18 - 06 - 2024

الفريق يوسف عفيفي صانع ملحمة الغردقة يتحدث لـ"المشهد": خططت لتكون سفاجا بديلا لـ "هونج كونج"

الفريق يوسف عفيفي صانع ملحمة الغردقة يتحدث لـ

بمناسبة العيد القومي لمحافظة البحر الأحمر الذي يحل في 22 يناير
- الفريق عفيفي من حصار الفالوجا في 1948 إلى العزل بعد 67 وحصار الثغرة في 73 وانتهاء بقهر معوقات التنمية في محافظة البحر الأحمر عام 1982
- يروي قصة الغردقة من نجع معزول بلا ماء ولا كهرباء إلى درة المدن السياحية في العالم بدون تحميل الدولة أي تكاليف .. هكذا تكون التنمية

عرفت الفريق يوسف عفيفي عن قرب، والتقيت به مرارا في منزله، وكان مثالا للرجل المؤمن المتواضع المنكر للذات، فرغم تقدمه في السن، إلا أنه مازال مهموما بالشأن العام متابعاً جيداً حزيناً على الصراعات بين الفصائل السياسية في مصر، وهى تؤثر بالطبع على التنمية وتضر بالاقتصاد. والفريق يوسف عفيفي رجل أخلص لمصر منذ زمن طويل، منذ أن تخرج من الكلية الحربية عام 1948م، ثم ذهب مباشرة إلى الجبهة مشاركا حرب فلسطين 1948، وبالتحديد في الفالوجا ليشارك في معارك حرب فلسطين – الجولة الأولى العربية الإسرائيلية، ويشترك مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يشغل منصب أركان حرب الكتيبة السادسة المشاة التي يقودها القائمقام السيد طه (الضبع الأسود) الذي دوخ الصهاينة، وكذلك أبطال تلك المعارك واستفاد منهم مباشرة مثل: البطل أحمد عبدالعزيز، وصلاح سالم، وحسين الشافعي، وعبد المنعم السباعي، وهم الذين صنعوا ثورة يوليو بعد بضع سنوات، وشهد حصار الفالوجا الذي علّمه الصبر والجلد والتحمل، واستفاد من هذه المواقف بعد ربع قرن عندما كان يقود الفرقة19مشاه أثناء حرب أكتوبر المجيدة، وتعرضها للحصار ضمن قوات الجيش الثالث فتصرف مع هذا الموقف بحكمة تعلمها منذ حصار الفالوجا. 

وعندما عاد الأبطال كان في استقبالهم جماهير الشعب، فلم يكن لهم يد في الهزيمة التي مُنى بها العرب وإنما لظروف وتخاذل من بعض القوى التي اشتركت في هذه الحروب، وشهد يوسف عفيفي الحفلة التي أقامتها كوكب الشرق أم كلثوم في منزلها العامر القابع على نيل الزمالك لأبطال الفالوجا، وكانت ليلة جميلة ردت الثقة إلى هؤلاء الأبطال، وينضم بعد ذلك إلى تنظيم الضباط الأحرار الذي تغلل في صفوف الجيش في هذا التوقيت، الكل يريد التغيير وينجح التنظيم في القيام بثورة يوليو سنة 1952.

وعند تأسيس جهاز المخابرات العامة عمل مع أول رئيس له زكريا محي الدين، وبعد أن مكث به فترة يخرج منه، مفضلاً العودة إلى الميدان، ويذهب في بعثة عسكرية إلى الأراضي اليمنية مبكراً في عام 1955م، ويشارك في تدريب القوات اليمنية، ويضع الوثائق الخاصة بالتدريب، فلم يكن موجودا لدى هذه القوات أية خرائط أو وثائق فأحضروا تلك الخرائط من ايطاليا، التي صنعت خريطة للمكان أيام كانت تحتل حيبوتي في هذه الفترة، ونجحت البعثة في معرفة طبيعة الشعب اليمنى، واستطلاع أراضيه، ومعرفة عقيدة القبائل القتالية، وكتبوا تقرير مفصلاً عن أداء البعثة، التي لو أخذت بها القوات التي ذهبت إلى اليمن عند قيام الثورة عام 1962م لما تعرضت للخسائر الفادحة في المعدات والأرواح. 

