17 - 08 - 2024

كيف اندثرت الصحافة الفنية في مصر؟ .. حواديت يكتبها: طاهـر البهـي

كيف اندثرت الصحافة الفنية في مصر؟ .. حواديت يكتبها: طاهـر البهـي

لازلت أذكر يوم دعانا الكاتب الصحفي مفيد فوزي لاجتماع موسع عاجل وقت كنت أعمل بمجلة صباح الخير تحت قيادته، وكان لا يدعو لمثل هذا الاجتماع بهذه السرعة إلا لأمر عاجل ومهم؛ إما زيادة في التوزيع أو كارثة؛ فقد كان يكرر أنه لا يجيد حكي المصاطب، وبالفعل جاء الاجتماع ليخبرنا بنبأ هام: دار أخبار اليوم تستعد لإصدار مجلة فنية بعنوان أخبار النجوم!

كان الخبر بالنسبة لي كصحفي ناشيء لا يعني مبررا لاجتماع بهذا التوسع في عدد من حضروه، ولكن وجه رئيس التحرير كان مهموما وهو الذي أختلف معه أكثر مما أتفق، فهو يؤكد أن الأمر جلل، ومن سير الاجتماع فهمت لأول مرة أن الفن والرياضة هما مرادف للتوزيع، وأن الأمر ليس له علاقة بكونه رئيسا للتحرير، أعطاني الكلمة وعرضت أفكارا للتحقيقات والحوارات، وبكرم منه أثنى عليها، وشدد على أن المنافسة ستكون للإبتكار في التناول، كنت حديث العهد بالصحافة الفنية وإن كنت مولع بدنيا الفنون، ولكن ذلك الاجتماع كان دافعا لأن أجمع أكبر عدد من الصحف الفنية، مصرية وعربية، وكنت متابع جيد للصحافة الفنية اللبنانية على وجه التحديد، وبدأت أقارن بين الصحف، فكان أهم ما لاحظته، هو احترام القارئ؛ هذا هو الفارق الكبير والمؤثر بين الصحف الفنية التي تجمع بين صحافة المجلة والملفات هو الصفحات المتخصصة في جرائد سياسية شاملة، تعلمت أن صفحات الفن هي أهم ما يتوقف عنده قاريء الصحف الصباحية، كبرت أكثر وربما نضجت بعض الشئ؛ لأبدأ البحث عن المجلات الفنية المتخصصة؛ جمعت الكثير منها، ذاكرته بعناية، انبهرت واستمتعت أيما استمتاع بمجلات العصر الكلاسيكي ـ الأربعينيات، الخمسينيات والستينيات، دخلت في مناقشة صارخة مع إحدى رئيسات التحرير، لإنشاء ملف فني ثابت ومتخصص للفن، بعد أن لاحظت أن الفن في هذه المطبوعة ـ التي قرأت أعداد 40 عاما سابقة من صدورها ـ وهذا خطأ كان يقتصر على نصف صفحة، أو ما نسميه في الصحافة "سلخة"، بعنوان "المرأة على الشاشة"، وقد تجرأت وناقشت مؤسسة المطبوعة في لقاءات نادرة جمعتني بها ـ وهي عظيمة من عظيمات مصر ـ فقالت بحزن :"لم يكن لدينا متخصصون..وشغلتنا قضيتنا"..

وتمكنت من إنشاء الملف المكون من 5 صفحات زادوا إلى 7 مواكبة للأحداث، ولم يكن خافيا ما قاله مفيد فوزي، كانت الصفحات من بين اهتمامات القراء ولمست ذلك من خلال رسائل بريد القراء الذي كنت أحرره أيضا، وأذكر أن سيدة الصحافة النسائية أمينة السعيد، قالت لي أنها كانت تعد كل رسالة تأتيها من قارئة ب 1000 رسالة لم تتمكن أخريات من إرسالها، وأظن أن الملف قائم حتى اليوم؛ حتى بعد أن تتلمذت على يدي واحد من أهم نقاد مصر والعالم العربي رجاء النقاش؛ الذي لمست عنده احتراما للقارئ، وفهما لطبيعة المحتوى؛ فهو مهتم بالفنون بمختلف أنواعها، يتناولها بالخبر والتحقيق والحوار، كان يشترَط فى صحفيي الفن أن يكون لديهم خلفية لا بأس بها عن المادة الصحفية التي يتناولونها، وقت أن كان الأمر يسند إلى أهله، كان الغلاف الذي علمونا أنه "فاترينة" المجلة، يحمل أفكارا وإبهارا، كنا نرى أغلفة الزمن الكلاسيكي: الأثنين والدنيا ـ قبل أن تنفرد باسم الإثنين ـ الكواكب، الفنون، ألوان، الصباح، الكاميرا، السينما، ومن مجلات بيروت: الموعد، ألحان والشبكة.. عشرات المجلات الفنية المبهرة، إحترموا القارئ؛ فبادلهم إحتراما باحترام، مجلات كانت تبدع في أغلفتها وفي رسمها وتحريرها وعناوينها، طالعنا بها حوارات وتحقيقات وانفرادات لازلنا نتغنى بها، لم يتاجروا بالموديل كسلعة، كانت لهم مبادرات محترمة للمشاركة في صناعة النجم، مستحيل أن تجدد عددا لا يضم حوارا أو تحقيقا جذابا، جاذبا، مبتكرين حتى في  اللايت ريبورتاج"، أذكر واقعة تكشف عن مدى احترام القارئ وتلبية رغباته؛ عندما غنت أم كلثوم في النادي الأهلي، وحضر الحفل الملك فاروق، وارتجلت أم كلثوم في رائعتها "الليلة عيد"، ارتجلت كلمة ترحيب مغناة، فأنعم عليها فاروق بوسام الكمال ـ 17 سبتمبر 1944 ـ وإذا بمصور مجلة الاثنين يخترع حيلة ويرافق كوكب الشرق إلى منزلها، ليلتقط لها صورة فنية واضحة في منزلها وهي متقلدة الوسام!! 

مجلات كان يقف من خلفها العاشقون للفن وروعته..تلك هي روح فريق العمل الذي كان سائدا في الزمن الكلاسيكي، قبل أن نشهد حالة اندثرت فيها المجلات الفنية في مصر أو كادت؛ قديما كان السبب إما لغياب مالكيها بالوفاة أو بالهجرة، أو لفشل في إدارتها، أو لفقدانها عنصر التشويق والابتكار ـ راجعوا الهدايا التي كانت تصدر مع أعداد الكواكب اوالإثنين ومجلة مثل "الفن" أو "الأستوديو"، أو الأعداد الخاصة التي كانت تحمل صفحات من مذكرات أم كلثوم وعبد الحليم ووصلت لحد إصدار كتب كهدايا مجانية مرافقة للعدد، وأحيانا يكون التوقف بسبب فقدان القارئ شغفه بمجلته، حتى تساقطت أوراقها دون أن نحاسب أحدا من القائمين عليها..انقذوا ما تبقى من الإصدارات الفنية وأعيدوها إلى صدارة المشهد.
-------------------------------
بقلم: طاهر البهي