29 - 06 - 2024

حرب غزة 2023.. مفاهيم جديدة في الحرب من ميدان المعركة

حرب غزة 2023.. مفاهيم جديدة في الحرب من ميدان المعركة

الحرب كمفهوم أكثر تعقيداً من مفهوم "استخدام القوة"، الذي يعد أحد الأدوات الرئيسية لتحقيق المصلحة الوطنية للدولة، رغم أن الحرب في أحد تعريفاتها هي الشكل الأعلى لاستخدام القوة. وعلى الرغم من التطور الذي طرأ على المفهوم، إلا أن التعريف الكلاسيكي للحرب ينطبق تماما على الحرب الراهنة في غزة. 

فالحرب في تعريفها الكلاسيكي الشائع هي نزاع مسلح بين طرفين يستهدف إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية من أجل الحصول على نتائج مرجوة. قد يكون الطرفان المنخرطان في حرب دولتين، أو قد تنشب الحرب بين دولة وجماعة أو جماعات مسلحة، أو بين تحالف من الدول في مواجهة تحالفات أخرى، أو بين جماعات مسلحة داخل الدولة في حالة الحروب الأهلية. والحرب قد تكون هجومية وقد تكون دفاعية، وقد تكون عدواناُ أو حرباً عادلة، وقد تشن لاحتلال إقليم شعب آخر وإخضاعه لسلطة أجنبية، وقد تكون حرب تحرير لأرض محتلة أو للتخلص من السيطرة الأجنبية. 

وبتطبيق هذا المفهوم على الحرب الراهنة في غزة وكيف تنظر الأطراف المختلفة على خط جبهة القتال إليها، يُلاحظ أنها حرب يشنها جيش نظامي لدولة تحظى باعتراف دولي ومدعومة بتحالف من دول أخرى، في مواجهة جماعات مسلحة للمقاومة تُقيم تحالفا فيما بينها من أجل أن تخوض قتالاً ضد سلطة محتلة تفرض حصاراً على إقليم من الأرض التي تحتلها خارج عن سيطرتها، وتحظى هذه المقاومة بدعم دول أخرى وبتعاطف واسع من شعوب المنطقة المحيطة. وهي حرب تدور في سياق من العداء المستحكم بين إسرائيل، بوصفها تجسيد للمشروع الصهيوني، وبين الشعوب العربية والإسلامية، رغم الهدنة القائمة بحكم الأمر الواقع أو بموجب محاولات من أجل تسوية الصراع بوسائل سياسية. 

من يقرأ البيانات العربية الصادرة بخصوص حرب غزة، وآخرها بيان القمة الخليجية الصادر يوم الاثنين، مع اقتراب الحرب من نهاية شهرها الثاني، يخلص إلى جملة من الاتهامات الموجهة لإسرائيل بموجب القانون الدولي، لاسيما القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي واتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين أثناء النزاع المسلح الموقعة في عام 1949 والبروتوكولات الثلاثة المكملة لها. لقد أشار بيان القمة الخليجية إلى انتهاكات صارخة لقواعد القانون الدولي المنظمة للحرب في الممارسات الإسرائيلية في غزة، كما انتقد صمت، بل تواطؤ المجتمع الدولي على هذه الجرائم الإسرائيلية، مشيراً إلى "القتل الممنهج والمقصود للمدنيين الأبرياء بما في ذلك النساء والأطفال" وإلى "استهداف البنى التحتية الهشة أصلا، وقطع إمدادات الكهرباء والمياه والغذاء والوقود والدواء وتدمير المستشفيات ودور العبادة والمدارس". واتهم إسرائيل بممارسة "الإبادة الجماعية" محذرا من أن "جرائم القوات الإسرائيلية تعمق الشعور بالظلم وغياب الشرعية الدولية"، في ظل موقف دولي صامت أو متواطئ يتبنى "معايير مزدوجة" في التعامل مع الأزمة في غزة. وأكد البيان رفض الدول الخليجية للذريعة الأساسية التي تروجها الدول المؤيدة لإسرائيل وهي مبدأ حق الدول في "الدفاع عن النفس"، مشدداً على أن هذا المبدأ لا ينطبق على الاحتلال وفق القانون الدولي، و" لا يجيز ما ترتكبه إسرائيل من جرائم إبادة". 