عاصر الفريق يوسف عفيفي مرارة هزيمة حرب يونيو 1967م، التي لم تعط الفرصة للجندي المصري كي يحارب فصدرت له التعليمات مباشرة بالانسحاب دون خطة تحافظ على القوات عند الارتداد، ويتكاتف العقيد أركان حرب يوسف عفيفي مع جنوده ويضع لهم خطة ارتداد وينجح في الحفاظ على أفراد ومعدات الكتيبة دون خسارة تذكر، اللهم إلا سبع جنود فقط وكان هو أخر من عبر القناة.

وبعد أن أعلن الرئيس جمال عبدالناصر حقيقة النكسة، عزل المشير عامر من كافة وظائفه العسكرية، ومحاكمة كل من تسبب في الهزيمة، ولم يرضخ المشير لتلك القرارات، فأعلن الاعتصام، يؤيده رجاله حتى رحل في سبتمبر من نفس العام، وقبض على رجاله والمحسوبين عليه، ومنهم العقيد أركان حرب يوسف عفيفي الذي وضع قيد التحفظ لمدة عام، ثم أحيل للمعاش حتى قامت ثورة التصحيح في 15مايو 1971، وتوسط له صديقه القديم الفريق الليثي ناصف لدى الرئيس محمد أنور السادات للعودة للقوات المسلحة، ويعود إلى صفوف القوات المسلحة كأنه غادرها بالأمس القريب، فيعين مديراً للتدريب بالجيش الثاني الميداني، يباشر مروره على الوحدات ويفاجئهم بالزيارات ليعرف مدى ما وصلوا إليه من تدريبات والتزامات، استعداداً ليوم الثأر الذي كان الجميع يدرك أنه قادم بلا محال، وينجح في عمله الحساس هذا.

ثم يعين قائداً للفرقة 19مشاه، فيواصل مشوار التدريب الشاق ليل نهار، يثير الحمية في قلوب الضباط والجنود حتى انبلج فجر الظلام، وأتى يوم السادس من أكتوبر يغسل العار الذي جلل مصر ست سنوات عجاف، وتنجح الفرقة في إحراز النصر المبين والاستيلاء على أهم النقاط الحصينة في خط بارليف منها: النقاط 146، و147، و148، و149، وعيون موسى، ولسان بور توفيق، وجبل المر، والجباسات، وسطر رجال الفرقة بطولات خارقة، فها هو العقيد الفاتح كريم يحرر جبل المر في عملية أشبه ما تكون بالانتحارية، يشاركه العقيد على الغليظ، والرائد محمد زرد الذي كان يشغل رئيس شئون إدارية إحدى الوحدات المشاة فيذهب إلى قادته مصمماً على القتال، ويستولى هو ورجاله على النقطة الحصينة 149 أقوى الحصون مناعة، وتحدث الثغرة ويحاصر الجيش الثالث ويحاول العدو السيطرة على السويس ولكن قوات الفرقة تصليه ناراً، فيدرك أنه قد وقع في شرك عظيم يتكبد الخسائر يومياً بفضل الجنود وشعب السويس الذي سطر أعظم ملحمة روتها حرب أكتوبر، ويمكن أن نطلق علي الفريق يوسف عفيفي "بطل السويس وحاميها"، ويكرم بعد الحرب بأمر من السادات شخصياً، بعد أن حاولت جهة حجبه عن هذا التكريم الذي تم بمجلس الشعب، ويمنح وسام نجمة الشرف العسكرية. 

