30 - 06 - 2024

سعد عبدالرحمن .. سيرة ومسيرة

سعد عبدالرحمن .. سيرة ومسيرة

عرفت أستاذنا الشاعر سعد عبد الرحمن رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة الأسبق، منذ حوالي عشرين عاماً عندما ذهبت إليه أول مرة إلى مكتبه بديوان هيئة قصور الثقافة وكان يعمل وقتها مدير الإدارة العامة للثقافة العامة، ذهبت برسالة من صديقي الموسيقار المنياوي حسن الدمشاوي، ثم التقيته بعد أيام بمؤتمر أدبي لإقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي الذي عقد في مدينة الغردقة في شتاء عام 2006، وفي هذا المؤتمر عرفته عن قرب، وظللت أتجاذب معه الحديث كل يوم خلال أيام المؤتمر، ثم التقيته كثيراً بعد وكنت عندما أزور مدينة القاهرة أذهب إليه في مكتبه وحتى خروجه إلى المعاش في عام 2014،  ولم تتوقف الاتصالات واللقاءات بيني وبينه، والتقيته في القاهرة وأسوان وأسيوط وسوهاج والمنيا والغردقة، وآخرها في معرض الكتاب عام 2020، وخصني بالعديد من الذكريات سأدونها في القريب العاجل. وهذا المقال مستقى من حوارتي معه.  

كان سعد عبد الرحمن عاشقاً لتراب مصر ولديه انتماء عجيب بدوائره المختلفة؛ بداية من المكان الصغير الذي ولد فيه محافظة أسيوط حيث ولد في إحدى قراها، ثم انتقل إلى المدينة ليعيش فيها معظم سنوات عمره قبل أن ينتقل إلى القاهرة ويستقر فيها في العقدين الأخيرين من عمره.. وقد عشق مدينة أسيوط وبحث عن جذورها وتاريخها وعبقرية مكانها وزمانها، وصار يجمع كل ما كتب عنها قديماً وحديثاً في الكتب والمجلات والصحف .. يجمع الشذرات حتى توفر له زاد وفير، ولم تنقطع صلته بأسيوط حتى النهاية، وقد أعاد طبع كتاب "مدينة أسيوط – بحث في بيئتها بين الماضي والحاضر" لعثمان فيض الله الذي كان يعمل مدرساً للتاريخ بمدارس أسيوط، وقد ألف كتابه ونشره عام 1940، وله كتاب مهم عن أسيوط بعنوان "في مديح الهامش- أسيوط نموذجاً" يقول في مقدمته: "هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات والدراسات في مديح الهامش الذي يتمثل لدي في أسيوط، حيث ولدت وتربيت وتعلمت وعشت معظم سنى حياتي، ولا أقصد بمديحي أسيوط أن أخلع عليها من الصفات والسمات الحسنة ما ليس فيها أو أبالغ في تقدير مكانتها وأهميتها كما يفعل - مع الأسف – شعراء المديح العربي مع ممدوحيهم، وإنما قصدت بمديحي تسليط الضوء على جوانب مهمة من التاريخ الذي تتميز به أسيوط لا سيما تاريخها الثقافي".. ثم رأينا في الدائرة الأكبر وتتمثل في صعيد مصر وكان مهموماً به على مدار سنوات عمره، ومن خلال عمله في الثقافة الجماهيرية في إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي إلى أن وصل إلى منصب مدير عام الإقليم، وشارك بالجهود الخدمية والإبداعية في خدمة شعراء ومبدعي الصعيد، كما شارك في الندوات والمؤتمرات. 

    ولد سعد عبد الرحمن في قرية نجع سبع التابعة لمركز أسيوط في 3 يناير 1954, وانتقل مع والديه عام 1958 إلى قرية موشا جنوب مدينة أسيوط؛ حيث حصل على الشهادتين الابتدائية والإعدادية ليلتحق بعد ذلك بمدرسة ناصر الثانوية بأسيوط، ثم كلية التربية بجامعة أسيوط التي تخرج فيها عام 1979، وفي الجامعة تفتحت مداركه أكثر وزامل فيها رفاق دربه أمثال: مصطفى رجب، وحسن الدمشاوي، وعزت الطيري، وأحمد محمد أحمد، وطارق الناظر، وعبد الرحمن محروس، وغيرهم.. وكانوا يعقدون الندوات ويستقدمون الشعراء الكبار من العاصمة القاهرة من أمثال: محمود حسن إسماعيل، ومحمد عبد المنعم خفاجي، وكيلاني حسن سند، وفوزي العنتيل، وأحمد محمد العزب، وأحمد سويلم، وفاروق جويدة، وعبد المنعم الأنصاري..  وكان محط إعجاب أساتذته أمثال: الدكتور أحمد السعدني، والدكتور عبد الحميد إبراهيم، والدكتور عبد الخالق محمود، والدكتور رجاء عيد، والدكتور علي البطل، وغيرهم... 

