17 - 07 - 2024

استراتيجية بنيامين "الثالث" – جذور الكارثة

استراتيجية بنيامين

"سنحقق نبوءة إشعياء ... أنا ابن والدي بن زيون و تلميذ لجابوتينسكي ، و منهما تعلمت ... أريد أن يتذكرني الناس باعتباري الحامي لإسرائيل" – من أقوال بنيامين نيتانياهو 

يأخذنا هذا المقال إلى جوانب ليست مطروقة - في العادة - من جانب المشتغلين في الحقل الاستراتيجي ؛ إذ يبدو أنهم يصنفونها ضمن الأسرار الكهنوتية للمهنة ! و هو يعالج جزئيا العملية المدبَّرة بمعرفة بنيامين نيتانياهو منذ عهد بعيد لضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية و ما حولها إلى كيانه المصنوع .  

قد يَحمل القراء عنوانَ المقال على محمل الدعابة ! و ليس هذا هو المقصود . فالمتتبع للمسيرة السياسية لنيتانياهو مُذ كان أميرا يافعا في " البلاط الملكي " لتكتل ليكود ؛ بمقدوره أن يرصد تحولات لافتة فيها ؛ تكاد تعادل ما نلاحظها في سلاسل ملوك الأسر الحاكمة ؛ في أوربا العصور الوسطى كمثال. والفارق الوحيد هو أننا نتكلم هنا عن شخص واحد ؛ لكنّه يعبر تباعا عن عهود متباينة ، و ليس عن سلالة ملكية حقيقية . 

و المفارقة أن عهود بنيامين الملكية في حقبة الصراع الممتدة على فلسطين التاريخية ؛ قد استُهلت في ميدان " ملوك إسرائيل " ؛ حيث اغتيل رئيس الوزراء العمالي رابين منتصف التسعينات ؛  برصاصات يمينية متطرفة ؛ ليعتلي هو بعدها بشهور قليلة سدة الحكم ؛ متخطيا أمراء الليكود الأقوياء آنذاك ؛ من عينة مريدور . ثم إن تلك العهود قد سجلت ذروتها الدرامية ؛ بانسحابه من حكومة شارون 2005 ؛ احتجاجا على خطة الأخير لفك الارتباط التي تبناها خلفُه أولمرت ؛ ليعود بعدها إلى السلطة في 2009 - و قد بات البلدوزر في موت سريري ، و أصبح أولمرت غارقا في قضايا فساد ؛ تمت إدانته و سجنه فيها بالفعل !!   

و الحقيقة أن الأمر يبدو أعقد من ذلك بكثير! فنحن الآن أمام رجل يتقدم نحو إنهاء حياته "الملكية" بخطى عنيدة ؛ لسبب مؤكد واحد على الأقل هو تقدمه في العمر ؛ إن لم يكن ينتوي السير على درب والده ، أو على خطى فرعون موسى . و المعتاد أن يأتي الملوك و من على شاكلتهم في هذه الوضعية بتحولات انقلابية مروعة ؛ تُظهر على نحو فجّ ما كان مخبوءا - لاعتبارات براجماتية - في صدورهم من قناعات و تصورات عن الذات و العالم . وعادة ما تنتهي هذه الظاهرة إلى نهايات كارثية مؤلمة تعصف بهم ، وبمن تتعلق مصائرهم بأفعالهم الخارجة عن أية اعتبارات منطقية وتنتمي إلى الواقع . فمن يكون بنيامين " الثالث " هذا ؟  

بنيامين " الثالث " ليس ليكوديا بالمواصفات التي نراها عند القواعد العريضة لهذا التكتل ؛ بل هو - على وجه التقريب - الوريث الشرعي الأخير لقادة حزب حيروت " الحرية " القديم العقائديين الذين استلبوه مبكرا ؛ لحساب عصبة جابوتينسكي الذي عمل معه والد بنيامين بن زيون في صباه ، و الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم المدافعين الأشاوس عن الصهيونية ، وحماتها المغاوير . 