ومن شأن هذه الاتهامات أن تمهد لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين والمتورطين في هذه الجرائم أمام المحكمة الجنائية الدولية، لكن هذا أمر مستبعد في المدى المنظور لاعتبارات سنفصلها في مقال آخر، ونركز منها في هذا المقال على الاعتبار المتعلق بالتكييف القانوني والسياسي للحرب، قبل الانتقال لتحليلها من زاوية عسكرية واستراتيجية.

حرب أم نزاع مسلح

على الرغم من أن التعريف الكلاسيكي الموسع للحرب يشمل ذلك النوع من الحروب التي تنشب بين دولة وبين جماعات مسلحة دون مستوى الدولة، مثل حرب إسرائيل مع جماعة حزب الله اللبنانية في عام 2006، وبين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة منذ عام 2005، إلا أن هذا النوع من الحروب يندرج في فئة النزاعات المسلحة من وجهة نظر القانون الدولي، ولا يعني هذا عدم تطبيق قواعد القانون الدولي على هذه النزاعات، إنما يتعلق الأمر بحدود المسؤولية عن تلك الانتهاكات، وكذلك المسؤولية عن وقوع ضحايا من المدنيين في مثل هذا النوع من النزاعات التي تختلط فيها الأهداف المدنية بالأهداف العسكرية، بسبب طبيعة حركات المقاومة وعلاقتها بالمحيط الداعم لها. ففي حالة الحرب الدولية بين جيوش نظامية، يكون التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية أكثر سهولة، ويكون الانتقال لاستهداف المدنيين قرار يتخذه أي من طرفي الحرب أو الطرفان على نحو متبادل من أجل تصعيد الحرب لتصبح حرباً شاملة تستهدف تدمير القدرات الشاملة للعدو. 

في حالة حرب غزة يكون استهداف المدنيين في لب استراتيجية الطرفين المتحاربين، وبالتالي يصعب اعتبار هذا الاستهداف تصعيدا للحرب، وغالباً ما يسوق الطرفان تبريرات مختلفة لهذا الاستهداف للمدنيين. فمن وجهة نظر المقاومة الفلسطينية ومناصريها، فإنه لا يوجد مدنيون في إسرائيل بوصفها كيانا محتلا ومغتصبا للأرض أو على أساس أن كل مواطني الدولة، اليهود أو من يسمح بتجنيدهم في الجيش، جنود احتياط، وعليه فإنهم يشكلون أهدافاً مشروعة كمغتصبين جاءوا من أماكن أخرى للاستيلاء على أرض فلسطين، أو يبررون هذا الاستهداف على أساس مشروعية الكفاح ضد الاحتلال بمختلف الأشكال والوسائل. ومن وجهة نظر إسرائيل ومناصريها، فإن المدنيين الفلسطينيين هم ضحايا للحرب بسبب التداخل بين فصائل المقاومة وبين الأهداف المدنية، بل يتهمون فصائل المقاومة بأنها تتخذ من المدنيين دروعا بشرية وينطلقون في شن هجماتهم الصاروخية من منشآت مدنية ومحمية بموجب القانون الدولي وأنهم باستغلال مثل هذه المنشآت لا سيما المساجد ودور العبادة والمستشفيات والمنشآت التعليمية ينتهكون القانون الدولي. 

