26 - 06 - 2024

الدكتور حسن السعدي ودور مدرسة التاريخ القديم في جامعة الإسكندرية

الدكتور حسن السعدي ودور مدرسة التاريخ القديم في جامعة الإسكندرية

حصل الدكتور حسن محي الدين السعدي، أستاذ التاريخ القديم في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية على جائزة الدولة التقديرية، تتويجاً لمشواره العلمي الطويل في مجال المصريات، ولم يكن الرجل غريباً عن أجواء التكريم، فقد حصل من قبل على جوائز عدة منذ جائزة الدولة للتفوق وجائزة جامعة الإسكندرية..

وينتمي الدكتور حسن السعدي لمدرسة التاريخ في جامعة الإسكندرية وهي التي قدمت المؤرخين الكبار في كل حقب التاريخ، وتستمد هذه المدرسة عظمتها وأمجادها من أمجاد مدرسة الإسكندرية القديمة؛ التي امتد أشعتها إلى الكون كله.. كان حسن السعدي امتداداً لجهود أعلام التاريخ القديم أمثال: نجيب ميخائيل، ورشيد الناضوري، ومحمد بيومي مهران، وقد قدم لهذا التخصص عصارة أحلامه وحياته، وأثمرت الرحلة عن أعمال في أبحاث ومقالات وكتب وتلاميذ كثر يحتلون أماكن في الجامعات المصرية والعربية.. 

في إحدى زيارتي لمدينة الإسكندرية انتهزتها فرصة وجلست إليه في رحاب مكتبة الإسكندرية تجاذبنا الحديث عن تجربته في الحياة وفي تخصصه الرفيع وعن هواياته الأدبية، حيث يمتلك الدكتور حسن السعدي أسلوباً جميلاً ومشرقاً، يتناول فيه بعض القضايا وينشرها تحت عنوان "إشراقات السعدي" في عبارت قصيرة موجزة ولكنها تحمل في طياتها الكثير، إضافة إلى مقالاته التي ينشرها في الصحف والمجلات بين الحين والآخر، وتنم عن موسوعية ضخمة وتراكم معرفي عميق وتأثر بالثقافات المختلفة ..

في حوارنا معه امتد الحديث معه ليحدثنا عن النشـأة وكيف كان لها الأثر على حياته فيما بعد، فقد نشأ في مدينة طنطا عاصمة الدلتا، وعاش مع والده فترة ليست بالقصيرة في المغرب الشقيق، ورغم أنه فقد الأب وهو لم يتجاوز العاشرة بعد، فقد صمم على النحت في صخر الحياة وإحراز الدرجات العلى، ورغم رفض جامعة طنطا تعيينه إلا أن جامعة الإسكندرية فتحت له ذراعيها ورب ضارة نافعة، وكان من المعتاد أن تصدّر جامعة الإسكندرية أبناءها إلى الجامعات الأخرى ولكن مع حالة د.حسن السعدي حدث العكس، فقد عينته جامعة الإسكندرية بعدما تخرج في جامعة طنطا التي كانت في الأساس رافداً من جامعة الإسكندرية.. تحدثنا في موضوعات كثيرة سوف نطالعا في حوارنا التالي: 

