28 - 06 - 2024

الدكتور حسن فتح الباب في الذكرى المئوية لميلاده

الدكتور حسن فتح الباب في الذكرى المئوية لميلاده

كانت حياة الدكتور حسن فتح الباب كلها نموذجاً للانصهار، فهو مثقف عروبي محب لمصر ومحب أيضاً لدائرته الصغرى التي نشأ فيها في صدر أيامه... وينتمي لجيل العمالقة، وهذا الانصهار الذي ضم المؤلفات النقدية وريادة الشعر الحر وتبني الشباب من خلال الفعاليات الثقافية في مصر حيث كان يطوف بكل المحافظات والقرى والنجوع يحاضر في أندية الأدب ويقدم الوجوه الجديدة.. مما ترك أثرا طيباً في نفوس محبيه وعاشقيه ومريديه.

ولد حسن فتح الباب في حارة المجدلي بشبرا سنة 1923، لأسرة تمتد جذورها إلى قرية منسافيس التي تتبع مركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، وكان بيته ملاصقاً لبيت العالم الراحل جمال حمدان، وقد تعرض لليتم مبكراً إذ رحل والده سنة 1930، وهو لم يكمل السابعة بعد، فتحمل المسئولية مبكراً وكان الابن الأكبر للأسرة، وتعلم مباديء القراءة والكتابة، وحفظ أجزاءً من القرآن الكريم وكان نهماً في القراءة، وقد بدأ يطالع وهو سن الطفولة والمراهقة، وأحب الشعر وقرأ روائعه، وحفظ الآلاف من أبيات الشعر العربي في كل عصوره، وخصوصا شعر المعلقات وأشعار صدر الإسلام والعصر الأموي والعباسي، ولما حصل على الشهادة الثانوية التحق بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، ثم انتظم في جهاز الشرطة وتدرج في الرتب والمناصب حتى حصل على رتبة اللواء، وحصل على الدكتوراه في القانون الدولي، واستقال من جهاز الشرطة احتجاجاً على زيارة الرئيس السادات لإسرائيل في نوفمبر 1977، ثم سافر إلى الجزائر واختارها منفى اختيارياً وعاد إلى القاهرة بعد عشر سنوات عام 1988، وانتظم في حضور الفعاليات الثقافية في كافة أرجاء الوطن العربي حتى رحيله في 27 سبتمبر عام 2015. 

 وينتمي الشاعر حسن فتح الباب إلى الجيل الذي كان يسوده التسامح والمودة بين الناس وخصوصا في حي شبرا العريق، وقد فصل هذه العلاقة في كتابه "حارة المجدلي"، وقال عنها بعض النقاد أنها سيرة ذاتية عالمية؛ لأنها مكتوبة بالشعر، كما تناولها أيضاً في مذكراته التي أسماها "أسمي الوجوه بأسمائها".

 ومن الخصال التي كان يتصف بها حسن فتح الباب أنه كان يمتاز بذاكرة قوية؛ فهو يتذكر طفولته ونشأته، واليتم الذي عانى منه ووالدته التي ترملت من أجل أولادها؛ لذا نراها تطل علينا من أشعاره وذكرياته وأحاديث الكثيرة. 

وقد كان لي مع الشاعر الكبير ذكريات سأكتب عنها ذات يوم، كما كان لي مع أولاده وخصوصاً ابنته الصغرى الإعلامية الكبيرة منار فتح الباب (1964-2021)، وخلال زيارتها لمدينة المنيا في ديسمبر 2016 قصت لي شطرا كبيراً من ذكرياتها مع والدها وخصوصاً وأنها كانت الأقرب إلى قلبه، وقد أطلق أحد دواوينه على اسمها "عيون منار"، كما رافقته في رحلته إلى الجزائر، ومن الجزائر زارت معه معم دول العالم في أوربا وأمريكا ودول الوطن العربي.. وفيما يلي سنشر جزء من هذه الذكريات: 