وهؤلاء هم من أوقعوا المنظومة السياسية في إسرائيل في أزمتها التي تحتد بمرور الوقت ؛  بإجهاض المحاولات التي بذلت تباعا لإصلاحها ، والدخول في معارك صبورة متواصلة مبعثها ازدراؤهم للتنوع الفكري ؛ انتهت بتهميش قوى اليسار ، وتحطيم حزب العمال ، وسيادة القوى اليمينية و الدينية على الخريطة الحزبية ؛ لدولة باتت أقرب إلى ثيوقراطية تشرعِن الاحتلال باعتبار الأرض " حقّا توراتيا ". 

بنيامين " الثالث " ابن أبيه الذي تربى في أحضانه عاشقا متيّما مأخوذا بالتاريخ الذي كان يخطّه في عقله ، وفي الموسوعة العبرية التي تحتل ركنا متميزا في مكتبته الخاصة ، والتي ربما شاركه في إعداد مجلدها التعريفي - هو صهيوني يميني متطرف ؛ تشرّب مبادئ الصهيونية التصحيحية ، يؤمن بإسرائيل الكبرى حول ضفتي النهر وإلى عمق الصحراء السورية وصولا إلى النهر الآخر ، و هو الامتداد الطبيعي لبيجن و شامير و غلاة دعاة الاستيطان . 

و عند بنيامين " الثالث " ؛ الصهيونية هي فصل من فصول الخلاص ؛ أنقذته العناية الإلهية من الموت مرارا في ساحات المعارك ؛ ليلعب فيه دور البطولة إلى ما قبل انطلاق المشهد الختامي المتمثل في عودة " المسيا " و تحقيق نبوءة نهاية العالم . و لهذا ؛ فالإيرانيون - الفرس في تعريفاته المأخوذة عن الوالد المعلم ؛ ما هم إلا ياجوج و ماجوج الذين يتوجب إخضاعهم لاستعادة مملكة داود ، وبناء المعبد في " المركز "! بنيامين " الثالث " هو رئيس وزراء إسرائيل الذي يعيش في القرن الواحد و العشرين ، ويستدعي من التوراة قصة أحشويروش و هامان و "إستير - التي هي من قبيلة بنيامين" ؛ ليلمح إلى دوره المقدّر في إنقاذ الشعب اليهودي ، وليبرهن على سعي إيران التاريخي لتدمير اليهود - ليس من المستبعد أبدا أن يقدم إلينا قريبا دروس بسّام جرّار مبررا للسيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية ؛ منعًا لنبوءاته المفجعة من التحقق !  

بنيامين " الثالث " هو خلاصي رؤيوي على غرار الزمرة التي تكفلت معه بصياغة "صفقة القرن" : الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي يستقي أفكاره من فيلسوف التناقض شتراوس و الديانة المشيخية البروتستانتية ، والذي يؤمن إيمانا راسخا بعقيدة الألفية ، وصهره اليهودي الأرثوذكسي الذي تسكنه هذه العقيدة ، ومستشاره الخاص في الشأن الإسرائيلي المحامي اليهودي الأرثوذكسي جرينبلاط ، وسفيره لدى إسرائيل فريدمان المحامي اليهودي الصهيوني الداعم للاستيطان الذي طارت روحه ؛ لمّا قدم إليه المستوطنون في بني براك بانوراما للقدس يظهر فيها المعبد على أنقاض الأقصى !  

بنيامين " الثالث " هو الروح التي تسكن جسد رئيس وزراء إسرائيل منذ نعومة أظافره . وهذا هو عهده الذي يمهد - في اعتقاده - للحرب الفاصلة بين الحق والباطل أو بين النور والظلام ؛ بقيادة " المسيا " الذي يجب أن يخضع له الكل ، وتخدمه كل الأمم ، و لإنشاء إسرائيل على أرضها الكاملة . و لقد أصبح على قناعة بأنه موكول الآن بإنجاز الجانب الأهم من دوره الذي اختصه الرب به ؛ معتمدا على المخزون الديني المسيحاني لاصطلاح " العملية PROCESS " الذي توارى عن التداول ، و على جهود " تجار الأراضي و محامييها " الذين تتسق هوياتهم تماما مع هذا المخزون الذي أوصلنا إلى "صفقة القرن CENTURYTHE  OFDEAL" . 

