16 - 08 - 2024

مئة وعشرون يوما من التحليلات الهدّامة: لماذا يتمسك نتنياهو باستمرار عدوانه ويتمادى في تعنته؟

مئة وعشرون يوما من التحليلات الهدّامة: لماذا يتمسك نتنياهو باستمرار عدوانه ويتمادى في تعنته؟

 مع تجاوز عمليات القتل والتدمير الممنهجة التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حاجز المئة وعشرين يوما؛ تخلقت بواسطة التحليلات والتعليقات اليومية في وسائل الإعلام – على اختلاف مواقعها ومشاربها – ما يمكن تسميتها تجاوزا بمُسَلّمات أو قواعد لفهم وتفسير يوميات الأحداث الجارية ذات الصلة، ولم يعد أحد ليجرؤ على تحديها أو حتى المجادلة فيها. والمشكلة أن التسليم باعتماد هذه المسلمات التي يتداولها المحللون والمعلقون أرضيةً لفهم مجريات الأحداث ومآلاتها؛ يقودنا إلى مسارات فكرية تصب في خدمة المشروع الصهيوني الإمبريالي، من خلال تعطيل إرادة الفعل والمقاومة لهذا المشروع. 

وأخطر ما تفعله هذه المسلمات الفاسدة منطقيا أنها تحصر قراءة ما يجري في إطار اليوميات، وتنظر فيه عبر مقاربة واحدة لا مجال للتمرد عليها؛ ومن ثم تصادر أي فكر أو تفسير أو اقتراح أو تحليل يرفضها أو يزدريها؛ بما يسهم في إبقاء الحال على ما هي عليه؛ حتى ينتهي الكيان الصهيوني من استكمال جريمته المشهودة مرتاحا آمنا من العقاب. والأكثر خطورة هو أن ترسيخ هذه المسلمات الوهمية يصادر نظيرتها المؤكدة المرتبطة بتاريخ الصراع على فلسطين وجذوره التي يجري السعي إلى تغييبها والقفز عليها؛ فيقمع أية تأملات فيما هو استراتيجي لحساب أحداث يومية تراكم له.  

والبادي أن أشهر وأخبث هذه المسلمات هي أن رئيس حكومة إسرائيل نتنياهو يعمل على إطالة أمد الحرب على غزة - وهذا هو التوصيف المتداول لما يجري في قطاع غزة – لأهداف ومصالح شخصية ؛ تتعلق بمحاولة الإفلات من نتائج محاكمته في أربعة ملفات قانونية متهم فيها بالرشوة والفساد وخيانة الأمانة، والإضرار بالأمن القومي للكيان، وتتعلق أيضا بمستقبله السياسي، وباستمرار ائتلافه الحاكم حتى نهاية المدة القانونية للحكومة التي يرأسها، وبالحفاظ على تماسك وشعبية تكتل الليكود الذي يتزعمه، واستمراره زعيما له، وبتبرئة ساحته من المسؤولية عما جري في السابع من شهر أكتوبر العام الماضي؛ عبر توريط المؤسستين الأمنية والعسكرية في مزيد من الأخطاء التي تضمن إلقاء تبعات التقصير بالكامل عليها . 

توجد مسلمة أخرى لا تقل شهرة وخبثا عن المسلمة المدعاة السابقة ابتكرها نتنياهو ضمن منظومة تاكتيكية وضعها لمواجهة الكارثة التي حلت به وبكيانه المهزوم، وأعني بها المنظومة التي أسماها أهداف الحرب، والتي منها تمت صياغة مسلمة " اليوم التالي في غزة بعد الحرب"، وهي مسَلمة لم يلتفت أحد للبحث في مغزاها كاصطلاح من منحوتات نتنياهو الدراماتيكية المعتادة! فاليوم التالي للحرب عنده هو اليوم التالي لنهاية حماس، أو غزة؛ بما فيها ومن فيها؛ بمعنى أن اليوم التالي هذا لن يأتي أبدا، أو على الأقل لن يأتي قريبا، أو لنقل إنه سيأتي في اللحظة التي يستدعيه هو فيها؛ مع إمكانية الادعاء إلى ما لانهاية بوجود بواقي! من عينة الأفكار التي يتربى عليها أطفال غزة في كتاتيب تحفيظ القرآن، والترجمة العربية لكتاب أدولف هتلر "كفاحي"! واليوم التالي كاصطلاح تلقفه المحللون - ربما بسبب جدته و وقعه الملفت في ثنايا التحليل - يسقط التفاعلات الجارية على واقع غير منظور وغير معين ، أو لنقل يضعها في فراغ مقطوع الصلة بتراكم الأحداث و النتائج المتجسدة على الأرض ؛ و من ثم يتم صرف النظر عن متابعة و تقييم ما جرى و ما يجري و المحاسبة بشأنه و مراجعته ، و هو يتضمن ضمن توليفته المركبة و المربكة قدرا كبيرا من الإحالة و التمويه و المخادعة ؛ على اعتبار أن اليوم التالي هو بالضرورة يوم تالٍ للطرفين معا ، و ليس لغزة وحدها ، والأرجح أن يكون معنيا بتل أبيب أكثر مما هو معني بغيرها. 