ولا شك أن تبرير الحرب من منطلقات دينية يضيف صعوبات فيما يخص عدم التمييز بين المدني والعسكري، فالاستهداف غالباً ما يكون شاملاً استناداً إلى مبررات وتصورات دينية، ومن أجل ردع أطراف أخرى عن الإقدام على شن هجوم. ربما كان العنصر الجديد في الحرب الراهنة في غزة أن كلا الطرفين يعتمد على تصورات ونبوءات دينية، وعليه فإن الخسائر الناجمة أو المترتبة على الحرب غالباً ما يتم النظر إليها على أنها ثمن زهيد من أجل تحقيق الغاية الدينية الأسمى، ويلعب الخطاب الديني دوراً خطيراً في التعبئة والحشد، وفي مثل هذه الحالة يكون من الصعب إقناع أي من طرفي الصراع بالالتزام بقواعد القانون، إذ يعلو الالتزام الديني وإيمان كل طرف بأنه يخوض معركة الحق ضد الباطل، أي حديث آخر، وغالباً ما يكون عائقاً أمام إيجاد سبل للتهدئة أو تخفيف حدة القتال الذي يميل للاستمرار إلى حد معين من الخسائر التي يستطيع كل طرف تحملها في سبيل تحقيق الهدف، أو نتيجة لقدرة الأطراف الخارجية على فرض هدنة وإقناع الطرفين على الالتزام بها، أو إجبارهم على ذلك عبر حزمة من المحفزات والعقوبات.

اتخذ أرييل شارون، رئيس الوزراء الراحل قراراً في عام 2005، بسحب القوات الإسرائيلية والمستوطنين اليهود من قطاع غزة ومن ثلاث بؤر استيطانية في الضفة الغربية على أمل أن يخفف هذا من حدة المواجهات الإسرائيلية الفلسطينية التي فجرها دخوله ساحة المسجد الأقصى في سبتمبر 2000، وهو الحدث الذي فجر انتفاضة فلسطينية مسلحة عرفت باسم انتفاضة الأقصى، تلك الانتفاضة التي أعطت للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعداً إسلامياً حجب الأبعاد الأخرى، ومهد لوضع المواجهات الإسرائيلية-الفلسطينية في سياق الحرب العالمية الأوسع على الإرهاب التي تخوضها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001. وساهم فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير 2006 وانقلابها على السلطة الفلسطينية، وانفرادها بالسيطرة على قطاع غزة في عام 2007، في تكريس هذا التأطير للصراع الذي تخوضه إسرائيل، لاسيما الحكومات اليمينية ضد الفلسطينيين. لقد كان دخول شارون باحة الأقصى والذي حدث بعد نحو خمسة أعوام على اغتيال رئيس الوزراء العمالي، اسحق رابين، على يد متطرف يهودي، الخطوة الأولى في خطة حزب الليكود ومعسكر اليمين من أجل إحكام قبضته على السلطة وعلى القرار في إسرائيل، وتصفية القدر القليل من المكتسبات التي حصل عليها الفلسطينيون بموجب اتفاقيات أوسلو، ودفع الفلسطينيين إلى مواجهات عسكرية غير متكافئة، تساعد معسكر اليمين الذي يهيمن عليه الآن التيار الديني والاستيطاني على تحقيق هدفه المتمثل في فرض سيطرة يهودية على أرض فلسطين كاملة واستيعاب من تبقى من الأقلية الفلسطينية داخل الدولة بشكل مرحلي مثلما حدث مع فلسطيني 1948. 

يعزز هذه الخطة التحولات الحادثة على المستوى الإقليمي والتي أدت إلى إعادة رسم التحالفات في المنطقة على نحو يمنح إسرائيل وقوتها العسكرية دوراً أكبر في التحالفات الأمنية والعسكرية التي تشجعها وتدعمها الولايات المتحدة على النحو الذي رأيناه في حالة الاتفاقيات الإبراهيمية التي أبرمتها إسرائيل مع كل من الإمارات والبحرين والمغرب كمرحلة أولى، والتي وفرت صيغة أخرى مغايرة لصيغة اتفاقيات السلام التي أبرمتها مع كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي قامت على أساس مبادلة الأرض بالسلام. الذي يطرحه اليمين الصهيوني في الاتفاقات الإبراهيمية هو صيغة "السلام مقابل السلام" التي لا تربط الدخول في علاقات تطبيع مع إسرائيل بتحقيق أي تقدم في حل القضية الفلسطينية أو حتى حصول الفلسطينيين على مزيد من المكاسب في المقابل. 