***

إن الاصطلاحات لا تقوم في فراغ ، بل تقوم في سياق رؤية واضعيها التي تستند إلى مبادئ عقائدية وأحكام أخلاقية وقيم ثقافية خاصة . وغموضها يدعم سياسات متصارعة ، و يضلل الفكر و الإرادة ، و يشتت التحليل . 

و عبر بحوث قديمة قمت بها حول ماهية العملية PROCESS - و بالأدق السيرورة - كنت قد انتهيت إلى أنها تعني السير والمضي المتدرج في الأمور القانونية المتعلقة بالأراضي ؛ حتى إن اللفظ يستخدم - في الولايات المتحدة الأمريكية - للإشارة مباشرة إلى مذكرة الحضور إلى المحكمة ، أو إجراءات الدعوى . 

و من الزاوية الفلسفية ؛ تشير العملية إلى تقابل / اقتران المتناقضات ، و الحل الوسط الممكن بين الخير و الشر ، وهذه معانٍ يتردد صداها في مفردات عديدة ذات مضامين عقائدية لها علاقة باللفظ نفسه ؛ مثل الموكب الكنسي عند البيوريتان ، و طقس القربان المعروف الذي يكمله سر الغفران ؛ وصولا إلى الاعتراف أمام الكاهن الذي تكون له سلطة ممنوحة من المخلص ؛ تمنح المرء الغفران ، والسلام ، و تدخله عهدا جديدا . فالعملية - من هذا المدخل - كناية عن الإيمان بقوة أساسية تحكم العالم ، و تجديد هذا العالم ؛ عن طريق أعمال ينال بها المرء نعمة غير منظورة . 

فإذن ؛ للمنحوت الاصطلاحي في السياسة والاستراتيجية أصول عقائدية يدين بها منظّروه ؛ هي وثيقة الصلة بالعقيدة اليهودية ، و رؤيتها الخطّيّة للتاريخ الذي يتحتم أن ينتهي بمطلق هو "العصر المسيحاني" ؛ من خلال عملية تغيير متدرج تحت قيادة الشعب اليهودي ، وبتفويض من الرب ، وهو " العصر " الذي تأخذ فيه فوضى التاريخ شكلا موضوعيا ؛ يتمثل في الجمع بين المتناقضات " فيسكن الذئب مع الخروف " - إشعياء 11 ؛ لينتهي الصراع ، و يحل الخلاص . فالعملية - في التحليل الأخير - تعبير مسيحاني يتصل بجمع شتات اليهود في صهيون ، وتحطيم أعداء يسرائيل ، و إعادة بناء الهيكل ، و بدء الألفية السعيدة . 

ولأن العملية تنطوي على عمل مستمر لتحقيق هدف يصعب التخطيط الكامل لإنجازه ؛ فإنها تقتضي - لإعادة توجيهها - عمليات OPERATION متتالية محددة الإجراءات تسبقها جاهزية كاملة للعمل ، و تستند إلى آلية موضوعة بدقة . لهذا ؛ تكون صفقة القرن و ما سبقتها و تبعتها من أطروحات و أحداث فاصلة في تاريخ الصراع على فلسطين ؛ بمثابة عمليات مخططة متحكم فيها ضمن كلٍّ يجري منسابا في مجراه هو PROCESS .     

