29 - 06 - 2024

القاهرة مؤرَّخة.. عمران المدينة عبر الزمن

القاهرة مؤرَّخة.. عمران المدينة عبر الزمن

صدر عن دار "العين" للنشر كتاب "القاهرة مؤرخة.. فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن"؛ تحرير وتقديم د. نزار الصياد. هذا الكتاب تجربة فريدة في مصر والمنطقة العربية، فدار النشر قدمت مع المحرر نموذجا على غرار ما تقوم به دور النشر الدولية، من حيث استكتاب عدد من الباحثين في كتاب من جزأين ليتناول كل باحث القاهرة من زاوية تخصصه. 

ومنذ أن أصدر المستشرق الفرنسي أندريه ريمون كتابه عن القاهرة في تسعينيات القرن العشرين، لم يصدر كتاب عنها بمثل هذا الشمول والتنوع، فمن باحثين في الآثار إلى مؤرخين إلى جغرافيين. والبعد الإنثربولوجي واضح في الكتاب، الذي يحتوي آراءً جديدة، وتحليلات غير مسبوقة. 

الدكتور نزار الصياد بخبرته تدارك الكثير من الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون حين يؤرخون للقاهرة منذ العصر الفاطمي. فالقاهرة هي تلك المدينة التي بدأت مع الفسطاط وتكوّرت عبر الزمن ليصبح لدينا مدينة ممتدة. 

لذا جاء الفصل الذي تناول الفسطاط مميزا. من حيث التناول قدم الباحث عبد الرحمن الطويل في هذا الفصل استكشافا للأسباب العسكرية والاجتماعية لتسوير المدينة. هذه النقطة استغرقت من الباحث الكثير من مساحة البحث، لكني أرى أن المدينة كانت معسكرا حربيا للقبائل والفرق العسكرية التي شاركت في فتح مصر. ظلت هذه القبائل لعقود وقود الجيوش الفاتحة لبلاد المغرب والأندلس، ثم تحولت لمدينة داخلية في عهد الدولة العباسية، وبالتالي لم تكن بحاجة إلى سور. هذا ما كان أيضا في البصرة والكوفة، على العكس من كل من بغداد والقاهرة. فكلاهما شيد كحصن حربي يضم مقر الحكم. 

لكن عبد الرحمن الطويل كان موفقا في تحديد حصن بابليون على جبل إسطبل عنتر وعلاقته مع قصر الشمع بالمدينة. 

النقطة الثانية التي أثارها الباحث هي الفسطاط وعلاقتها بنهر النيل بحيث صارت ميناءا تجاريا. وهو الدور الذي أتاح للفسطاط أهمية متزايدة على مر العصور. الباحث كان موفقا كذلك في طرح أن عدم تسوير الفسطاط أدى إلى اتساع الفسطاط حتى امتدت شمالا وجنوبا.

العاصمة الحصن

قدم الدكتور طارق سويلم رؤية شاملة لمدينة القطائع التي أسسها أحمد بن طولون لتكون مدينة ملكية، في المنطقة الواقعة بين جبل المقطم وشمال الفسطاط. صار لنا تصور كامل للميدان والقصر وتخطيطها ومرافقها، من خلال المصادر التاريخية. 

حدد لنا طارق سويلم موقع المقابر الطولونية وهذه أمر غير مسبوق. كما حدد الشارع الأعظم بالقطائع، وحدد أسواقها. هذا الفصل يعد اضافة للتأريخ للقاهرة وتطورها كعاصمة. 