ومن أمضى المسلمات الوهمية الفاسدة تأثيرا على إرادة الجماهير المنحازة للشعب الفلسطيني على اتساع العالم؛ مقولة عبثية تحولت إلى مرشد حاسم للتحليلات و التعليقات بل التحركات السياسية المائعة لتطويق الأزمة من قبل جميع الأطراف، وهي مقولة تدعي أن عدم انسحاق المقاومة الفلسطينية أمام الجيش الإسرائيلي هو انتصار لها وهزيمة للكيان المهزوم. وقد ألحقت بها مسلمة مستحدثة مفادها أن هذا الجيش - بفضل براعة المقاومة - لم يحقق أية إنجازات ملموسة على الأرض، ولن يفعل ذلك في المستقبل، متجاوزة بكل بساطة كمّ الدمار وحجم الإبادة الذي تعرضت له غزة وشعبها؛ بما جعل من القطاع منطقة غير قابلة للحياة؛ سكانه مهددون بالموت جوعا وعطشا، أو عن طريق الافتقاد إلى العلاج الطبي لعشرات الآلاف من الجرحى؛ ناهيكم عن تعرض مجمل سكانه الذين تم تكديسهم في حيز ضيق جنوب القطاع إلى الأوبئة والأمراض الفتاكة. ومن المفهوم أن هذه المسلمة تمهد الطريق لإنهاك المقاومة حتى يتم الإجهاز عليها وتصفيتها، والأهم أنها تعفي الأطراف المعنية بحماية الشعب الفلسطيني كالتزام قومي تاريخي ومصيري وأخلاقي من القيام بأدوارها الواجبة. إنها مقولة/مسلمة مريحة تدعو إلى الاسترخاء والسلبية وتبرئ الذمم وتبرر الصمت والرعونة البادية تجاه ما يقوم به الكيان المحتل بحق شعبنا الفلسطيني؛ على اعتبار أن فصائل المقاومة قادرة بمفردها على مقارعة الجيش الإسرائيلي المدعوم من جيوش مشغليه الجرّارة!  

ومن تلك المسلمات الفاسدة مجموعة مستجدة، وأخرى أولية بينت التطورات فسادها بالفعل؛ لكنها لا تزال متداولة؛ وإن تمت إعادة صياغتها؛ لتلائم الحقائق المرئية؛ أبرزها أن حجم الأسرى الصهاينة لدى المقاومة يلجم الآلة العسكرية للكيان المحتل، وهي مسلمة مدعاة أعيدت صياغتها بالقول إن مؤسسات الكيان المعنية مهتمة بالحفاظ على حياة هؤلاء وتحريرهم، وهو ما سيدفعها إلى وقف حرب الإبادة التي تخوض فيها. والحقيقة التي تأكدت بمرور الوقت أن إنهاء حياة هؤلاء الأسرى هو هدف أساسي في الخطة التي وضعها نتنياهو لما بعد السابع من أكتوبر. منها أن الإدارة الأمريكية ليست بقادرة على منع الكيان الصهيوني من الاستمرار في التنكيل بشعبنا الفلسطيني المقاوم، إن اتساع النزاع المسلح بدخول أطراف إضافية فيه هو خطر داهم ومدمر، بمعنى العمل على ترك المقاومة وحدها في مواجهة الكيان وحماته الرئيسيين، والاكتفاء بالفرجة والتصفيق لصمود المقاومين ومعهم مليونين ويزيد من الفلسطينيين المحاصرين العزل المطاردين. ومنها أيضا أن مجلس الأمن الدولي والهيئات التابعة للأمم المتحدة والضغوط الدولية المتنوعة قادرة على إرغام الكيان الصهيوني على التوقف، وعلى التخلي عن مشروعه القديم الذي تتعاظم فرص إنفاذه؛ وهو المشروع الخاص بترحيل الفلسطينيين خارج أرض فلسطين التاريخية. ومنها أن اللحظة التي سيقرر فيها بيني جانتس و جادي آيزنكوت الانسحاب من مجلس الحرب - كأن هذه اللحظة وعد إلهي محتوم - سيخرج فيها الجمهور الإسرائيلي بالملايين إلى الشارع لإسقاط نيتانياهو و حكومته و إقصاء اليمين المتطرف ؛ ليتجه الكيان إلى انتخابات مبكرة قبل نهاية العام الجاري؛ تأتي بحكومة عاقلة توقف الحرب و الإبادة ، و تكافئ الفلسطينيين بدولة مستقلة عاصمتها القدس !   