و الحل DEAL / أو الصفقة - مثلما دُعيَت - هو الوصول إلى الذروة والغلبة التي يرمز إليها القرن HORN ، والتي تتمثل في مجيء المسيا "لأن الرب قد اختار صهيون اشتهاها مسكنا له ... هناك أُنبت قرنا لداود . رتبت سراجا لمسيحي . أعداءه أُلبس خزيا و عليه يزهر إكليله" - مزامير 132 . و القرن يشير في صلب دلالته إلى الزمن و "العصر" و حلول الموعد المحدد سلفا بأمر الرب ؛ فهو مجاز أكثر عمقا وسخاء و تحميلا للدلالة على القرن من الزمن CENTURY التي تعني هي الأخرى "العصر" ، و التي جرى استخدامها كتقنية للتورية . 

و بهذا ؛ نفهم أن التعبير "صفقة القرن" هو تلخيص له طابع توراتي عميق الدلالة لفكرة الخلاص ؛ يعبر عن الجمع و الوصل والاقتران بين شيئين بينهما تكامل وظيفي ، و يعملان في اتجاه واحد. و من الواضح - بالطبع - أن الإشارة هنا إلى وعد بالفور والسعي الراهن إلى السيطرة على كامل الأرض ؛ و في مركزها القدس ، وهما حدثان يفصل بينهما قرن و يزيد من العمل ؛ للتعجيل بالحل ( الممكن بين الخير و الشر ) -  من أجل الخلاص ( العصر المسيحاني الذهبي ) ، والتجمع في الأرض المقدسة ؛ باعتبار أن هذا هو حكم الرب CENTUMVIRATE " كبير القضاة " . 

***

قلنا في مقال سابق : إن إجماع المراقبين على أن نيتانياهو يريد إطالة أمد الحرب الدائرة الآن لأسباب شخصية ؛ يفتقد إلى المنطق ، و يتجاوز عن التأثير الحاسم للإيدولوجية التي يتبناها القادة في بناء استراتيجياتهم و اتخاذ قراراتهم ؛ فهو يعلم أنه ذاهب إلى السجن لا محالة ، و أقصى ما يطمع فيه هو أن يؤجل هذا القدر ، وأن يظل محتفظا بائتلافه الحاكم حتى ينهي مهمته الأخيرة التي ستجعل الناس يتذكرونه باعتباره حاميا لإسرائيل ، ومحققا لنبوءة إشعياء ، و تشعره هو شخصيا بأنه كان أمينا حتى النهاية لمعلميه الذين تتلمذ على أيديهم . 

إن أهداف نيتانياهو من وراء استمرار عدوانه الإجرامي على قطاع غزة ، وتوسيعه لاحقا باتجاه جبهات أخرى ؛ هي أهداف استراتيجية تتعلق بإيدولوجيته العتيدة التي دفعته – في هذه اللحظة بالذات – إلى التخلي تماما عن براجماتيته المعتادة ؛ ليجاهر بأنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية أبدا ؛ بل يمضي في مخطط أجّله طويلا يرمي إلى إبادة الفلسطينيين وترحيلهم إلى خارج فلسطين التاريخية ، و إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير !  

قبل سنوات قليلة ؛ طرحت هذا السؤال بشكل مباشر على النخبة السياسية في الكيان الصهيوني : إلى أين تحملنا تحولات بنيامين " الثالث " و زمرته الرؤيوية ؟ و ما الذي يجهزونه لمن يعارضون إرادة الرب؟ وقتها لم تكن هناك إجابات حاسمة ، والأدهى أن ما حدث يوم السابع من أكتوبر الماضي ، و ما تبعه من تطورات ؛ كان بعيدا تماما عن أية تصورات تبنى عليها إجابات. وكنت أنا أعتقد أن الإجابة الحاسمة ممكنة بل جاهزة و استراتيجية ؛ فمع بنيامين الثالث انتقل الكيان الصهيوني من يمينية الدولة إلى يهودية الدولة إلى أصولية الدولة . و لهذا ؛ فإن القادم أعظم وأشد هولا !!!  
-------------------------------
بقلم - عبد المجيد إبراهيم 

مقالات اخرى للكاتب

مصر جميلة .. مصر غريبة! | قيادة جديدة أم سياسة جديدة أم ماذا؟