   وعندما استقر سعد عبد الرحمن في أسيوط عاصمة الصعيد استفاد من الروافد الثقافية المنتشرة بالمدينة، ومن أشهرها مكتبة الأمير فاروق التي كانت تضم نفائس ونوادر الكتب في كافة صنوف المعرفة، وظل يتردد عليها حتى نهاية عمره، ومن هذه المكتبة أخذ العديد من الكتب النادرة ونشرها في سلاسل الهيئة العامة لقصور الثقافة عندما كان أميناً عاماً للنشر ورئيساً للإدارة المركزية للشئون الثقافية، وقرأ فيها الأمالي للقالي، والكشكول للعاملي، والعمدة لابن رشيق، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وتجريده لابن منظور، ودواوين الشعراء في كل العصور. كما كان حريصاً على متابعة الصحف والمجلات الأدبية مثل: مجلة الهلال، ومجلة الثقافة، والسلاسل المشهورة مثل: روائع الأدب العالمي، وكتابك، وروايات عالمية، والمختار، وروايات الهلال، وكتاب الهلال، وسلسلة اقرأ، وأعلام العرب، والمكتبة الثقافية، وتراث الإنسانية، والمكتبة العربية، وعالم الفكر وعالم المعرفة الكويتية، وغيرها.. 

وفي الجامعة عرف سعد عبد الرحمن طريقه إلى النشر في المجلات الشهيرة مثل: الكاتب، والثقافة، والهلال التي ظل يمدها بالمقالات حتى آخر حياته، ثم مجلة الثقافة الجديدة، وأدب ونقد، والأهرام، والمساء، كما نشر العديد من المقالات والقصائد الشعرية في الصحف والمجلات العربية وخصوصاً في دولة الإمارات التي مكث بها سبع سنوات، في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد، والوحدة، والبيان، والخليج، كما شارك مشاركة فعالة في فرع اتحاد كتاب الإمارات بمدينة أبوظبي، مع العديد من الأدباء هناك أمثال: مانع سعيد العتيبة، وعارف الخاجة، وعلي أبو الريش وناصر الظاهري، وجعفر الحمودي.. 

   وقد عمل الأستاذ سعد عبد الرحمن فور تخرجه بالثقافة الجماهيرية بقصر ثقافة أسيوط تخللتها فترة قصيرة عمل فيها مدرساً بدولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة من عام 1984-1991، ثم عاد إلى بيته هيئة قصور الثقافة، وتدرج في الوظائف حتى عُيِّن أميناً لإقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي، ثم انتقل للعمل في ديوان الهيئة بالقاهرة مديراً للإدارة العامة للثقافة العامة، ثم رئيساً للإدارة المركزية للثقافة وأمين عام النشر، وعقب ثورة يناير تولى رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة في مارس 2011 كأحد القلائل من أبناء الهيئة الذي تولى رئاستها، وظل بالمنصب حتى أحيل إلى سن المعاش في بداية عام 2014، وتولى أيضاً إلى جانب رئاسته للهيئة رئاسة مجلس إدارة جريدة القاهرة من (2012-2014)، كما كان عضواً بلجنة التفرغ بالمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من (2014-2019). 

   شارك سعد عبد الرحمن في تأسيس نادي أدب أسيوط عام 1976، مع الأدباء أمثال: إسماعيل كيلاني، ومصطفى رجب، وعزت الطيري، ومحمد داوود، وطارق الناظر، وعبد الحليم الجمال، وانضم إليهم بعد ذلك شوقي أبو ناجي، ودرويش الأسيوطي. كما ساهم في زرع أندية الأدب في أبو تيج والقوصية وساحل سليم والغنايم... 

   وقد غزت ربة الشعر سعد عبد الرحمن منذ صباه الباكر، وقد كتب الشعر منذ المرحلة الإعدادية، وكان يحبه ويتذوقه ويحفظ الكثير منه لكبار الشعراء في القديم الحديث، ويذكر أنه عندما استشهد الفريق أول عبد المنعم رياض في 19 مارس 1969 وكان حيئذ في الصف الثالث الإعدادي وتأثر كثيراً بالحدث وترجم هذا الشعور إلى أبيات شعرية وأعجب بها مدرس اللغة العربية، ويقول عن هذه التجربة "إنها كانت ليس علاقة بالشعر سوى القافية"، وفي المرحلة الثانوية بدأ يكتب شعراً موزوناً حاكى فيه بعض القصائد الشهيرة لشعراء سابقين، وعندما توفي الزعيم جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، نظم قصيدة في رثائه.

