29 - 06 - 2024

مصر والقضية الفلسطينية بعد حرب غزة: "توسيع الخيارات وهامش المناورة".

مصر والقضية الفلسطينية بعد حرب غزة:

لا يمكن لمصر لاعتبارات جيو-استراتيجية وتاريخية وديموغرافية وثقافية أن تقف على الحياد فيما يحدث على حدودها الشرقية، فهي ملتزمة بحكم هذه الاعتبارات جميعا بأن تكون لاعباً رئيسياً في كل الأحوال. فعلى الرغم من اختيار مصر نهج التسوية السياسية والسلمية للصراع مع إسرائيلي في أعقاب حرب أكتوبر 1973، ومبادرة السلام، إلا أنها تدرك المخاطر الأمنية على مصالحها الاستراتيجية، واستمرار الصراع مع إسرائيل بسبب سياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وضد الشعوب العربية الأخرى، الأمر الذي عبرت عنه صيغة السلام البارد، وهي صيغة أقرب إلى حالة "اللاسلم واللاحرب"، وهي الصيغة التي تواجه تحديا منذ توقيع اتفاقيات السلام الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين والمغرب والتي تستهدف دولا عربية أخرى في مقدمتها السعودية، والالتزام بهذه الصيغة منع مصر من الالتحاق بشكل مباشر وعملي بمحور المقاومة الذي تتزعمه إيران، رغم علاقتها الخاصة بالوضع في قطاع غزة منذ الانتخابات التشريعية الفلسطينية في مطلع عام 2006، ودورها كوسيط في كل اتفاقات التهدئة التي تم توقيعها في أعقاب المواجهات الإسرائيلية-الفلسطينية المسلحة السابقة. لكن الحرب الأخيرة في غزة تطرح تحديات جسيمة أمام صانع القرار المصري بسبب التحولات الجيوسياسية المتوقع أن تسفر عنها التي يتعين على صانع القرار المصري أن يتعامل معها.  

يتطلب بحث الخيارات المطروحة أمام القيادة المصرية الوقوف على جملة من التغيرات والتحولات التي شهدتها البيئة الداخلية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني على الساحة الإسرائيلية وكذلك على الساحة الفلسطينية، وتلك التي حدثت على مستوى البيئة الإقليمية للصراع، وأخيراً التحولات في البيئة الدولية. وفي ضوء تلك التحولات نهتم ببحث الخيارات المتاحة أمام صانع القرار المصري على المدى القصير وعلى المدى المتوسط.

التحولات في البيئة الداخلية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

شهدت البيئة الداخلية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تحولات جذرية مهدت لهذه الحرب. 

إسرائيلياً، تمكنت الأحزاب الصهيونية اليمينية من إحكام قبضتها على السلطة في ظل تراجع ملحوظ لأحزاب اليسار والأحزاب العلمانية ومعسكر السلام وإحكام السيطرة السياسية على فلسطيني الداخل وتهميش تأثيرهم على السياسة الإسرائيلية من خلال الكنيست. بل شهد معسكر اليمين تحولات أكثر خطورة في ظل الانقسامات داخله بسبب الأزمة السياسية المترتبة على التحقيق مع زعيم الليكود بنيامين نتنياهو جرى التعبير عنه من خلال الحكومة الأخيرة التي ضمت أحزاباً دينية متطرفة وحركات سياسية متطرفة كانت محظورة في السابق ومستوطنين. هذه التركيبة لعبت دوراً كبيراً في إدارة العدوان على غزة وعلى الضفة الغربية وعلى تحقيق تصوراتها المتعلقة بفرض السيادة الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية بضم الأراضي المحتلة، والعمل على تهجير الفلسطينيين أو إخضاعهم، مستفيدين من تجربة تعزيز السلطة اليهودية على الفلسطينيين في حدود 1948.