ذكريات عن المنفى في الجزائر؟

وتقول منار فتح الباب "وقد رافقته في الغربة في أيام المنفي في الجزائر التي فضلها مقاماً في الفترة من 1977 إلى 1988، (وكان يسميها المنفى الاختياري لرفض والدي لزيارة السادات إلى القدس)، ومنها ذهبنا إلى بلاد عديدة مثل: إسبانيا والبرتغال والمغرب وفرنسا ومعظم الدول الأوربية والعربية، وقد كانت هذه الفترة خصبة في حياة الوالد بل هي أهم فترة في حياته وقد استعانت به دولة الجزائر في حركة التعريب، كما ساهم في الحركة الأدبية هناك، وتعرف إلى المئات من الأدباء والمفكرين، وكانت لهم معه ذكريات عطرة، وتناولت أثار الشعراء والقصاص بالنقد والتحليل لأعمالهم من أمثال: عز الدين الميهوبي، وعبدالعال الباقي، وخص الشاعر الجزائري الكبير مفدي زكريا بكتاب كبير. وكان الوالد يكتب بصفة يومية في الصحف الجزائرية، وكان يمد المجلات والصحف العربية بالدراسات النقدية والفكرية وكذلك قصائد الشعر.. ولقد جمعنا وحصرنا الدوريات والمجلات التي كتب بها فبلغت 30 صندوقا على الأقل، وقد تفهمنا رسالته وكذلك والدتي التي وفرت له الهدوء وكانت لا تلزمه بالمسئوليات إلا في أضيق الحدود"..  

*وعن وقع هذه الرحلات على الحياة الثقافية للدكتور حسن فتح الباب تقول منار: وكما ذكرت لك أن الوالد زار دولاًعديدة وخصوصا الدول التي تقترب من الجزائر مثل تونس والمغرب وفرنسا وجنوب إسبانيا؛ حيث زار كل معالم الأندلس في المدن الشهيرة مثل: قرطبة وإشبيلية وغرناطة وقادس ومالقة وغيرها، كما زار فرنسا وزار معالمها الشهيرة وفي ايطاليا زار بيت (دانتي)، وزار سويسرا وبحيرة جنيف الشهيرة، وغيرها من الدول الأوربية واثناء خدمته في جهاز الشرطة زار أمريكا أكثر من مرة ووقع هذه الرحلات على والدي أنه صنف كتابه الأشهر "تنويعات على لحن سندباد" دون فيه وقائعها. وكنت أكتب له مسودات هذا الرحلات أثناء حدوثها؛ حيث رافقته كظله، وقام هو بتبييضها بعد ذلك . 

العودة إلى الجذور قرية منسافيس: 

بعد عودة الدكتور حسن فتح الباب من الجزائر عام 1988، أخذ يعوض فترة المنفى، حيث كان نشيطاً جدا في حضور الفعاليات الثقافية في القاهرة وباقي المدن المصرية خاصة مع نوادي الأدب بهيئة قصور الثقافة، وقد دعي لحضور مؤتمر عقد في مدينة المنيا، وبعد انتهاء المؤتمر رافق الكاتب الصحفي نبيل زكي في زيارته لأخته بمدينة أبو قرقاص، وأثناء سيرهم لفت نظره لافتة قرية (منسافيس) فهاجت الأشواق في صدره، وهتف قائلاً: "هذه منسافيس بلدة أبي وأجدادي"، فقال له نبيل: "أذهب يا دكتور حسن وابحث عن أجدادك". 

وبالفعل ذهب الدكتور حسن فتح الباب لزيارة منسافيس،وعانقت نظراته مشاهد البلدة الوادعة التي تشقها الترعة الإبراهيمية إلى نصفين، البر الغربي والبر الشرقي، وندم أشد الندم، لأنه لم يزرها في شبابه مرات ومرات وزار ضريح جده العارف بالله سيدي على الحافي بالجانب الغربي من القرية، ويطلقون عليهم بالبلدة (أولاد الشيخ)، واحتفى به أهالي القرية الطيبين، وتأثر حسن فتح الباب بهذه الزيارة، وكتب ملحمة شعر يتغزل فيها في بلدته، وضمها ديوان "الخروج إلى الجنوب"، الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة  للكتاب، ثم تحدث عن وقائع الرحلة في كتابه "تنويعات على لحن سندباد".
------------------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال 
* كاتب ومؤرخ مصري







اعلان