ملحمة الغردقة

تقاعد الفريق يوسف عفيفي ليبدأ مرحلة أخرى لا تقل أهمية عن حياته العسكرية، وهو تحويل بقعة نائية "الغردقة" تشبه أحد نجوع الصعيد إلى عاصمة السياحة العالمية... حولها لمصدر هام من مصادر الدخل القومي وقد عانى كثيرا في بداية المشوار، حتى استعان في تنفيذ مشروعه هذا بالكوادر العبقرية التي ساعدت على سير ركب التنمية في هذا الإقليم، وقد تنقل يوسف عفيفي من نجاح لنجاح فما من مسئولية يتولاها، وإلا ويضع فيها بصمات خارقة سواء في عمله ضابطا بالقوات يصد عن الخطر ويزود عنه، في الإدارة المحلية سار على المنوال في الغردقة ومدن البحر الأحمر، وفى محافظة الجيزة، وقد زرته أخيرا نتذكر تلك الأيام ففتح لي صندوق ذكرياته ولم يبخل بأي معلومة، فهو مثل للتواضع الجم الذي يسيطر على سلوكه. 

الفريق يوسف عفيفي يتذكر أيام الرخاء والتنمية في البحر الأحمر:

جاء الفريق يوسف عفيفي ليتسلم مهام منصبه في بداية العام 1981، فإذا به يصطدم بالواقع الأليم التي كانت تحياه المحافظة، الخدمات تكاد تكون منعدمة تماماً، بالرغم من تمتع المحافظة بكل منابع الخير الوفير الذي لو أحسن استغلاله لتصدرت المحافظة مكاناً رئيسياً  في خارطة الدخل القومي، وبالفعل بدأ رحلة الألف ميل بالرغم من وجود عقبات صادفته كانت من الممكن أن تقوض أي مشروع تنموي جبار كهذا، وبدأت رحلة التنمية بأن أحضر كل الكوادر المخلصة والمستثمرين المغامرين الجادين، الذين ساعدوا في هذه النهضة، وأرسوا لها قواعد قوية. 

التقينا الفريق يوسف عفيفي في منزله العامر بالقاهرة، لسرد وقائع هذه المرحلة المهمة من تاريخنا القومي، فهي مازالت ماثلة في ذهنه، يفرح كثيراً ويسعد عند تذكرها، يعيش على هذه الذكريات الجميلة، ولم يبخل علينا بأي جواب.

*كيف كانت الغردقة ومدن البحر الأحمر عندما توليت مهام منصبك؟ 

- عندما صدر قرار تعييني محافظاً للبحر الأحمر في يناير عام 1981م، غمرني إحساس قوي أن هذا القرار كان تعبيراً عن ثقة القيادة السياسية وتقديرها لجندي ظل يقاتل بإخلاص، ويكافح في سبيل بلاده أكثر من ثلث قرن من الزمان، وعاهدت ربى عز وجل وعاهدت مصر أن أقاتل ما تبقى من عمر، وأن أواصل مشوار الكفاح مقاتلاً في زمن السلم، فأجعل من محافظة البحر الأحمر النائية مثلاً يحتذي وتجربة فريدة في تحقيق التنمية والرخاء، ووجدت أنه لزاماً علىّ أن انحي جانباً كل السلبيات التي يمكن أن تعترض طريق أي تنمية، فمواطنو البحر الأحمر نوع من البشر عاشوا ظروفاً كان من المستحيل أن تحقق لهم ما استطاعوا فيما بعد تحقيقه، وحتى وجودهم كمجتمع كان يفتقر في الواقع إلى مقومات قيام مجتمع، فهم قبائل متفرقة، تسيطر عليهم النزعة القبلية، وليس لهم وزن يذكر كقوة سياسية أو اقتصادية، ثم أنهم كقوة عددية كانوا من أقل المحافظات عدداً.