قدم حسن حافظ قراءة جديدة لتاريخ القاهرة الفاطمية، لكنه أفرط في اضفاء صفة القداسة عليها بوصفها مركزا للمذهب الشيعي الإسماعيلي. لكن لابد عند الحديث عن عزلة الحصن عن العاصمة (الفسطاط) أن يعود المرء لاشتراط علماء السياسة الشرعية على الحكام أن يسكنوا في أطراف العاصمة هم وحاشيتهم. وهذا ما صاغ نموذج الحصن والعاصمة. أما قداسة القاهرة فهذا سبب آخر، أخذ يظهر تدريجيا في صورة حنين للطابع الشيعي لعاصمة الفاطميين. هذا ما نراه اليوم لدى طائفة البهرة. كان من الطبيعي أن تكون القاهرة في ظل الحكم الفاطمي مقرا للدعوة الإسماعيلية. لكن مع اتاحة القاهرة للمصريين صار السُنَّة داخل المدينة، وهنا لابد من طرح تساؤل: هل كان كل الجيش القادم مع جوهر الصقلي شيعيا إسماعيليا في ظل انتشار المذهب المالكي والأباضية في المغرب العربي، مع العلم أن الشيعة لم يتركوا أثرا يذكر اليوم في بلاد المغرب.

قاهرة المماليك والعثمانيين

قدمت أمنية عبدالبر دراسة عن بناء قاهرة المماليك. لقد أنشأ المماليك مدينة تعكس روح الجسارة والفخامة، وكانوا القوة المحركة وراء تطوير البيئة العمرانية بالمدينة، ومن خلال سيطرتهم على السياسة والاقتصاد، تحكموا في المشاريع المعمارية والبنية التحتية الحضرية، وبنهاية عهد السلطنة المملوكية في رأيها كانت القاهرة قد وصلت لأقصي حدودها، ثم ما لبثت أن انكمشت في القرون التالية. أكدت الباحثة أن كل المشاريع الإنشائية المملوكية جاءت نتيجة لمبادرات فردية كانت تطلقها النخبة السياسية والنخب المدنية. إن الملمح العام لهذه الدراسة ركّز بصورة أساسية على عمارة السلطة التي شكّلت وجه مدينة القاهرة في العصر المملوكي. 

 قدم الباحث معاذ لافي قراءة جديدة للقاهرة العثمانية، ببعد إنثربولوجي. كان منطلقه ربط السياسة والعمارة والمجتمع كتفاعل نتجت عنه رؤية للقاهرة العثمانية. لقد أصبحت القاهرة مدينة متضخمة في القرن الـ 18 الميلادي نتيجة هجرة الفلاحين بصورة أساسية بحثا عن فرص العمل. هذا ما استلزم بطبيعة الحال إقامة أنواع من المنشآت تواكب هذا العدد الهائل من السكان. لكن أيضا هناك جالية مغاربية كبيرة استقرت في القاهرة. هذا ما سبق أن أكده الدكتور حسام عبد المعطي في كتابه "المغاربة في مصر". إن البعد الذي انطلق منه معاذ في تحليل القاهرة العثمانية هو قصور الأمراء المماليك التي مورست من خلالها درجة من السلطة، عكست سطوة هذه الفئة في مصر، وهو ما كان موفقا فيه.

من إبراهيم إلى إسماعيل

قدم الدكتور حسام اسماعيل بحثا عنوانه: "من قاهرة إبراهيم إلى قاهرة إسماعيل". وهو يرى أن إبراهيم باشا بن محمد علي قاد حركة عمرانية في غرب القاهرة حيث القصر العالي فيما يعرف اليوم بجاردن سيتي، كما عمر قصورا في جزيرة المنيل. وعندما آل الحكم للخديوي إسماعيل رأى تخطيط القاهرة على غرار باريس، فردم البِرَك وخطّط الشوارع وأنشأ الحدائق والمسارح ودار أوبرا. وهذا البحث الذي جاء مركزا كان بمثابة نقلة من القاهرة القديمة إلى القاهرة المعاصرة.