و توجد مسلمات يمكن أن توصف بالتصورية ؛ بمعنى أن المتلقي الفطن دون غيره يتوجب عليه أو من المفترض أنه يدركها بغير أن يشار إليها صراحة ؛ كأنها نموذج للمنطق الأرسطي البسيط ، و أشهرها أن غياب نيتانياهو و حكومته عن الساحة سيؤدي من الفور إلى وقف القتال في قطاع غزة ، و دخول الاحتياجات الحيوية إلى سكانه بما يكفي و يفيض ، و سيفتح الإقليم على مرحلة جديدة من الهدوء و السكينة و التمكين لحل الدولتين ؛ باعتبار أن اتفاق أوسلو لا يزال على قيد الحياة ، و أن تل أبيب ملتزمة به ، و أن السلطة الفلسطينية في رام الله التي تأسست بموجبه ستظل باقية ، و ستحافظ – حتى يأتي " اليوم التالي " – على الهدوء النسبي للضفة ، و ستنأى بها عن النزاع !  

***

لأسباب مفهومة ؛ لا أعتزم بالطبع تفنيد كل هذه المسلمات المدعاة واحدة تلو الأخرى ، و سأكتفي بالتشديد على أهمية المسلمة الفاسدة المعنية بأهداف نيتانياهو من وراء استمرار عدوانه الإجرامي على قطاع غزة ؛ كون هذه المسلمة التي تحمل بالتأكيد قدرا من المعقولية و الواقعية ؛ هي - في تقديري - الأهم و الأكثر حسما في فهم ما يجري ، و التتنبؤ بما هو قادم ، و الولوج إلى ما هو استراتيجي و حاكم في مجريات هذه الحرب بل الصراع ، و لكي أجعل منها تأسيسا أو توطئة منطقية لمقالات تالية تفندها بشروح مستفيضة ؛ تستند إلى خبرة سنوات طويلة من البحث و الدرس و التفاعل مع قضية الشعب الفلسطيني ؛ ضمنها خبرات ميدانية ليست عابرة بالواقع في  فلسطين التاريخية ؛ تخللتها لقاءات مطولة مع الكثير من القادة و المسئولين و الناشطين على الجانبين ؛ ممن أثروا في مجريات الصراع لعقود ممتدة .  

وأختم بالقول إن ما هو مطلوب من قارئ هذا المقال – في الحد الأدنى – أن يحاول تقدير كمِّ التضليل الذي نعيشه مع شيوع هذه المسلمات التي يستند إليها غالبية المحللين والمعلقين؛ وأن    يتدبر مدى تأثيرها في نتيجة هذه الحرب – وفي مآلات الصراع – التي يضع لها نيتانياهو عدة مسارات بديلة؛ حال اضطر إلى خفض الوتيرة في غزة؛ بما يسمح بالتأكيد بتزايد العوامل الضاغطة عليه في داخل الكيان. ولهذا بالطبع علاقة وثيقة بالمسلمة التي خصصناها بالتشديد عليها، وعلاقة أوثق بالاستراتيجية الوديعة التي اختطها الإقليميون المعنيون بالصراع القائمة على أن النأي بأنفسهم عن هذه الحرب، وتركها للفلسطينيين يخوضونها منفردين؛ سيجنبهم الانزلاق إليها، وسيجعلهم يخرجون من الفرجة الممتعة عليها بدون أدنى خسارة!   

مشكلة بنيامين نيتانياهو الأساسية ليست في فقدان السلطة أو الذهاب إلى السجن؛ على خطى أولمرت وكاتساف، أو حتى في أن يحظى بنهاية مأساوية لمسيرة سياسية حافلة، فهذه كلها أمور واردة و مقبولة منطقيا في حساباته، وقد لا يقدر على منعها؛ حتى بعد أن تمكن من ربط مصير كل المحيطين به بمصيره و استمراره ووجوده؛ بمن فيهم الرئيس الأمريكي جو بايدن. هو يعي ذلك ويفهمه جيدا! 

إن ما يتعين النظر فيه بإمعان هو " ما بعد نتنياهو"، وليس "اليوم التالي" بعد حماس. فكلاهما يبدو بعيدا: الأول بعيد زمنيا، والثاني بعيد المنال!  
---------------------------
بقلم – عبد المجيد إبراهيم 

   

مقالات اخرى للكاتب

مصر جميلة .. مصر غريبة! | قيادة جديدة أم سياسة جديدة أم ماذا؟