فلسطينياً، استمر الانقسام الفلسطيني بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أحكمت سيطرتها على قطاع غزة وتحالفت مع فصائل المقاومة الفلسطينية التي تنطلق من أيديولوجية إسلامية، كحركة الجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة الأخرى، وبين السلطة الفلسطينية التي لا تزال خاضعة لهيمنة حركة فتح وبعض الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وفشلت جهود الوساطة المصرية والقطرية في إنهاء هذا الانقسام الذي استغلته إسرائيليا لتعطيل عملية السلام، الأمر الذي يدفع الفلسطينيين أكثر في تبني خيار المقاومة المسلحة باعتباره الخيار الوحيد للمقاومة ورفض نهج المقاومة السلمية والمفاوضات الذي تتمسك به السلطة الفلسطينية، وعمق هذا الخلاف في الرؤية والتوجه من حدة الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، الأمر الذي ساهم في إضعاف الموقف الفلسطيني، ومن المتوقع أن تزيد النتائج المترتبة على الحرب على غزة ضعف الموقف الفلسطيني، بعد الضربة القوية التي وجهتها إسرائيل للبنية التحتية لسلطة حماس في قطاع غزة والبنية والقدرات العسكرية للمقاومة، والسعي لتصفية الوجود الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية أو تقليصه تمهيدا لإخضاعه للسيطرة الإسرائيلية.

تطرح هذه التحولات الداخلية، على الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية، جملة من التساؤلات حول مستقبل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتأثير التحولات المنتظرة في المستقبل القريب والمتوسط على العلاقات الإقليمية والترتيبات المنتظرة في ضوء تبدل موازين القوى بين طرفي الصراع، وكذلك في ضوء التزام القوى الإقليمية بمناصرة الحقوق الفلسطينية ومواصلة الضغط على إسرائيل من أجل قبول تسوية منصفة للفلسطينيين، كشرط لتحقيق السلام. والسؤال الرئيسي يتعلق بتأثير هيمنة اليمين الصهيوني واليمين الديني وحركات المستوطنين وتصوراتهم الأيديولوجية على السياسية الإسرائيلية، وكذلك، كيف سيكون شكل الساحة السياسية الفلسطينية بعد انتهاء الحرب، وهل ستظل حماس بما تمثله من أفكار وأيديولوجيا لاعبا رئيسياً على الساحة الفلسطينية نظرا لما تتمتع به من شعبية كواحد من فصائل المقاومة الفلسطينية الرئيسية.   

التحولات في البيئة الإقليمية 

شهدت البيئة الإقليمية في العقد المنصرم تحولات مثيرة نتيجة للانتفاضات التي شهدتها عدة بلدان عربية رئيسية، في مقدمتها مصر، والتي امتدت من تونس إلى سوريا واليمن وليبيا والسودان، وكذلك نتيجة للأزمات السياسية المستحكمة في دول مثل العراق ولبنان. وشهدت البيئة أيضا تحولات سياسية مثيرة مع صعود نخب جديدة للسلطة في دول الخليج العربي الرئيسية، لاسيما السعودية والإمارات وقطر، وتعيد هذه النخب النظر في كثير من الثوابت التي حكمتها نظرتها السياسية، داخلياً وإقليمياً، مع تعزز موقفها الدولي نظراً لتحولات حادثة في البيئة الدولية، يعبر عنها الدور البارز الذي تلعبه السعودية في مجموعة العشرين، وهي إطار موسع لمجموعة السبع الكبار يضم أكبر 20 اقتصاداً في العالم. 

من جهة أخرى، أسفر العدوان الأمريكي على العراق عن تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال الحركات السياسية وفصائل المقاومة الشيعية والإسلامية، وانخراط إيران في سياسة نشطة مستغلة الأوضاع السياسية في العراق ولبنان وسوريا واليمن لتعزيز دور الفصائل الشيعية والتنسيق فيما بينها الأمر الذي أحدث انقساماً إقليمياً بين ما يعرف بقوى الاعتدال ممثلة في السعودية ودول الخليج العربية وفي مقدمتها الإمارات وقطر وبين ما يعرف باسم قوى التشدد التي تقودها إيران، وتعاظم دور الفصائل الشيعية المسلحة التي تخوض صراعات على عدة جبهات في المنطقة، إما لدعم الأنظمة المتحالفة مع إيران، في حالتي العراق وسوريا، أو من أجل السيطرة على السلطة كما في حالة اليمن. 