لم تكن الغردقة عندما شرفت بالمجيء إليها سوى مدينة عسكرية بها مواطنين محدودي المهام ... الخدمات تكاد تكون منعدمة، كانت قوات حرس الحدود لا تسمح بإقامة أي منشآت على الشاطئ، الذي كان عبارة عن كتلة صخرية ملوثة بالنفط ويكسو بعض أجزائها مقذوفات البحر بروائحها الكريهة، ويتكلف تطهيرها ملايين الجنيهات، وكذلك كانت الشعاب المرجانية إثر هذا التلوث في طريقها إلى الهلاك والدمار، وكانت أحياء المدينة هي الدهار السقالة (ميناء الصيد)، وكانت الغردقة أشبه بنجع في أعماق الصعيد، فالمواطنون كان يضطرون للنوم مبكراً بعد توقف تشغيل محطة توليد الكهرباء ذات طاقة 400 كيلو وات/ساعة، والتي كانت تعمل لمدة ساعتين فقط، وتغطى منطقة ديوان المحافظة.. وبطبيعة الحال يحل الظلام الدامس بعد توقفها.. وكانت الحياة بدائية، وكانت وسائل التنقل داخل المدينة فقيرة وبدائية، وكان الجهاز التنفيذي ينقصه الكوادر العليا المهنية والفنية والحرفية، وأيضا الكوادر القاعدية من العمال في كافة المجالات، بالإضافة إلى قلة الكفاءة والخبرة لدى الكثير من الموظفين، وكان بسبب البطء الشديد في التنمية. كما كانت مياه الشرب تأتى عن طريق قنا – سفاجا، وتوزع على المواطنين بواسطة عربات المياه مرتين في الأسبوع في أحسن الأحوال.

* ما هي الخطط والرؤى التي أعددتها قبيل مجيئك الغردقة؟ 

- ظللت في القاهرة مدة ثمانية عشر يوماً، قرأت كل ما كتب عن البحر الأحمر تاريخياً وجغرافياً وإدارياً، كما التقيت بالمحافظين السابقين الذين أمدوني بحقائق أنارت أمامي دروبا كثيرة، ودونت ملخص هذا واعتبرته هادياً لي في عملي المقبل في هذا الإقليم النائي الذي تشرفت بتولي مسؤوليته، واعتبرت نفسي مقدما على دخول معركة ضارية لا تقل أثراً عن الحروب التي اشتركت فيها.

* كيف ابتدأ المشوار؟ 

- عندما رأيت البحر الأحمر وجدته لا يقل أهمية وجمالاً عن شواطئ "الريفيرا" بفرنسا، الذي قمت بزيارته ضمن مأمورية وزارة التخطيط والتي تضم محافظات (الإقليم السابع السياحي) وهى: أسوان، وقنا، وسوهاج، والبحر الأحمر لدراسة التخطيط السياحي بفرنسا منذ خمسين عاماً، أيقنت أن شاطئ الغردقة يفوق ويمتاز عن الشاطئ الفرنسي بإمكانيات كثيرة، فمن حيث الموقع فهو يمثل إحدى زوايا مثلث السياحة الذهبي، فالغردقة تتميز بالسياحة الترويحية والعلاجية، والقاهرة متحف الحضارات الإنسانية، ومدينة الأقصر متحف الآثار الفرعونية، وبعد عودتي من هذه الجولة، طلبت جميع الدراسات التي قامت بها وزارة السياحة.

