26 - 06 - 2024

فى رثاء الخالة: متلازمة الصدمة

فى رثاء الخالة: متلازمة الصدمة

يأتينى خبر الخالة الغالية، تتلقاه أذنى، أسمعه جيداً لكن فى نفس اللحظة ينكسر الزمن إلى أجزاء، نقاط على خط طويل، وربما هى خطوط قصيرة متقاطعة ، كأنها شظايا زجاج مكسور بعضها يعكس بعضاً. نقطة لايزال العقل عندها مشلولاً، لكنه يبدأ فى الانسلاخ من بعضه البعض بيسر شديد وكأنه شرائح من صدر دجاجة مطهوة أكثر من اللازم تتفتت عند أول لمسة. بعض من هذا البعض يقوم من الفراش، يجرى الاتصالات، يجهز حقيبة السفر ولوازمه ويرتب حال البيت فى الغياب، وبعض من هذا البعض يقرأ القرآن ويتابع القادمين إلى الجنازة من كل اتجاه، وبعض من هذا البعض يرسل رسائل المواساة وجبر الخواطر، وبعض من هذا البعض مربوط فى مقعد أمام شاشة عرض كبيرة تستدعى وفاة الوالدة وشعور الارتياح الأول عند الوفاة، الراحة بأن آلام المرض قد حلت من على جسدها، وأن أيام النصب والكدح قد ولت وهنيئاً لها الفردوس إن شاء الله، ثم الاستيقاظ يوماً ما ليدرك أخيراً، وبلا حول منه ولا قوة، أنها قد رحلت! ر.ح.ل.ت!  وأن الفجوة التى خلفتها بلا نهاية وأخطر من أن يعبر فوقها أو يقف بجانبها دون السقوط فى هوة الحزن.

 كانت لهما نفس النظرات ونفس اللفتات، ونفس الرائحة وجلباب المنزل، والأحاديث الطويلة على الهاتف والأريكة، التى كنا نشاركهما فيها أو نتركهما لها. كانت رؤيتها بعد أمى هى العذاب العذب، ففى كل ضمة أو قبلة كنت أشعر بوجود أمى وغيابها، معا! معا! لكننى كنت أمرغ رأسى فى صدرها علنى أشتم ريح أمى.

 وبعض من هذا البعض ينظر على أولاد خالتى ، أخوتى، عاجزاً سوى أن يحتضنهم ويطمئنهم بينما هو نفسه مرتعب، وبعض من هذا البعض يستدعى صوراً تغمرنا كل ليلة لقتلى وموتى لايجدون من يدفنهم فى بلد الزيتون والزعتر ويقول بصوت عميق كأنه فيلسوف حكيم :"عاشت الخالة حياة عامرة والحمد لله، حققت الوالدة فى حياتها ماتبغاه والحمد لله، ماذا تريدون أكثر من هذا؟ ويرد بعض البعض عليه: "بالفعل يا حكيم، الحمد لله" ويبكى بعض من البعض بصوت خفيض ويقول :" ولكن كل حياة هى حياة! وكل مفقود هو مفقود وغال يأخذ معه بعضاً من بعضى!" 

 كل بعض البعض يقفون على نقاط الخطوط وكأنهم مرايا لنفس الوجه، أراهم جميعا وكأننى لا أعرفهم.أتركهم جميعا وأعود للنقطة الأولى التى وقف عندها الزمن لأجدنى صغيرة، صغيرة للغاية، ربما دون الرابعة، مع أمى ليلاً نتسوق، وقفتُ أمام عربة محملة بالليمون على ناصية ثلاث شوارع، رصص البائع فيها بضاعته بعناية فائقة على شكل أهرامات، أظننى لففت حول العربة لفة كاملة مذهولة من جمال التراص، وربما حدثتنى نفسى أن أمد يدى وألتقط ثمرة من ذلك التشكيل البديع حتى وجدتني فى شارع آخر بدون أمى! التفتُ لأبحث عنها فلم أجدها، وتسمرت مكانى ، تماما كما تسمر عقلى أمام خبر الخالة، هنا تهتز الصورة المحفوظة فى ثنايا الذكريات بفعل غيمة من الدموع والخوف القاهر، خوف يدفع بجسدى الصغير باتجاه أمعائى، وبدأت أنادى "ماما" وسط نشيج متصل، حتى وجدتنى هى، ولم أعبأ بتوبيخها بل دسست يدى وسط يدها. من يومها تزورنى هذه الطفلة المذعورة أمام عربة الليمون كلما حمل لى القضاء فاجعة جديدة، تبقى معى زمناً تحدده هى، يصطحبها فى زيارتها الخوف القاهر الذى يدفع بجسدى الكبير إلى أمعائى وينكسر الزمن إلى نقاط على خطوط وكل النقاط تحمل شظايا من زجاج يعكس بعضها البعض وكلها يعكس وجهى أنا.
---------------------------------
بقلم: د. منى النموري

مقالات اخرى للكاتب

فى رثاء الخالة: متلازمة الصدمة





اعلان