17 - 07 - 2024

"البحث عن مصر" كتاب جديد لخالد عزب يطرح أسباب غياب النكتة من حياة المصريين

صدر عن "بيت الحكمة" كتاب "البحث عن مصر" للدكتور خالد عزب، وهو لا يتألف من فصول متعاقبة، فغرضه هو اثارة الأذهان. 

ينطلق الكتاب من ضرورة أن تعيد مصر بناء نفسها، هويتها، وفلسفتها، ويرى مؤلفه أن ذلك لن يأتي إلا عبراستعادة المجهول والمنسي والمتغافل عنه من تاريخها وتراثها؛ لكي يجري البناء عليه. ومن ثم فإن هذا يعني أن هناك اشكاليات عميقة في فهم الهوية والذات المصرية وبالتالي الوطن. 

البعض يرى أن مثل هذه الأطروحات هي من قبيل الرفاهية، وفي واقع الأمر إنها في صلب الحياة وفي صلب فهم مصر؛ ذلك الوطن المركب ذو الطبقات المعقدة في وجدان المصريين.

ويؤكد خالد عزب أن كل الدول الراغبة في التقدم، تفعل ذلك، ولنا في اليابان مثلا وقدوة. فقد رأت بعد الطفرة الاقتصادية في السبعينيات ولع شبابها بالنموذج الغربي وبثقافة الاستهلاك، لكن سرعان ما قامت بمراجعة حقيقية وشاملة أحدثت بها توازنا في شخصية الأجيال الجديدة، فركزت على الحداثة والعلم وأكدت في الوقت نفسه على الافتخار بالتاريخ الوطني على كافة الأصعدة.

الكتاب ينطلق مما سبق إلى إعادة اكتشاف مصر، وإعادة تقديمها بصورة جديدة من خلال أيضا بناء تصورات للمستقبل. فالكاتب يطرح التعليم المدمج كحل لأزمة التعليم في مصر. ويقدم رؤى لعلاقة المصريين بتراثهم ويبحث عن أسباب غياب النكتة من حياة المصريين المعاصرين. 

في هذا الكتاب يؤكد المؤلف أيضا أن الحديث عن مصر دار خلال القرنين 19 و20 حول بناء الدولة المركزية المعاصرة، وعلى رأسها الحاكم الذي يحدث تحولات جذرية تغير وجه مصر، لكن في حقيقة الأمر أن التحولات الحقيقية حدثت نتيجة لرغبة المصريين في إعادة بناء بلدهم بصورة مختلفة، حينما كان رأس السلطة يذهب بعيدا عن ذلك الهدف. 

إن من الأخطاء التاريخية الشائعة التي يكشفها خالد عزب أن محمد على هو أول من تولى حكم مصر بناءً على رغبة المصريين.لكن الحقيقة التاريخية تقول إنه خلال القرنين 17 و18 الميلاديين عزل المصريون عددا من الولاة بسبب ممارسات السلطة ضدهم.كانوا يحاصرون القلعة (مقر الحكم في ذلك الوقت) ويعزلون الوالي الذي يغادر مصر ليرسل السلطان العثماني بديلا له. لكن حينما أصر المصريون على عزل خورشيد باشا، حدث تحول نوعي، إذ فرضوا على السلطان العثماني واليا اختاروه وفق شروطهم واشترطوا عليه خريطة طريق لحكم بلدهم. 

قيام وانهيار

نكث محمد على بوعوده مع النخبة التي صعدت به إلى سدة الحكم، بل ونفي عمر مكرم وهمّش "الجمعية الوطنية" ثم ألغاها وهي مجلس من طوائف المصريين والأمراء والمشايخ كان أشبه ببرلمان يشارك في صناعة القرار خاصة في شئون الحياة اليومية. سرعان ما حقق محمد على تنمية شاملة ونوعية، لكنها كانت تدور في فلك رغبته الشخصية في انهاء حكم الدولة العثمانية، وأن يكون هو البديل مع أسرته. 

لكن هذا تحطَّم على صخرة الرغبة الأوروبية في ابقاء "الرجل المريض" (الدولة العثمانية) على ما هو عليه لالتهامه، وعلى اتفاقية لندن 1840 م. عندئذ كانت البعثات قد عادت إلى مصر، وصارت جزءا من منظومة الدولة، فبدأت هي من تطرح تصورات حول المستقبل. فكان لها دورها في نقل التنمية من التمحور حول الجيش كأداة لتحقيق طموحات محمد علي، إلى المشروعات التي تحدث نقلة نوعية في وجه مصر. 