وصادف أن زارني في مكتبي الدكتور سيد كريم خبير التعمير بالأمم المتحدة، عارضاً علىّ المساعدة في تخطيط المدينة، وظهرت مشكلة توفير الخرائط الجوية التي طلبها، والتي كانت ستتكلف 600 ألف جنيه، وهذه مشكلة، وبينما أنا مهموم بإيجاد حل ومخرج، وجدت نسور مصر من القوات الجوية يقومون بالطلعات التدريبية في سماء الغردقة، وهداني التفكير بالاتصال بالفريق طيار محمد حلمي قائد القوات الجوية، مثنياً على أداء نسوره الأبطال طالباً منه المساعدة في تصوير الغردقة، فقدم الرجل صوراً جوية للغردقة وسفاجا ومرسى علم، وأخذها الدكتور سيد كريم وعمل منها خرائط مساحية، ورجع بعد ستة شهور، ومعه دراسات تخطيطية كاملة التفاصيل للتنمية الشاملة لمدينة الغردقة لمدة خمسين عاماً، وكانت تشمل هذه الخطة لوحات وماكيتات مجسمة لمواقع القطاعات التنموية بالمحافظة، وأعطيت تعليماتي بتجهيز الغرفة المجاورة لمكتبي لكي تكون غرفة الاستثمار للتنمية الشاملة بالمحافظة، وهكذا أصبحت مزاراً للمسؤولين والزوار والمستثمرين، فمن خلالها يطلعون على مستقبل مدينة الغردقة، ثم قمت بعد ذلك باستدعاء اللجنة العليا لتثمين أراضي الدولة من القاهرة وقامت بإجراءاتها في يسر طبقاً للتخطيط العلمي والموضوعي السليم.

توجهت بعد ذلك للمرحوم عادل طاهر وزير السياحة عام 1982م، ومعي دراسة كاملة من التخطيط، وعرضت عليه تبنى خطة التنمية السياحية بالغردقة، ولكنه رفض حسب تقديره بحجة استحالة التنفيذ بسبب عدم توفير المرافق وتكرر ذلك مع وزراء السياحة التاليين بعد ذلك مثل: توفيق عبده إسماعيل، ووجيه شندي، وأرسلت للعرض على مجلس الوزراء وكنت على يقين من الموافقة، وتمت الدعوة العامة للمشاركة في إرساء حجر أساس أول مركز سياحي على مستوى الجمهورية بالغردقة بتاريخ 25 مارس 1982م، اطلع المدعوون على ماكيتات المشروع وأثنوا على التخطيط ، وغمرت الفرحة نفوسهم، وخاصة المستثمرين الذين كانوا يأملون فتح مجال الاستثمار أمامهم في هذه المحافظة الواعدة .. وهكذا أصبحت فرصة الاستثمار متاحة أمام المصريين العاملين في مجال السياحة، وأيضا أمام الأخوة العرب.

* ما دور المستثمرين في التنمية، وكيف تم إقناعهم بالمغامرة والاستثمار في البحر الأحمر؟ 

- صنفت محافظة البحر الأحمر ضمن تعداد المحافظات الصحراوية النائية، فلم يكن بها نشاط اقتصادي سوى النفط والفوسفات، وهى نشاطات تتبع الحكومة المركزية مباشرة ولا تتبع المحليات، وعلى ذلك كانت المحافظة بالاعتمادات المالية المحدودة لها خارج حسابات الذين يخططون لتنمية مصر، لقد أدركنا أن هناك فجوة واسعة بين واقع المنطقة وإمكانياتها...فالمنطقة بكل ما تملك من ثروات طبيعية، وآثار تاريخية، ومناخ رائع طول العام ..كان لابد أن تتحول مدينة الغردقة كمرحلة أولى إلى مركز سياحي عالمي يجذب المستثمرين والسائحين من كافة أنحاء العالم، وخاصة لتميز الغردقة بطقس مثالي من حيث درجات الحرارة والرطوبة، وساعات إشراق الشمس، وأثر أشعتها من الناحية الطبية .. هذا المناخ جعل من السهل على الغردقة كأول مركز سياحي عالمي أن يستقبل السائحين شتاء وصيفاً، فليس هناك موسم للاستمتاع بالغردقة، وإنما ذلك متاح على امتداد العام، وهى ميزة لا يوفرها أي شاطئ في أي منطقة سياحية أخرى في العالم.. ثم أن شاطئ الغردقة له شهرته العالمية ، بشعبه المرجانية، وأحيائه المائية التي تعتبر المكان النموذجي لهواة الغطس في كافة أنحاء العالم.