وتعزز الدور الإيراني وتعاظم في أعقاب توقيع الاتفاق النووي مع القوى العالمية الكبرى في عام 2014 الذي أحدث ردود أفعال ساهمت في إعادة رسم التحالفات الإقليمية، التي توزعت على محورين بالنظر إلى الموقف مع إسرائيل، هما ما يمكن نطلق "محور المقاومة" بزعامة إيران، و"محور التطبيع"، الذي تعمل الولايات المتحدة وإسرائيل على توسيعه وتعزيزه عبر سلسلة من الاتفاقيات لتطبيع علاقات إسرائيلي مع البلدان العربية وفق صيغة "السلام مقابل السلام"، كبديل لصيغة "الأرض مقابل السلام". 

تطرح هذه التحولات عددا من الأسئلة المتعلقة بمستقبل الوضع الفلسطيني وكيفية التعامل معه:

- هل تساهم هذه التحولات الإقليمية في تعزيز الوضع الفلسطيني أم تفرض قيودا متزايدة في ضوء ضعف الالتزام على المستوى العربي والإقليمي بدعم الصمود الفلسطيني والتراجع شيئا فشيئا عن صيغة حل الدولتين على أساس حدود عام 1967؟

- قد يكون من النتائج المترتبة على ذلك تصفية القضية الفلسطينية وفرض صيغة الدولة الإسرائيلية الواحدة، مما يعزز من قوة إسرائيل السياسية والاستراتيجية، لاسيما في ظل استمرار اتفاقيات التطبيع التي وقعتها وتوسيعها بضغوط أمريكية ودولية وتنفيذ برامج التعاون الإقليمي المقترحة مثل مشروع الممر الاقتصادي الهندي الذي طرح في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي، فهل سيعمل مثل هذا التطور الذي يبرز فيه الدور الإسرائيلي كلاعب إقليمي رئيسي في صالح مصر وسياساتها الإقليمية؟

- كيف سيكون رد الفعل الإيراني ورد فعل محور المقاومة؟

من المتوقع أن تزيد هذه السياسات الفجوة بين من يملكون وبين من لا يملكون على المستوى الإقليمي، فكيف سيكون رد فعل الدول التي سيجري تهميشها، لاسيما في ضوء الضغوط الداخلية المتزايدة نتيجة لهذه التحولات؟           

التحولات في البيئة الدولية وتأثيرها على حرب غزة والموقف من القضية الفلسطينية. 

شهدت البيئة الدولية منذ الحرب الأوكرانية (فبراير 2022) تحولات جذرية، لعل أبرزها تعزيز تماسك القوى الغربية تحت قيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي منح دوراً أكبر في توجيه السياسات الغربية في الوجهة التي تريدها لمواجهة السياسات الروسية والصينية والدعم غير المشروط لحلفائها في مواجهة أي تهديدات. كذلك، أدى ما يعرف بسياسات "الحرب على الإرهاب" التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، وكذلك الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تعاظم سياسة استخدام القوة المسلحة لتغيير الوضع، بل وسمحت باستخدام مفرط للقوة ينطوي على انتهاكات جسيمة للقواعد الدولية الحاكمة للحرب والتي توفر الحماية للمدنيين.   

من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ترى في الوضع الدولي الراهن ومستوى التأييد الذي تتمتع به من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي بشكل عام، في محاولة لتصفية القضية الفلسطينية من خلال الضغط لتهجير المدنيين في غزة وتصفية المقاومة الفلسطينية، وبمتابعة ما يجري في الضفة الغربية يشير إلى أن التخطيط الإسرائيلي يمتد إلى كل الأرض الفلسطينية تمهيداً لوضع أسس لحل الدولة الإسرائيلية الواحدة، الذي بدأ مناقشته علنا منذ عام 2014 (بداية ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب)، والذي يجري الآن طرح أشكال مختلفة لتطبيقه، رغم استمرار الحديث الدولي عن الالتزام بحل الدولتين.