*حدثني عن نشأتك وتعلمك قبل الفترة الجامعية وأثرها على مسيرتك العلمية بعد ذلك؟ 

- نشأت فى مدينة طنطا؛ حيث مستقر الأسرة الكبيرة، ومنها تم السفر للمملكة المغربية بعد عامين من الميلاد، حيث عمل الوالد فى جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم انتقل إلى الدار البيضاء بعدما تولى منصب المشرف العام على تدريس الرياضيات بالمملكة وهناك التحقت بإحدى المدارس الفرنسية العريقة (لاسال) حتى وفاته عام 1967 فى حادث سيارة.. كان لزاماً علينا بعدها العودة إلى الوطن وتحديداً مدينة طنطا، حيث التحقت بإحدى المدارس الحكومية الصغيرة بالقرب من مسكننا (مدرسة الرابطة الإبتدائية)، وفيها حصلت على الشهادة الإبتدائية لتستمر المسيرة في مدرسة النجاح الإعدادية، ثم في مدرسة الأحمدية الثانوية التي كانت واحدة من أعرق المدراس الثانوية في مصر مثلها مثل مدارس السعيدية والخديوية والسنية، وحصلت فيها على شهادة الثانوية العامة عام 1975 بمجموع فوق 80% ضمن زمرة المتفوقين حيث كنت أول القسم الأدبى بها. ومن حسن الطالع أن كلية الآداب بجامعة طنطا كانت قد فتحت أبوابها لتمثل حلم الالتحاق بقسم التاريخ الذي كنت من عشاقه بل ومتخذاً منذ المرحلة الإعدادية قراراً بدراسة التاريخ، وبالفعل كنا الدفعة الأولى بالكلية وكان لي شرف أن أتخرج بترتيب الأول على الدفعة، ولكن حالت رؤية رئيس القسم آنذاك دون تعيينى معيداً لأسباب من الأفضل تجاوزها لأنها إحدى نقاط الضعف فى بنية الهيكلة الأكاديمية. وما من شك أن رحلة الدراسة في المدارس الحكومية قد أثرت في تكويني علمياً وشخصياً، حتى أن طموحي الأوًلي كان منحصراً في تدريس التاريخ، إلا أن التفوق الجامعي فضلاً عن تبلور الشخصية الأكاديمية تأثراً ببعض الأساتذة شخوصاً أو كتباً قد جعل رفع من سقف طموح كنت أراه يتوافق مع إمكانياتى والحمد لله تحقق بجدارة. ويكفى في هذا الصدد أن أرجع الفضل لأساتذة اللغة العربية الذين أدين لهم بالفضل في عشق العربية والكتابة بها رغم البداية بالفرنسية ثم الإنجليزية لا سيما بعد حصولى على بعثة الإشراف المشترك للدكتوراه بجامعة ليفربول البريطانية. 

*ما الدوافع التي جعلتك تختار مجال التاريخ؟ 

- هناك بعض الدوافع منها المباشر وأخرى غير ذلك. فمن الدوافع المباشرة تأثري بأستاذين كان لتشجيعهما وتمكنهما من التدريس تأثيراً مباشراً قبل المرحلة الجامعية، وهما أ. هدى خضر وأ. موريس. أما الدوافع غير المباشرة فكان أهمها الشغف بقراءة ما بين السطور، حيث كنت أستشعر أن ما ندرسه ليس بكاف لاسيما عندما يتم العرض فى الكتاب بشكل تقريري دون إتاحة الفرصة لمعرفة المزيد قراءة أو بحثاً، وهذه إحدى خطايا قولبة العقل الدراسى بعيداً عن آفاق البحث أو المناقشة بعد الإحالة المرجعية كنوع من الدربة البحثية للعقول الغضة.

* قدوتك في هذا المجال وتأثير أساتذتك ومن هم؟ 

- إلى جانب من ذكرت فى هذا المجال هناك معلمين في مجالات أخرى أحسب أن ما قدموه من نماذج إيجابية عملياً وشخصياً قد انعكس على حبى للتاريخ ودراسته منهم مع حفظ الألقاب جورجيت صايغ، وعبد الفتاح أبو العزم وآمنة ومحمود فرحات وسعيد المعداوي وغالي مثلاً لا حصراً. أما فى المرحلة الجامعية فهناك الأساتذة الدكاترة: محمد بيومي مهران ورشيد الناضوري وجمال مختار ونجيب ميخائيل والسيد عبد العزيز سالم وجوزيف نسيم ولطفي عبد الوهاب وفاروق أباظة وحلمي مرزوق وخميس الزوكة وأحمد أبو زيد. ومن خارج جامعة الإسكندرية هناك جاب الله على جاب الله وتحفة حندوسة وعلي رضوان وعبد الحليم نور الدين وعبد العزيز صالح. وقد كان لكل واحد منهم تأثيره في جانب من جوانب تكوين الشخصية الأكاديمية ببعديها العلمي والإنساني.