وكذلك كان هناك عامل حاسم هو العنصر الحاكم الذي أتاح تضافر كل العوامل السابقة، وتفاعلها إيجابياً تجاه حركة التعمير السياحي.. ذلك العامل هو القيادة الإدارية العليا للمحافظة، والتي أقنعت المستثمرين بإقامة مشروعاتهم فوق أرض صحراوية في منطقة نائية، مع تحميلهم كافة أعباء تسوية الأرض، وإنشاء الشواطئ السياحية وتجهيزها، وأيضا المرافق اللازمة لها، لقد كانت هذه المبادرة (من جانب المحافظة) هي نقطة الانطلاق للمستثمر الجاد، الذي قدمت له المحافظة كل المعاونة، وذللت له كل المصاعب، فأقيم على أرض المحافظة أول مركز سياحي على مستوى الجمهورية وأسرع إنشاءات وبالتالي أسرع تنمية .. فأدرجنا العالم الغربي ضمن أجمل المناطق السياحية في العالم، وأدرجتنا الأمم المتحدة في أعلى نسبة نمو في العالم. وقد كان ذلك بفضل قدرة المواطن المصري المتفاني في عمله الذي صنع المعجزات، كما أن مشاركة القدوة من رواد المستثمرين الذين تحملوا المخاطرة عن طيب خاطر في إنشاء المرافق العامة والبنية الأساسية في منطقة تفتقر لهذا النوع من الخدمات كانت من أهم المقومات العلمية التي أدت إلى نجاح خطة التنمية السياحية على أرض البحر الأحمر.    

بعد أن وافقت الجهات التنفيذية على مشروع المركز السياحي بالغردقة ، بشرط عدم تحميل الدولة أية تكاليف للمرافق، لم أجد أمامي سوى إقناع الرواد الأوائل المغامرين والمستثمرين بتحمل تكاليف المرافق، رغم شمول بنود عقود تخصيص الأرض بالمرافق، وكنت أطلب مجموعة تلو مجموعة من المستثمرين لمقابلتي، استفسرت منهم بكم تقدر تكاليف إنشاء الغرفة السياحة بخدماتها؟ وكانت إجابتهم ما بين 30- 40ألف جنيه، علماً أن وزارة السياحة تقدرها ما بين 100-150جنيه، وأنتم تعرفون أن عدد الليالي السياحية في الغردقة لا تقل عن 300 ليلة سنوياً، وبفرض أن الحجرة بها سريرين وبسعر إقامة 100 جنيه، فعليه يكون دخل الغرفة سنوياً 30 ألف جنيه ومعنى هذا أن رأس المال المستغل في إنشاء حجرة سياحية يسترد خلال سنة واحدة.. بالله عليكم هل هناك استثمار أسرع من ذلك؟. فقبلوا الفكرة بصدر رحب، وقاموا بتوريد حصصهم من التكلفة وتم تنفيذ أعمال المرافق المطلوبة في زمن أقل من شهر. وكانت مفاجأة لهم ... لدرجة أن قرية (الجفتون)، وهى أول قرية تمت بالمشروع وأول قرية سياحية شيدها القطاع الخاص في مصر – تم إنشاؤها بطاقة 350 غرفة في اقل من تسعة شهور، وتوالى إنشاء القرى بعد تخصيص الأراضي للمستثمرين، ومد الخدمات لهذه القرى ورصف الطرق.