وعلينا في هذا الصدد – يقول خالد عزب - أن نراجع ديوان الأشغال ووثائقه، فبدأت مصر تستفيد بصورة كبيرة من حركة نقل البريد البريطاني والركاب عبر مصر، وبدأت حركة تجارة وتصدير غير مسبوقة، أدرك خلالها إبراهيم بن محمد علي أن النهضة العلمية هي أداة جيدة لكي يستقر الحكم لأسرته، فزار بريطانيا وبدأ ينظر لها كنموذج مناسب لمصر، غير أن وفاته عقب هذه الزيارة عرقلت هذا المشروع الجديد نسبيا. 

وبدوره، كان عباس حلمي الأول مدركا للدور السلبي لنهب مصر من قبل الأجانب، ولخطورة المنافسة الفرنسية البريطانية على نهب خيرات البلد، وأدرك من خلال معاصرته لمحمد علي في الحكم أن حفر قناة السويس هو مقدمة لاحتلال مصر. لذا انحاز لمشروع بريطانيا، وهو إنشاء خط سكة حديد من الإسكندرية للسويس، لنقل البضائع والركاب والبريد ولاختصار الوقت بين أوربا وآسيا. لم تغلق المدارس في عهد عباس الأول ولم تتوقف البعثات، بل حافظ على مصر دون ديون، وأنشأ أول مدينة معاصرة كامتداد للعاصمة (العباسية). 

لم يكن سعيد باشا شخصا ذا عقلية فريدة بل بلا طموح حقيقي، لم يتمرن على الحكم كسابقه، لكنه وقع أسوأ عقد في تاريخ مصر هو امتياز حفر قناة السويس دون أن تحصل مصر على ما يوازي هذا الامتياز، بل كان المساهمون الفرنسيون هم الرابح الأكبر على حساب الفلاحين الذين عملوا في السخرة وعلى حساب السيادة المصرية والخزينة المصرية.

دور النخبة

على الجانب الأخر كان لتغلغل النخبة التي تعلمت في أوروبا، دورا في بناء دولة عصرية عبر التكنوقراط الذين سعوا لتكريس الملكيات للأراضي الزراعية لأهالي البلد وهو ما تم، ثم في السعي لتحديد من هم المصريون، ثم في اصدار عدد من القوانين والأوامر التي تبني هيكلية جيدة ومعاصرة لإدارة الدولة. هؤلاء تغلغلوا في إدارة شئون الدولة، فكانت هناك منهم محاولات للحد من سلطات "ولي النعم"، لكن على استحياء شديد أو بتوجيه قراراته وهو ما نجحوا فيه بصورة نسبية.

كانت هذه النخبة التي حدث لديها نقلة نوعية في الإدراك والمعارف نتيجة لانتشار الكتب المطبوعة والمترجمة في عصر الخديوي إسماعيل مختلفة، خاصة مع صعود الصحافة التي بدأ معها وعي من نوع مختلف. كان الخديو إسماعيل طامحا إلى حكم بلد أوروبي من حيث الشكل، ومن حيث المضمون قائم على فكرة أن ولي النعم يملك الأرض ومن عليها، أي بمفهوم الاستبداد الشرقي. في الوقت الذي كان المصريون من المتعلمين يرون أن على مصر أن تأخذ بأسباب التقدم،فتكون على رأسها حكومة لديها سلطات. 

المعركة بدأت مع الخديوي في الفصل بين ماليته ومالية الدولة، وتحديد سلطات لمجلس وزراء يدير الشأن العام. كانت الصدمة مع هزيمة الجيش المصري في الحبشة قاسية. ولكنها أدت للمناداة بأن مصر للمصريين. فالضباط الأتراك أهملوا في المعركة وكانوا سببا في الهزيمة. وطرحت هذه النخبة خيبات أمل في دولة نحن نتبعها هي الدولة العثمانية، والتي كانت أقل تقدما من مصر آنذاك، وتحصل على ضرائب سنوية دون أن تقدم شيئا، وتسببت في امتيازات للأجانب ساعدتهم على نهب ثروات الوطن.

