28 - 09 - 2024

الوعي الطريق الوعر للسلام

الوعي الطريق الوعر للسلام

السلام هدف ولا شك نبيل، ولا يوجد أفضل من أن تعيش الشعوب والجماعات جميعها في سلام. 

والسلام هو سلام الجماعة المدنية التي لا يخرج عنها أحد؛ ويعني أن تكون الجماعة المدنية في حالة من عدم الحرب والعنف والاعتداءات بكافة صورها، وفيها يُحفظ المدنيون من أي أذى كان؛ سواء كان هذا على شاكلة فِعْل مفضوح أو خفي، وعليها تكون هذه الجماعة أيضًا محفوظة من الجوع والعطش والتجهيل والحرمان من مقدرات حياتها اليومية؛ حيث إن هذه العوامل الأخيرة تُشَكِّلُ عنفًا مخفيًّا لا ظاهرًا، كعنف الحروب، لكنها تساويها في الفعل المجرم نفسه.

والطريق الأكثر وعورة للسلام هو ذلك الذي يسد الطريق على مسيرة الحروب والعنف، وذلك لا يكون إلا ببناء الوعي، والأخير لا يكون إلا بالتنوير؛ والتنوير هو إتاحة المعلومة الصحيحة في الوقت الصحيح على أن تكون هذه بسيطة وسهلة لا بواسطة جُمل الفلاسفة المُوشاة بالطلاسم والتي تحتاج منا إلى قواميس اللغة لحل ألغازها، ومعها يكون الوقت قد سُرق منا، ولا تعد تلك نافعة.

ومع تراكم المعلومة تلو المعلومة نصل إلى تشكيل ذلك الوعي المرجو، وهو حصيلة كل ما نتلقاه من معلومات تقينا من شرور، وتدلنا على الطريق الأقصر لسعادتنا والأجيال القادمة.  

والطريق الأسهل للسلام هو الطريق الذي تتولاه حكومات الدول الممثِّلة للشعوب بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للكيانات المؤتلفة في شكل دول كما هو معترف به منذ عرفت الأفراد طريقها إلى تشكيل الجماعة، والجماعات طريقها إلى التوحد في كيان أسميناه الدولة، على مختلف سُبل إدارتها الديمقراطي أو الشمولي ـ المدني أو العسكري سيان ـ لكنها الدولة التي تُعتبر الكيان الوحيد الممثِّل لكل مجموع أفراده بالتمثيل أو بالتكليف، أو بما شاءت من الطرق، وهي التي لا تستطيع أن تؤدي وظائفها الكاملة دون مساعدة من أفرادها وجماعاتها، أو ما سُمي بالمنظمات غير الحكومية، أو حتى بجهود أفرادها المرموقين والمميزين بينها؛ فالكاتب والشاعر والرسام والفنان والمغني ـ وهم ما يمكن أن نُطلق عليهم بالقوة الناعمة ـ يمكنهم أن يُثروا الجهد الرسمي بعمق شديد هو التنوير المقصود الذي يمكن أن يصل إلى رجل الشارع دون عوائق كبيرة. 

ولك أن تتخيل كيف تسري أغنية أو بيت من الشعر أو حكمة أو نكتة إلى سماع الأفراد قبل قلوبهم، ولكن بترديدهم لها يبرزون تضامنًا ما مع مفهومها (وبذا تكون قد وصلت للقلوب).

وسواء كان هذا المفهوم إيجابيًّا أو سلبيًا فالرسالة قد وصلت، ولأنها قد وصلت فنحن نريد أن نفهم كيف ننشر ـ وبواسطة نفس الطرق ـ لكل ما نريد عملًا على الوصول إلى ثقافة السلام.

ومما هو مرغوب في الوصول إليه لنشر ثقافة السلام هو الحكمة القائلة بأن الثقافة يجب أن تكون غير متحيزة إلا للسلام، وحب الانسان لخير وطمأنينة أخيه الانسان؛ لأن السلام ـ خاصة عندما يكون شاملًا وعادلًا ـ يفتح حدود القلوب مهما كانت الحدود الطبيعية مغلقة ومدججة بالسلاح، خاصة وأن العالم اليوم قد أصبح ساحة افتراضية واحدة يمكننا عن طريقها الوصول إلى أقاصي العالم بضغطة زر على هاتف أو جهاز حاسوب، فينتقل الحس والشعور منا إليهم ومنهم إلينا، وعليها أصبحنا جميعًا فاعلين لا مشاهدين فقط، وهذا هو المهم في عالَم اليوم. 