* كيف كان للقيادة السياسية دور في دعم المشروع؟ 

- وقفت القيادة السياسية متمثلة في الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك إلى جانب التنمية ودعمها، وقد زار الغردقة كثيراً يتفقد المشروعات بنفسه، فقد وجه الرئيس جهده لمتابعة المشروع ورعايته له، واختص الغردقة بأكثر من زيارة ميدانية، وفى كل مرة كان يقوم بافتتاح مشروع جديد، ويوجهه توجيهاً سديداً، يعلم قبل غيره أنه سيرى النتائج في الزيارة التالية، كان الرئيس يعلم أيضا أن الاهتمام الذي يعطيه للغردقة، وكل مدن المحافظة يفجر الحماس ليس فقط للمسئولين ولكن لكل إنسان يعيش على أرضها، وقد طلب الرئيس في إحدى جولاته من وزيري الإسكان والتعمير الاهتمام بتوصيل المياه للمشروعات السياحية قبل تنفيذها، لأن المياه هامة وحيوية لتلك المشروعات ولتشجيع الاستثمار السياحي، وطلب أيضاً من وزير الكهرباء العمل على تخفيض أسعار توصيل الكهرباء إلى المشروعات السياحية بنسبة 50 % عند الإنشاء، ولمدة سنة من تاريخ الإنشاء دعماً للنشاط السياحي، وطلب الرئيس أيضاً استغلال الطاقة الشمسية في توليد الطاقة لتوفير الكهرباء والبترول، وأكد خفض تكلفة استخدام الطاقة الشمسية ليصبح استخدامها ميسوراً، وطلب الرئيس تذليل العقبات أمام رحلات السياحة الجماعية المباشرة (الشارتر) القادمة من أوروبا إلى مناطق الجذب السياحي في مصر، وضرورة الاهتمام بتطوير المطارات لتنشيط السياحة، والاهتمام بطائرات نقل البضائع (الكارجو) وتنشيط السياحة للمواطنين.

أولاد عبد الظاهر: تم تخصيص قطعة أرض لهؤلاء الشباب الثلاثة، وهم من أبناء الإقليم، وكانت نواة لقرية "مون فالي"، وبنوا خياماً مستخدمين مخلفات بيوت الصيادين، وكانت الليلة تتكلف 6 دولار، وأثناء جولة الرئيس في فبراير 1986م تفقد مشروع هؤلاء الشباب الذين أكدوا للرئيس أنهم يحصلون على ربح وفير من مشروعهم هذا، أنهم يقدمون خدمات سياحية متكاملة للسائحين وبأسعار رخيصة حيث لا تتجاوز تكلفة إقامة وإعاشة السائح الكاملة ستة دولارات في اليوم، ومن أثر زيارة الرئيس جاءت طائرة "شارتر" من ايطاليا لتنزل في قرية "مون فالي".

ما هي أهم الإنجازات التي تمت؟

- العديد من الإنجازات ومنها: البدء في إنشاء أول مركز سياحي عام 1982م على مستوى الجمهورية في الغردقة بتخطيط عمراني لمدة 50 عاماً، والانتهاء من إقامة حي سكنى متكامل المرافق بالغردقة ليكون نموذجاً للتعمير ، تم إنشاؤه بالجهود الذاتية ويطلق عليه جوازاً (المركز السياحي) عام 1985م ، وتحويل مركز الشباب إلى قرية شدوان السياحية بتكلفة مليون جنيه منحة من وزارة البترول للشباب – تم تأجيرها لأحد المستثمرين أوصل تكاليفها الإنشائية وخدماتها إلى أكثر من 18 مليوناً، ويعود ريع الإيجار المتزايد لدعم موازنة الشباب بالمحافظة – وهى القرية الوحيدة المملوكة للمحافظة على مستوى الجمهورية، وإنشاء قرية أبى الحسن الشاذلي لتكون قرية سياحية دينية فريدة على مستوى الجمهورية، مع إنشاء الطرق الموصلة إليها من مرسى علم بطول 150كم بالجهود الذاتية.

- إنشاء عشرة قرى لتوطين بدو قبائل: العبابدة ، والمعازة البشارية، وإمدادها بالخدمات المختلفة، مع إنشاء طريق القصير والشلاتين بطول 403 كم بواسطة الهيئة العامة للبترول، وقد تبرع هؤلاء البدو بمبلغ مليون ونصف مليون من الجنيهات مساهمة منهم في تنمية المحافظة، وقد تغير نمط النشاط الاقتصادي لأبناء البدو بعد استقرارهم في  قرى التوطين الجديدة، فانتعشت تجارة الأعشاب الطبية، والفحم النباتي، والصناعات البيئية والجلود، مع قيام أجهزة المحافظة بنقلها وتسويقها لحسابهم بعيداً عن استغلال بعض التجار.