*جهودك في مجال التاريخ عموماً والتاريخ القديم على وجه الخصوص؟

- تنحصر هذه الجهود على مستوى التاريخ العام في الكتابة الصحفية والمشاركة الإعلامية فضلاً عن النقد والتقييم، إلى جانب المشاركة في وضع المناهج الدراسية وطرح السياسات التعليمية الحاكمة في هذا المجال. أما على مستوى التخصص فهناك قرابة الكتب العشرة بالعربية والإنجليزية، فضلاً عن العديد من المقالات التخصصية المنشورة في كبريات الدوريات العلمية في أوروبا ومصر والعالم العربي. كما أننى أحد المحكمين الرئيسيين والأعضاء الاستشاريين في العديد من الدوريات بالبلاد العربية.

*حدثنا عن دور مدرسة جامعة الإسكندرية في التاريخ القديم؟ 

- مرت مدرسة الإسكندرية منذ نشأة كلية الآداب عام 1938 وحتى اليوم بعدة مراحل بدءًا من الأجانب الذى رسخوا المبدأ العلمي الخاص بدراسة الحضارات القديمة من خلال الآثار والتاريخ واللغة والتطور الحضاري وسار على نهجهم جيل الرواد الوطنيين ومنهم عبد المنعم أبو بكر ومحمد عصفور والناضوري ونجيب ميخائيل وعواد حسين. ثم تم فصل الدراسات اليونانية والرومانية في قسم مستقل ليستمر قسم التاريخ مسئولاً عن الآثار المصرية والإسلامية بإنشاء شعبتين متخصصتين في مطلع الثمانينات أعقبهما تعديل في اسم القسم بإضافة الآثار للتاريخ. ليشهد تخصص التاريخ القديم نقلة نوعية بدأت بالتوسع في التعيين من الأجيال الجديدة، حتى أن أول بعثة للخارج منذ عودة د. الناضورى فى الخمسينات كانت البعثة التي أكرمتني بها الدولة ممثلة فى جامعة الإسكندرية 1986 أى بعد عامين من تعيينى بها مدرساً مساعداً. وما من شك أن هذه المدة من عدم الإحتكاك الخارجي قد أثرت على التخصص إلى حد تفتيت مفرداته في محاولة بائسة من عقم الرؤية الشمولية لمفهوم علم المصريات، لذا كان الفشل مصيرها المحتوم. فى وقت قد آتت فيه أكلها تلك الإنفراجة إلى بريطانيا وألمانيا فضلاً عن منح ما بعد الأستاذية لأمريكا وبريطانيا والتي أتاحت لأجيال متعاقبة فرصة الإنفتاح على العالم الخارجي من جديد والكتابة بالإنجليزية وارتياد المؤتمرات والمشاركات الدولية. وهكذا إستعادت مدرسة الأسكندرية فى التارخ القديم والأثار عافيتها التى كانت من روادها بحفائر نقادة وكوم فرين وبوتو ووادى جواسيس مثالاً لا حصراً، فضلاً عن سلسلة الكتب المرجعية التى غطت تاريخ وحضارة منطقة الشرق الأدنى القديم. 