لقد نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل عبر هذه الاتفاقيات في استغلال المخاطر التي تشكلها إيران على دول الخليج وعلى دول عربية أخرى لإعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية وبناء تحالف أمني واقتصادي واستراتيجي في مواجهة أي مخاطر محتملة قد تنشأ عن أي تغيرات قد تحدث داخل الدول العربية. وقد منحت هذه التحولات قوى اليمين الإسرائيلي هامشاً أكبر للمناورة وحرية حركة أكبر في مواجهة أي تهديدات مرتبطة بالقضية الفلسطينية، وأدى ذلك إلى إضعاف أكبر للسلطة الفلسطينية وتعظيم لقدرة فصائل المقاومة ذات الطابع الديني الإسلامي على نحو يبرر الرد الإسرائيلي بالقوة الساحقة، بما يسمح لها بشن حرب ممنهجة لتحقيق غايات أبعد من تدمير القدرة العسكرية لفصائل المقاومة، تتمثل في تصفية القضية الفلسطينية، مع تأطير هذه الحرب كنزاع مسلح داخلي.

حروب التهجير والإبادة

الحرب الراهنة في غزة، والحروب الستة السابقة عليها منذ عام 2006، تطبيق مباشر لحكمة صينية تقول "عندما تكون قوياً انقض من أعلى مثل (طائر) العقاب، وعندما تكون ضعيفاً احفر عميقا في باطن الأرض". لقد كانت الأنفاق التي حفرتها سلطة حماس في غزة أداتهم الرئيسية لكسر الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع، في البداية، ثم تحولت مع اكتشاف مزاياها العسكرية إلى ركيزة أساسية لخططهم العسكرية إلى جانب الصواريخ والعمليات النوعية في الداخل، والتي تصنف غالباً ضمن التكتيكات الإرهابية. والإرهاب أحد التكتيكات العسكرية التي تلجأ إليها الأطراف المتحاربة، بغض النظر عن أي أحكام أخلاقية أو قيمية. فقد وثقت دراسة ألمانية، كما أشرنا في مقال سابق إلى الدور الذي لعبه هذا التكتيك في تحقيق المشروع الصهيوني في مراحله المختلفة، ولا يزال أحد التكتيكات الأثيرة في الحروب السرية التي تشنها أجهزة المخابرات حول العالم. ولا تزال إسرائيل تمارس صورا مختلفة من "إرهاب الدولة" المنظم لترويع الفلسطينيين واستهداف عناصر المقاومة في أي مكان في العالم عبر الاغتيالات المدبرة، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى. في المقابل، تلجأ المقاومة الفلسطينية والدول المعادية إسرائيل إلى مثل هذا التكتيك، ومؤخراً أصدرت الحكومة الإسرائيلية قائمة تضم دولاً غربية وأفريقية وآسيوية وفي أمريكا الجنوبية، حذرت مواطنيها اليهود من الذهاب إليها نظراً لوجود مخاطر كبيرة لاستهدافهم عبر شبكات تدعمها إيران أو جماعات مناصرة للفلسطينيين، انتقاماً للمجازر التي يرتكبها الجيش في قطاع غزة، في سياق الحرب غير المتكافئة ضد فصائل المقاومة الفلسطينية. 