قدم لنا عمرو عصام رؤية مثيرة للانتباه تحت عنوان "مدينة شكّلتها القضبان.. تاريخ التنقل في القاهرة". وهو يرى أن القاهريين كالقاهرة؛ كلاهما في منطقة بينية من سردية القضبان، التي بدأت بشكل نخبوي تماما لخدمة الطبقة العليا من خلال قطارات الضواحي، ثم المشروع الشعبي الكبير الذي بدأ مع "الترام" وهو يشق طريقه إلى قلب المدينة التاريخي ومناطق العامة، وأخيرا مترو الأنفاق الذي يربط أكثر مناطق القاهرة زحاما وتكدسا ويصلها بقلب المدينة. شهدت القاهرة إذن توسعا في مد قضبان القطارات، بالتوازي مع مد خطوط جديدة للترام على مدار ما يقرب من نصف قرن، ثم تغيَّر الأمر كثيرا في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي شهدت نهاياته بدء تشغيل الخط الأول لمترو الأنفاق الذي لم يكن سوى تحديث لمنظومة التنقل بالقطار. الباحث يرى أن هناك تخبطا في سياسات النقل في القاهرة، وهذه الدراسة من الدرسات النقدية الجيدة التي حلّلت مادة البحث لتقدم نتائج مثيرة وملفته للانتباه.

مأزق التوسع 

قدّم الباحث المتميز عاطف معتمد دراسة تعد إضافة على ما جاء في كتاب أندريه ريمون عن القاهرة. حيث توقف ريمون عند تأسيس مدينة نصر كضاحية للقاهرة، بينما ذهب عاطف معتمد إلى العاصمة الإدارية، والقاهرة الجديدة والضواحي الحديثة الملحقة بالمدينة. ودراسته تستحق القراءة بعناية خاصة لنقده وتحليله نمط التوسع العمراني للمدينة متسائلا هل قدم قيمة مضافة للقاهرة وحل أزماتها، أم أننا أمام رؤي ناقصة تحتاج إلى إعادة النظر والبحث عن حلول جديدة غير نمطية. في الواقع إن ما طرحه عاطف معتمد يجب قراءته بعناية.

الكتاب الذي بين يدينا يضم أبحاثا أخرى فريدة كدراسة الدكتورة دوريس أبوسيف عن أقدم الصور للعمارة الإسلامية في القاهرة، ورضوى ذكي التي قدمت القاهرة في القرن 18 عبر مذكرات قنصل فرنسي. وهذه القراءة تعد رؤية غربية للمدينة مفيدة في تحليلها من زوايا متعددة. وطرحت هالة فؤاد القاهرة كمرآة للذات وملاذا من الجنون، معتمدة على كتابات جيرار دو نيرفال، الذي قدم عنوان جريئا (نساء القاهرة). فالمرأة والقاهرة تتشابهان في كثير من السمات وفقا لجيرار، بداية من الغموض والجدية والتقوى التي تغلف جمالها وتحجبه عن الرجل الأوربي السطحي الذي سرعان ما يهرب من القاهرة للصعيد.

تكمل الرؤية السابقة ما قدمته كندة السماره تحت عنوان "قراءة القاهرة في مرآة باريس: كتابات بعض أدباء القرن التاسع عشر"، فمفهوم التمدن عند رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهما كان حاسما في نقل التمدن الغربي للقاهرة. 

وهذا ملمح مهم من الباحثة تناولته بطريقة جيدة، لكن كانت الصورة حاضرة في الكتاب من خلال أبرز المصورين المعاصرين للمدينة وهو كريم بدر. 

في حين كانت لهجة القاهريين محل دراسة لأحمد عثمان الخولي. وهذا بعد مهم خاصة أن الأقوال الشعبية والأمثال والشعر والأغاني تمثل الروابط بين المكان وقاطنيه، وهذا أعطى للكتاب نكهة خاصة.

إن كل ما سبق يقود القارئ إلى تقليب صفحات الكتاب بجزأيه، ثم سيجد عينه تجري بين السطور في لهفة، ويرى نفسه وقد جلس هادئا يقرأه ثم يحلل مادته.
-------------------------------
بقلم: د. خالد عزب 






اعلان