- إنشاء مطار الغردقة الدولي الذي يستقبل 40 طائرة يومياً تصل مباشرة إلى الغردقة من دول العالم شرقاً وغرباً، وإنشاء ميناء حضاري متكامل الخدمات لصائدي الأسماك واللنشات السياحية بالغردقة.

- إنشاء محطة تحليه لمياه البحر بواسطة القطاع الخاص على مستوى الجمهورية في مدينة الغردقة في الوقت التي كانت المرافق من اختصاص القطاع العام طبقاً للقوانين الاشتراكية ، وقتئذ تكلفت 18 مليون جنيه وبطاقة 5000 طن يومياً ولم تتكلف المحافظة أو الحكومة مليماً واحداً، وتُسلم المحطة للمحافظة بعد عشر سنوات هدية من الشركة، وقد كان للشيخ الشعراوي دوراً أساسياً في إتمام انجاز هذا الموضوع من شركة "دله" السعودية التي يمتلكها رجل الأعمال الشيخ صالح كامل، والحق يقال إن هذه المحطة تعتبر الشريان الحيوي للتنمية في المحافظة.. وكذلك تم إدخال البث التليفزيوني على مستوى المحافظة، وتقوية الإرسال الإذاعي الضعيف، وإنشاء فرع لشركة بيع المصنوعات لخدمة المواطنين، موفرة بذلك الجهد والوقت الذي كان يضيع هدراً في السفر إلى القاهرة أو السويس أو قنا لشراء الاحتياجات .

وإنشاء مشروع الثروة السمكية لخدمة جمعيات صائدي الأسماك، وإقراضهم مليون جنيه لتطوير وحدات الصيد مع تسديد القرض بتوريد ربع كمية الأسماك المصطادة وتسويقها للمحافظة بسعر مجزى. والبدء في إقامة المسابقات كرياضة الألواح الشراعية على مستوى الجمهورية، وأيضاً أول مسابقة لصيد الأسماك، فكانت فاتحة للمسابقات الدولية في كافة الشواطئ.   

* لماذا لم يترك الشاطئ ككورنيش مفتوح مثل كورنيش الإسكندرية؟ 

- الإسكندرية ليست مدينة سياحية، ولكنها تجارية وثقافية، ولمّا ذهبنا إلى فرنسا لمشاهدة السياحة هناك عن كثب، والاستفادة من التجربة الفرنسية لم نجد هناك كورنيشاً أمام القرى السياحية، لأن السائح النزيل يريد الاستمتاع بالشاطئ، فلابد أن يكون بالقرب منه، وكذلك بناء القرى السياحية على الشاطئ مباشرة يوفر الأمان الأكيد للسائح مما إذا وجد مفتوحاَ وتردد عليه النزلاء. 

لماذا لم يتم إنشاء منطقة حرة في سفاجا؟ 

- تم اختيار سفاجا لأن ميناءها نادراً ما يغلق لأنها تطل على بحر مفتوح بعكس أي مناطق في الخليج، حيث أن الخليج من الممكن أن يغلق كله مثل مدن الخليج العربي التي من الممكن أن تتأثر بأي أحداث تتعرض لها المنطقة، وتقع سفاجا في موقع متوسط يربط الشرق العربي بأفريقيا، وكنت أخطط لها أن تكون بديلا عن "هونج كونج"، وتم التخطيط لذلك، وكانت من المخطط أن تكون حق انتفاع للمحافظة، وإيراداتها تعود للدولة ونقلت محافظاً للجيزة، وتوقف المشروع .
-------------------------------
حوار وتقديم/ أبو الحسن الجمال * 
* كاتب ومؤرخ مصري 






اعلان