وتتكبد إسرائيل خسائر بشرية مثل الخسائر التي يتكبدها الفلسطينيون في قطاع غزة، لكنها أقل بكثير من حيث فداحتها، إذ تشير تقديرات رسمية فلسطينية وإسرائيلية إلى ما يقرب من 16 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى، وإلى تدمير أكثر من 60 في المئة من المباني في القطاع، وتسوية أحياء سكنية بالكامل بالأرض، وترى المقاومة الفلسطينية في هذه الخسائر ثمن يقبله الشعب الفلسطيني من أجل الحصول على حقوقه العادلة والمشروعة، إلا أن لدى المقاومة أيضاً أهدافا محددة سعت لتحقيقها من خلال الهجوم الذي شنته على بلدات ومستوطنات في منطقة غلاف غزة في السابع من أكتوبر ومن خلال المواجهات العسكرية التي ترتبت عليه، تتمثل في مبادلة الإسرائيليين الذين احتجزتهم كرهائن بسجناء فلسطينيين، وهو ما سمح بالتوصل إلى هدنة مؤقتة استمرت ستة أيام، تم خلالها تبادل الأسرى وفق اتفاقيات تم التوصل إليها بوساطة مصرية وقطرية، ودخول مساعدات إنسانية للفلسطينيين في القطاع. ومن الأهداف أيضا قتل عدد من الجنود والضباط الإسرائيليين في غزة ومحاولة إلحاق أضرار بأهداف في مدن وبلدات إسرائيلية عبر هجمات صاروخية. وتراهن المقاومة الفلسطينية في غزة على ما يبدو على توسيع نطاق الحرب مع دخول حزب الله والحوثيين على خط المواجهة مع إسرائيل، فيما تحرص إسرائيل والقوى الداعمة لها على تجنب مثل هذا التصعيد، رغم هجمات حزب الله والحوثيين، من أجل التركيز على الأهداف التي تسعى لتحقيقها في غزة.

إلى جانب توجيه ضربة مؤثرة لفصائل المقاومة الفلسطينية، تسعى إسرائيل إلى تحقيق ما يمكن تحقيقه من أهداف في حربها غير المسبوقة، سعياً للاستفادة من الفرصة السانحة التي يوفرها مستوى غير مسبوق من الدعم الدولي، في ظل محدودية ضغوط الرأي العام الدولي والداخلي على الرغم من الكارثة الإنسانية والمعاناة غير المسبوقة للمدنيين الفلسطينيين في غزة. الهدف البعيد المدى الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه، والذي تقترب من تحقيقه كلما طال أمد الحرب، هو تهجير أكبر عدد من الفلسطينيين من القطاع عبر الحدود إلى مصر، رغم وضوح الموقف المصري والموقف الأمريكي والدولي الرافض للتهجير. وتشير تصريحات كبار المسؤولين في إسرائيل وفي مقدمتهم نتنياهو إلى رغبة في إطالة أمد الحرب بعد أن أصبحوا في موقف أفضل بعد استئناف العمليات الحربية يوم الجمعة استنادا إلى تفوق ميداني أتاحته، على ما يبدو، المعلومات التي حصلوا عليها من بعض الرهائن الذين أفرج عنهم، والتي مكنتهم من التعرف على مواقع مداخل ومخارج الأنفاق والوصول إلى بعض المواقع الحساسة العسكرية لحماس وتدميرها في عمليات جوية وبحرية وبرية. ويغريهم التقدم الذي حققوه على الأرض وقدرتهم على توجيه المدنيين حيثما أراد القادة العسكريون في الميدان بتوسيع نطاق الحرب جنوباً، ويسابقون الزمن لتحقيق أهدافهم قبل تصاعد الضغط الدولي والإقليمي عليهم. 