   وقد صقل سعد عبد الرحمن موهبته الشعرية بالاطلاع الغزير على التراث العربي؛ حيث كان قارئاً نهماً، وكانت غاية سعادته إذا اقتنى كتاباً وظلت هذه العادة تلاحقه حتى الرحيل، وكم كان يتصل بي باستمرار ليسألني عن الكتاب الفلاني النادر، ويحثني على البحث عنه وتصويره، وكان يمتلك مكتبة ضخمة في بيته بحدائق الأهرام بالجيزة وفي بيته الآخر بمدينة أسيوط، وكان أسعد لحظات حياته حينما يجلس بين دواليب مكتبته العامرة بصنوف الكتب، كما أطلع سعد عبد الرحمن على إنتاج أدباء العرب المحدثين وأعجب بعباس العقاد وطه حسين ووفق بين المدرستين، كما أعجب بالشعراء الكبار أمثال: شوقي وحافظ وعبد المطلب والبارودي ومطران، ورواد المدرسة الرومانسية، وشعراء مدرسة الشعر الحديث في مصر والعالم العربي.. وقد تنوعت أغراض الشعر لديه، وخلف العديد من الدواوين منها "حدائق الجمر"، و"النفخ في الرماد" و"المجد للشهداء. و"نزيف الكمان"،كما كان أحد شعراء معجم البابطين.

   وبالإضافة إلى دواوينه الشعرية أمد الشاعر سعد عبد الرحمن المكتبة العربية  بالعديد من الكتب النقدية والفكرية والتي تناولت قراءات لأعمال المبدعين المصريين والعرب، وله كتابات عن التعليم وعن رموز النهضة المصرية أمثال طه حسين والعقاد، ومن كتبه نذكر: "التعليم المصري في نصف قرن"، و"في مديح الهامش- أسيوط نموذجاً"، و"التحديق في الظلال – حفريات في زوايا أدبية مهملة"، و"تأملات في الجهل"، و"قليلاً من الأدب- قراءات وتأملات".. كما حقق وأعد العديد من الكتب والدواوين الشعرية منها: "مقالات قصر الدوبارة" للشيخ علي يوسف"، و"التعليم المصري في نصف قرن" للشيخ أحمد محمد إسماعيل الأمير، كما جمع ونشر الأعمال الشعرية لرواد الشعر في صعيد مصر أمثال: عثمان الصمدي، وعبدالحفيظ النسر وديوانه "هكذا غنى النسر"، وسيد النخيلي وديوانه "ألحان سائرة"، وأحمد منصور وديوانه "قطوف الإيمان"، وأحمد الخياط وديوانه "دموع وشموع"، وكان أخر ما صدر له كتاب "الموسيقى والغناء في حياة العقاد وفكره". 

 وكان الأستاذ سعد عبد الرحمن عضواً بالعديد من الهيئات الثقافية مثل: اتحاد كتاب مصر، والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وكان ممثلاً لوزارة الثقافة في مؤسسة الثقافة العمالية، وممثلا لهيئة قصور الثقافة في لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة كما ترأس تحرير سلسلة "الأعمال الكاملة" بالهيئة، ورئيس مجلس إدارة جمعية رواد قصر الثقافة، وأشرف علي تنفيذ وتخطيط أكثر من خمسين فاعلية ثقافية، كما اختير أميناً عاماً لمؤتمر أدباء مصر بدورته العشرين، وعضو أمانة مؤتمر أدباء مصر لعدة دورات متتالية .. ونال من مظاهر التكريم فقد حصل خلال مشواره على العديد من الجوائز منها جائزة يوسف السباعي في القصة القصيرة بعام 1975 وجائزة عيد الفن والثقافة الأول في عام 1979 وجائزة أفضل دراسة نقدية.

وقد رحل سعد عبد الرحمن فجأة صباح يوم السبت 25 فبراير 2023، إثر أزمة قلبية، وتم تشييع جنازته في مدينة أسيوط في جنازة حافلة حضرها كبار المسئولين بهيئة قصور الثقافة وأدباء الصعيد وعدد كبير من أدباء القاهرة وقد رافقوا جثمانه في رحلة استغرقت أكثر من ثمانية ساعات، ودفن في مقابر الأسرة غرب مدينة أسيوط. وقد رثاه محبيه في مصر والدول العربية على صفحات الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي.  

رحم الله أستاذنا الحبيب سعد عبد الرحمن وأدخله فسيح جناته.
----------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال* 
*كاتب ومؤرخ مصري. 

مقالات اخرى للكاتب

سعد عبدالرحمن .. سيرة ومسيرة





اعلان