والثقافة المتحيزة هي ثقافة مصطنعة ومتخيلة ومرسومة لتفرقة البشر عن بعضها البعض، والبشر هم الأفراد، والأفراد هم الجماعات، والجماعات هي أركان الدول الأساسية، فإذا شكَّلت الثقافة عنصرًا للفُرقة بينهم تربص هذا بذلك، وهذه بتلك، في فوضى لا نهاية لها، وتكون بذلك نهاية السلام المجتمعي، بل وسلام العالَم. 

ولكن الثقافة المرغوبة هنا هي تلك التي تنبع من طموحات وأماني أفرادها، وتُوَائِمُ قدراتهم ولا تتخطاها حتى لا تقع في صراع مع فصيل داخلها، أو جار لها له ثقافة مماثلة وطموحات وأماني يراها هو أيضًا مشروعة وعادلة كما يرى الآخر ذلك تمامًا. 

ولنا هنا مثال على تلك الثقافة المتحيزة في فاشيات القرن العشرين، وهي التي كانت الأكثر تدميرًا ليس لشعوبها فقط، بل ولملايين من الأبرياء على الساحة العالمية، ووصل صراعها حتى إلى بلادنا، وترك لنا ملايين من الألغام النائمة في صحرائنا، وهي التي ما زالت تقتل أهلنا حتى اليوم. 

والدرس المستفاد من ألمانيا النازية لهو وبحق درس في خَلْق وابتداع ثقافة متحيزة أدت ـ من ضمن ما أدت ـ إلى إلغاء الآخر، الغريب عن هذه الثقافة أولًا، ثم الألماني الذي لم يشارك في قبول هذا الثقافة لنفسه ثانيًا، ثم تحولت لتفرض طموحاتها على العالم المحيط تمهيدًا لفرض سيادتها على العالم أجمع ثالثًا.

وبهذه الثقافة المتحيزة أصبحت «ألمانيا فوق الجميع» كفكرة أيديولوجية تشمل البشر والأرض، وهذا ما كان ليتفق وطموحات الشعب الألماني المثقف بطبيعته، ولكن هذا الفريق السياسي الذي فرض هذه الثقافة اعتنق شكلًا من أشكال الداروينية الاجتماعية (القائلة بأن الألماني هو أفضل ما أخرج التطور الإنساني عبر التاريخ، وأنه يجب التخلص من كل ما يلوث المجتمع الألماني الآري من أفكار وبشر بدأها باليهود، ثم بالألمان المعارضين له، حتى وصل تطبيقه لها على العجزة وذوي القدرات الجسمية والعقلية المحدودة، والتي لا تتفق وصفات الرجل الألماني الموضوعة من طرف النظام الفاشي)، وعليه فقد طبَّقها كما وضع لنفسه، ولكن بتقديرات خاطئة منه؛ حيث إنه لم يكن يملك الإمكانيات التي تمكِّنه من هزيمة العالم أجمع فكانت هزيمته وزواله وزوال الفكرة أيضًا. 

والدرس الثاني هو الدرس الإسرائيلي-الفلسطيني؛ فإسرائيل هي مجتمع مُتخيل بُني على ثقافة متحيزة تقول بعودة اليهود إلى وطن الآباء بعد ألفي عام من مغادرتهم له، وكان ذلك على شكل طموحات ومساعي حثيثة من طرف الصهاينة الأوائل في بناء وطن قومي لليهود على أرض افترضوا أن تكون بلا شعب، وسمحوا بها لأنفسهم بصفتهم شعب بلا أرض، وفي معادلة بلا شك صفرية؛ بمعنى الكسب الكلي أو الخسارة الكلية، فللحصول على هذه الأرض وجب إخلاؤها لتكون لهم هم وحرمان الآخرين منها؛ حيث إنها تخصهم هم فقط لا الآخرين. 

ومن هنا أيضًا كان حل هؤلاء الصهاينة المتخيل لمشكلتهم اليهودية قد تسبب في خَلْق مشاكل ليس فقط لهؤلاء اليهود العائدين، بل ولكل شعوب المنطقة، وخاصة الشعب الفلسطيني الذي عانى الأمرَّين منذ بداية هذا الصراع وحتى اليوم. 