إلى جانب هذا الهدف البعيد، تسعى إسرائيل إلى تحقيق حزمة من الأهداف الأخرى عبر العمليات العسكرية تتمثل في تدمير القدرات العسكرية لحماس ولفصائل المقاومة الأخرى على نحو يضعف من قدرتهم على شن هجمات مؤثرة، وتدمير البنية التحتية للقطاع على نحو يحوله إلى خرائب غير صالحة للسكن والحياة ويرفع تكلفة إعادة الإعمار بما يمنح الأطراف التي ستنخرط في هذه العملية نفوذا أكبر على سلطة حماس إذا تعذر التخلص منها كطرف يدير القطاع، وفرض منطقة أمنية أوسع على الحدود مع القطاع والضغط من أجل عدم إعمار شمال القطاع. وبالنظر إلى بنك الأهداف الذي حققته القوات الإسرائيلية في قطاع غزة إلى الآن وإلى عملياتها العسكرية الممنهجة في الضفة الغربية يزيد من هامش المناورة الذي تتمتع به الحكومة الإسرائيلية الحالية أو أي حكومة قادمة في مواجهة الفلسطينيين وكذلك في مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية عليها. وبالنظر إلى استجابة المجتمع الدولي إلى الأوضاع البائسة التي يعاني منها الفلسطينيون في غزة بسبب الحصار الشامل الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي، يضيق هامش المناورة أمام قيادات حماس وقيادات الفصائل ولم يعد أمام المقاتلين سوى الصمود في مواجهة القوات الإسرائيلية حتى آخر طلقة، في ظل تدهور متزايد في ميزان القوة بين الجانبين المختل أساساً. كما يضيق هامش المناورة أيضاً أمام السلطة الفلسطينية، لا سيما في ظل انقسام فلسطيني من المستبعد أن تضع الحرب حداً له، ومن المستبعد أيضا أن تبادر قيادة حماس التي تحظى بدعم قطري وإيراني لإنهائه لأن في ذلك إعلاناً لهزيمتهم.

إن الحرب الراهنة في غزة تكشف عن مفاهيم جديدة وتختبر مفاهيم أخرى يجري تطويرها في الجيوش، منها مفهوم الحرب الطويلة الذي جرى تطويره في سياق التفكير الاستراتيجي الأمريكي، وتختبر أيضاً التكتيكات والاستراتيجيات التي جرى اتباعها في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وفي سوريا والتي استخدمت فيها نظريات الحرب الشاملة وحرب الإبادة على النحو الذي شهدناه في مدن مثل حلب والرقة في سوريا، والموصل في العراق. ومن هذه المفاهيم أيضا الحرب الممتدة وتطوير أساليب لمواجهة الأشكال المختلفة من الحروب وفي مقدمتها حروب الأنفاق الذي لا تزال أحد التحديات الأساسية التي تواجهها الجيوش الأقوى في ميادين القتال.

يبقى السؤال المطروح فلسطينيا، ما هي البدائل المتاحة للطرف الفلسطيني بفصائله المختلفة، أو تلك التي يمكن تطويرها للحيلولة دون تصفية القضية الفلسطينية؟ وعربياً ما هي البدائل أمام الأطراف العربية التي من المؤكد أنها ستتأثر نتيجة للحرب الراهنة في غزة، وماذا يمكن لهذه الأطراف عمله كي لا تتمكن إسرائيل من تحقيق هدفها النهائي الخاص بتصفية القضية عبر حروب التهجير والإبادة والتعرض لنكبة ثالثة في صراعهم مع إسرائيل؟ وكيف يمكن للطرفين الفلسطيني والعربي التصدي لمشروع الدولة الإسرائيلية الواحدة التي يسعى المستوطنون ومعسكر اليمين الصهيوني إلى فرضه؟
-----------------------------
بقلم: أشرف راضي


مقالات سابقة للكاتب عن حرب غزة

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

حرب غزة 2023 وتحولات البيئة الدولية للصراع

حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

حرب غزة 2023.. التفاعل المتسلسل الذي أوصلنا لهذا الوضع وكيف ننهيه

حرب غزة 2023.. في مواجهة الرسائل الخطيرة من قلب المعركة

حرب غزة 2023.. الحرب امتداد للسياسة إلا في غزة


   

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023 | هل تغامر إسرائيل بفتح جبهة حرب جديدة في لبنان؟





اعلان