مصر للمصريين

هذا كله بلور مصر للمصريين، لكنها دعوة كانت خافتة بسبب عدم تخيل المصريين الخروج من عباءة الدولة العثمانية. تسبب جموح الخديوي إسماعيل في ديون قاده لها ارتفاع أسعار القطن نتيجة للحرب في الولايات المتحدة الأمريكية؛ أكبر مصدر للقطن في العالم آنذاك، فأسرف في الديون. وكان أن توقفت الحرب في الولايات المتحدة وانخفض سعر القطن. فعجز عن السداد وباع أسهم مصر في قناة السويس بثمن بخس لبريطانيا لتفقد مصر المكسب الحقيقي من مشروع القناة، وليمهد لمطامع بريطانيا في السيطرة على مصر. فما كان إلا أن تدخلت الدول الأجنبية في إدارة مصر ثم في احتلال بريطانيا لمصر تحت دعوى حماية مصالح بريطانيا والدول الأوربية والدائنين.

إن الاحتلال البريطاني لمصر واكبته خيانة السلطان العثماني الذي أعطي الشرعية لهذا الاحتلال عبر فرمانات متتالية كانت أحيانا متضاربة، فشاركت قوات تركية مع الجيش البريطاني في احتلال مصر. تصاعد أثناء وبعد الثورة العرابية نداء أن مصر للمصريين، وبدأ الصوت الخافت يعلو.كانت مصالح مصر تقتضي فصلها عن الدولة العثمانية، فنزل "الحزب الوطني الحر" الذي كان حزب الثورة العرابية ليعمل تحت الأرض، وكان من أعضائه الإمام محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم، وخاض حركة مقاومة ضد قوات الاحتلال وهو ما لم يُلق عليه الضوء إلى الآن.

اتفاقية الجلاء 

كان الانجليز قد أرهقوا من مقاومة المصريين، خاصة من التكنوقراط داخل الدولة، ثم من المقاومة بصور متعددة، حتى بدأوا مفاوضات مع "الحزب الوطني الحر" توصلت لاتفاقية جلاء الانجليز عن مصر عام 1898 م، وقد كشف عن جانب منها الدكتور عماد أبو غازي، ثم ما نشر من الأرشيف العثماني الذي أوضح أن السلطان العثماني رفض التوقيع عليها؛ لأن بها شرطا بإرسال 6 آلاف جندي تركي لتأمين مصر لحين بناء جيش وطني، وهؤلاء إذا جاؤوا مصر ورأوا حرية الرأي بها سيكونون خطرا عليه بعد ذلك. فكان أن خاض "الحزب الوطني الحر" مفاوضات لتسوية الأوضاع مرة أخرى، نتج عنها عودة عبد الله النديم للحياة العامة ومعه المنفيون من العرابيين. 

فصدر الجنيه المصري إعلانا لاستقلال مصر اقتصاديا عن تركيا وبريطانيا، وجرى الحد من نفوذ "صندوق الديْن" الذي شُكِل من إدارة أوروبية وسيطر على اقتصاد مصر، فوضع مواردها لصالح سداد الديون، خاصة مع فشله في إدارة مرفق السكة الحديد الهام للتجارة المحلية والدولية. فعادت الادارة للمصريين. وصنعت مصر عام 1898 أول عربة سكة حديد كرمز لهذا. 

ثم اشترط "الحزب الوطني الحر" الحصول لاحقا على مقاعد في الوزارة واختار التعليم فعين سعد زغلول وزيرا للمعارف ليعطي الأولوية لزيادة موازنتها وزيادة عدد المدارس وبناء جامعة مصرية، لإدراكه أن التعليم هو الذي سيقود وعي المصريين. فكان هذا مدخل سعد زغلول لتجميع نخب من الطلاب والمدرسين حوله ليجدد شباب "الحزب الوطني الحر"، وهؤلاء هم كانوا نواة الحركة السرية التي أدت لثورة 1919 م. 

كانت هذه النخبة هي التي تقود آنذاك وتحجم ضمنيا من سلطة أسرة محمد علي، حتى أنها ساندت الاصلاحات التي أدخلها كرومر في ادارة الدولة على النمط الحديث، أي الفصل التام بين مالية الخديوي، وبين مالية الدولة،وتحديد صلاحيات كل إدارة مع تحديد صلاحيات الخديوي والوزراء ومجلس شورى النواب. هذا يقدم تفسيرا حول علاقة النخب به، والتي توطدت بعد فقدان الأمل في الدولة العثمانية ومساندتها للمصالح المصرية.وكان هذا ظاهرا بقوة في الصراع المصري العثماني على ترسيم الحدود الشرقية لمصر.