لك ميول أدبية تنشرها تحت عنوان "إشراقات السعدي" حدثنا عن هذه التجربة وكيف وفقت بينها وبين تخصصك الرفيع؟

-أشكرك على هذا السؤال، فالحقيقة أن هذه الإشراقات قد بدأت فى تدوينها منذ ما يربو عن عشر سنوات حتى ناهزت فى عددها ألف إشراقة، وهى تمثل فى رأيى شقين من المحصلة الخبراتية. أولهما فى إستدعاء بعض الخبرات المواكبة للعديد من المواقف الحياتية، وثانيهما يتمل فى القدرة على التعبير الجامع الشامل رغم إيجازه إلا قليلاً. وقد لاقت هذه التجربة وما تزال تجاوباً طيباً من أصدقاء صفحتى على (الفيس بوك) بل ويطالبني البعض بضرورة جمعها ونشرها فى كتاب منفصل. وهو ذات المطلب الذى أواجهه حيال ما كتبت بالمطبوعات السيارة من مقالات فى الشأن العام والتي أكد لى أهل العربية أن أسلوبها يستحق الدراسة مثلما تمثل موضوعاتها إنعكاساً لواقعنا المعاش محلياً وإقليمياً ودولياً دون تحيز فى التناول أو محدودية فى الرؤية. ويبقى فى هذا الصدد أن لى محاولة قصصية لم تر قصصها القصيرة النور بعد، وهي تعكس فى صياغة قصصية صوراً عدة لنماذج نسوية لها ظل من الواقع لاسيما خلال فترة الصبا والشباب فى طنطا. والله أسأل أن يمنحني العمر والطاقة لاستكمالها ونشرها.

*حصلت مؤخراً على جائزة الدولة التقديرية ومن قبلها على جائزة التفوق ما وقع هذه الجوائز عليك؟ 

- عفواً ومن قبلهما جائزة الجامعة للتميز العلمي وكذا النشر العلمي، فضلاً عن درع القنصلية السعودية للجهود العلمية المتميزة ودروع وشهادات تقدير فى مناسبات مختلفة تستعصى على الحصر فى مسيرة أربعين عاماً من العطاء حتى وقتنا هذا. و لكل منها وقعها الخاص فى نفسى حسب أهميتها، وإن اشتركت جميعها فى إحساس الحمد والفخر وترسيخ نموذج المثل الأعلى ومتعة الطموح والإنجاز، بيد أن الجوائز التي ذكرتها سيادتك لها وقعها الخاص أولاً لأنها تحمل اسم الدولة، و ثانياً لأن جائزة التفوق منهما كانت مستحدثة وكنت أول حاصل عليها فى كلية الآداب بعد إقرارها بخمس عشرة عاماً. أما التقديرية هذا العام فمنذ نشأة الكلية وحتى الآن فاز بها أربعة أساتذة فى العلوم الاجتماعية وأنا خامسهم فضلاً عن أربعة فى الآداب. فلو أضفنا لهذه القمم فى تاريخ الكلية أسماء من أثروا حياتنا الفكرية والثقافية منذ حصل عليها طه حسين لكان لى حق الفخار أن أكون ممن حصلوا عليها فى جيلي ضمن كوكبة عقول مصر ومفكريها، و لى أيضاً شعور الإمتنان للوطن أن أكرمنى بتقدير رحلة العطاء بعقودها الأربعة. و لله الحمد من قبل و من بعد. 

*ما أمنياتك على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام؟ 

- أمنياتى على المستوى الشخصى لا حصر لها لكونها ترتبط عندى سواء ذاتياً أو أُسرياً بالخيال المتفائل والطموح اللامحدود وتحقيق النجاحات المشروعة والإنجازات. لذا فالأمنية الرئيسية لدى هى فى أن يوفقني المولى لتحقيق كل أمنياتى وليس ذلك على الله ببعيد. أما على المستوى العام فأتمنى أن تتوارى من حياتنا (مصر الأخرى) لتبدو فى واجهة المشهد مصرنا الحقيقية وهى عائدة لنا من وراء الحُجٌب متألقة بتراثها وتاريخها وطموحاتها المستقبلية ومتأنقة بإنجازات أبنائها ومكانتها الدولية وريادتها الإقليمية.
---------------------------
حوار- أبو الحسن الجمال * 
*كاتب ومؤرخ مصري. 






اعلان