تطرح هذه التحولات في الوضع الدولي عدد من الأسئلة: 

- هل الوضع الدولي يشكل قيوداً ضاغطة على الوضع الفلسطيني والعربي فقط أم أنه ينطوي على فرص يمكن تطويرها؟ 

- ما هي الشروط اللازمة لتطوير مثل هذه الفرص؟ 

- هل يمكن لمصر أن تلعب دوراً على المستوى الدولي لوضع حد للعدوان الإسرائيلي وتغيير الوضع الراهن؟ 

- النتائج المتوقعة المترتبة على الحرب في غزة

في ظل التحولات في البيئات الثلاث للصراع، الداخلية والإقليمية والدولية، من غير المتوقع أن تكون النتائج المترتبة على الحرب الراهنة على غزة في صالح القضية الفلسطينية، التي تواجه خطراً حقيقياً بتصفيتها لصالح فرض الرؤية الإسرائيلية لحل الدولة الواحدة واتباع نهج تدريجي لاستيعاب من يتبقى من الفلسطينيين عبر سياسات مماثلة لتلك السياسات التي اتبعتها مع الأقلية الفلسطينية التي بقيت على الأرض ضمن حدود ما بعد حرب 1948. ومن المرجح بدرجة كبيرة، أن يكون لهذه الحرب نتائج أبعد مدى على المستوى الإقليمي الأوسع على غرار ما حدث في أعقاب نكبة 1948، والتي شهدت تغير عدد من الأنظمة في العالم العربي عبر انقلابات عسكرية، في مصر وسوريا والعراق والسودان والجزائر وليبيا. 

أحد النتائج الرئيسية المتوقعة لهذه الحرب، هو صعود التيارات المتشددة على الساحة السياسية في البلدان العربية، بتشجيع من محور المقاومة. فمن المرجح أن تبرز قوى سياسية واجتماعية رافضة لنتائج الحرب في غزة وساعية لتغييرها، لاسيما إذا نجحت مساعي إسرائيل لتهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى الخارج من خلال تقديم حوافز لبعض الدول التي تقبل استضافتهم. لقد أوضحت مصر مراراً أن من شأن هذه المحاولات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية غير مقبولة وقد تنسف الأسس الذي قامت عليها عملية السلام في الشرق الأوسط. 

السؤال الآن، كيف يمكن لصانع القرار في مصر أن يواجه مثل هذه الخطط الإسرائيلية، خصوصا في ظل الموقف الدولي الملتبس، وفي ظل الوضع الإنساني المتردي في القطاع والذي يضيف إلى الضغوط التي تمارس على مصر ضغوطاً أخرى أخلاقية؟ وإلى أي مدى يشكل التخوف المتعلق بصعود التيارات المتشددة أحد العوامل التي تقلل من احتمال قبول الدول إعادة توطين الفلسطينيين؟

سيشكل فرض حل الدولة الواحدة بصيغته الإسرائيلية المطروحة الآن وبغض النظر على شكله، انتقال إسرائيل من دولة احتلال إلى دولة فصل عنصري على أساس ديني، وهو وضع مماثل لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا على أساس اللون، الأمر الذي سيكون له تأثير على تكييف الصراع مع الفلسطينيين من مقاومة للاحتلال إلى مقاومة للفصل العنصري داخل الدولة ويحول سياسات القمع الإسرائيلية ضدهم إلى شكل فرض النظام على جماعات متمردة داخل الدولة، السؤال الآن كيف يمكن التصدي لمثل هذا الاحتمال؟ كيف يمكن الحفاظ على الاعتراف الدولي الذي حصلت عليه منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وتوظيفه بما يخدم القضية الفلسطينية؟

وختاماً، ما هو الدور المنتظر من مصر في مثل هذه التحولات؟
---------------------------
بقلم: أشرف راضي   

مقالات سابقة للكاتب عن حرب غزة

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

حرب غزة 2023.. التفاعل المتسلسل الذي أوصلنا لهذا الوضع وكيف ننهيه

حرب غزة 2023.. في مواجهة الرسائل الخطيرة من قلب المعركة

حرب غزة 2023.. الحرب امتداد للسياسة إلا في غزة

حرب غزة 2023.. مفاهيم جديدة في الحرب من ميدان المعركة

حرب غزة 2023.. خيارات سعودية مصيرية

   

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023 | هل تغامر إسرائيل بفتح جبهة حرب جديدة في لبنان؟





اعلان