ولكن مشكلة تصادم طموحات الشعوب التي تُصمم مخلوطة بمبالغة في القدرات الذاتية مع طموحات شعوب أخرى مخلوطة بالتقليل من قدراتها هو ما يجعل من الصراع مبرمجًا ولمدد طويلة كما نعاصر الآن؛ فلكي تطبق نظريات مجتمعك المفترض والمتخيل يجب أن تقضي على العدو الداخلي لك حتى يمكنك ـ وبقدراتك المهولة ـ أن تُقيم الأسوار كتمثيل لثقافة الفصل بين الـ(نَحْنُ) والـ(هُم)، وأنْ تنشئ حقولًا من الألغام الفاصلة أيضًا لتمنع حتى اجتياز هذه الأسوار، وأن تضع أبراجًا للرقابة الإلكترونية، وأعمدة للإنذار المبكر، وأن تسيِّر الدوريات والمُسَيَّرات، وأن تجهز الجيوش الراجلة والراكبة وتقيمها في مواضع لتقييد حركة الـ(هُمْ)، كل ذلك بالإضافة إلى السجون والمعتقلات وحتى القتل المدبَّر، لكنك بذلك تكون قد أغفلت الإنسان الذي يقوم ـ وفي كل مرة ـ من بين الركام صارخًا المرة بعد المرة أنه مصمم على الحياة.

هنا تكون مشكلة قيود الجسم ومنع ومراقبة الحركة والقتل المدبر محدودة المفعول؛ حيث إنها لا يمكن أن تشمل قيدًا على الخيال والحلم بالحرية. 

وأذكر أني قد قرأت في ثمانينات القرن الماضي حادثة طريفة لمهاجر فرنسي كان قد هاجر إلى إسرائيل، وأراد هذا المهاجر أن يتعرف على الأحزاب الكثيرة المتواجدة على الساحة السياسة آنذاك، فذهب إلى أحد ندوات أحد الأحزاب القومية الوطنية ـ أو هكذا كانت تسمي نفسها ـ وكان يحمل اسم (كاخ بالعبرية، أو هكذا بالعربية)، واستمع إلى محاضرة ذلك السياسي المتطرف المؤسس لهذا الحزب، والذي كان ينادي بطرد كل العرب من داخل الدولة، وكيف أنه أعد وسائل نقل كافية لنقل هؤلاء العرب ـ سكان الدولة ـ ليقنعهم أولًا، فإن لم يستجيبوا فإن عليه وعلى أنصاره استخدام القوة حتى يُلقي بهم إلى خارج الحدود لتفرغ الدولة منهم، وتصبح معها دولة يهودية خالصة. 

وبعد انتهاء المحاضر من محاضرته قام هذا المهاجر الجديد فطرح سؤالًا ساذجًا وبسيطًا في نفس الوقت عليه، وتعلق سؤاله بديمقراطية الدولة: «هل نحن الديمقراطيون نريد بالفعل التخلص من هؤلاء الذين يشاركوننا في كل شيء حتى الجنسية، ولكنهم يخالفوننا فقط فيما يتعلق بالهوية والمعتقد، أليس في فكرتك هذه شيء من الأفكار النازية الفاشية التي شردَّت وقتلت أهلنا اليهود في أوربا؟».

هنا انقسم جمهور الندوة إلى قسمين معارض وموافق، وأخذ كل منهما يصارع الآخر حتى جاءت الشرطة وفضت الجمع المتصارع. 

وبعدها قام أحد الصحافيين المتواجدين بإجراء حديث مع المهاجر الفرنسي وسأله: «لماذا فعلت ذلك؟»، فكان جوابه: «لأني في فرنسا تربيت على أن أكون ديمقراطيًّا، والديمقراطية لا تكون إلا بالوعي وبالرأي والرأي الآخر، وهذا هو رأيي الذي أردت أن أُسْمِعَهُ للحضور». 

ومما لا شك فيه أنه لولا وعي هذا الرجل المتأصل لكان ضحية لدعاية الـ(نحن)، فبالوعي يكون العقل، وما اللسان إلا ناقل لما يتضمنه العقل أو كما قال الشاعر العربي العباسي:

وَإِنَّ ‌اللِّسَانَ ‌دَلِيلُ ‌الْفُؤَادِ          يَدُلُّ الرِّجَالَ عَلَى عَقْلِهِ!
------------------------------
بقلم: د. عادل السيد

مقالات اخرى للكاتب

دروس من تاريخ الكفاح الإنساني