاين عندما زارت اسرائيل دون التشاور مع دول الاتحاد، وبين جوزيب بوريل وزير خارجية الاتحاد الاوروبي وشارل ميشيل رئيس المجلس الاوروبي اللذان صرحا بضرورة "وقفة" إنسانية للحرب ومساعدة أهالي غزة، امر لم يحدث سابقاً، ناهيك عن التصريحات الحكومية لكل دولة والتي تتضارب فيما بينها. 

كذلك فإن الهرولة غير المسبوقة للدول الأوروبية وراء سياسة الولايات المتحدة الذي شهدناه بعد الاجتياح الروسي لاوكرانيا بدأ يتزحزح أيضاً، وبدأت بعض الدول الأوروبية التباطؤ في الانصياع لأوامر الولايات المتحدة والناتو، كما شهدنا ذلك في بولندا وسلوفاكيا وهنغاريا. وما هو ملفت للنظر بعد المظاهرات العارمة في العواصم الغربية والداعمة للشعب الفلسطيني، أصبح من الواضح أن حجم الهوة بين حكومات هذه الدول، الداعمة لاسرائيل، وشعوبها أوسع مما ترسيه القواعد الديمقراطية ومما كان يعتقده البعض. وقد اتضح كذلك أن هذه الحكومات لا تتمتع بالرؤية السياسية التي تضمن لشعوبها الاستقرار والسلام الذي تمتعت به منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

كل ذلك يضطرنا لطرح السؤال التالي، إن كان من الواضح ضعف الولايات المتحدة وتخبطها في السياسات الخارجية، وشلل أوروبا في مواقفها من القضايا الانسانية، فماذا لو تداعت هذه القوى أكثر، ولنقل لو سقطت "الامبراطورية" الغربية؟ ماذا سيحل بالعالم؟ ومن الذي سيحل محلها؟ هل سنعود إلى القرون الوسطى، عندما انتهت الامبراطورية الإسلامية وخلفت وراءها ذلك الفراغ الذي اتسم بالهمجية، وما يسمى اليوم بالحقبة المظلمة، حتى جاء عصر النهضة وانتشل العالم إلى النور؟ ولكن، وبغض النظر عما سيجلبه المستقبل للعالم، فانه من الواضح أن الوضع الراهن غير قادر على البقاء طويلاً، وربما حان الوقت لتغييره!    
---------------------------------
بقلم: د.سليم العبدلي *
كاتب وأكاديمي من الدنمارك

2 نوفمبر 2023








اعلان