17 - 07 - 2024

نحو مدوَّنة سلوك مهني تواكب حتمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي

نحو مدوَّنة سلوك مهني تواكب حتمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي

في سياق بحث على ويكيبيديا عن تعريف الإعلام الرقمي، قرأتُ أن ظهور الإنترنت ومن بعده الإعلام الإلكتروني، فرض وسيفرض واقعاً مختلفاً تماماً، إذ أنه لا يعد تطويراً فقط لوسائل الإعلام السابقة، وإنما هو وسيلة احتوت كل ما سبقها من وسائل، فأصبح هناك الصحافة الإلكترونية المكتوبة، وكذلك الإعلام الإلكتروني المرئي والمسموع، بل إن الدمج بين كل هذه الأنماط والتداخل بينها أفرز قوالب إعلامية متنوعة ومتعددة بما لا يمكن حصره أو التنبؤ بإمكانياته. 

وبحسب ما ورد في كتاب لباحثين أمريكيين ترجم حديثا إلى العربية تحت عنوان "شبه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي"، فإن الإنترنت هي الآن وسيلة التواصل الأبرز في العالم، وستبقى كذلك في المستقبل المنظور. من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، سيزداد حجم الشبكة العنكبوتية ونطاقها وأعداد مستخدميها، ولكن شكلها الأساسي ومركزها في نظام المعلومات لن يتغير. كما أنها وصلت إلى مرحلة من النضج تؤكد أن معظم لاعبيها الرئيسيين سيبقون كما هم. سواء أحببناها أو كرهناها، ستستمر غالبية شركات وسائل التواصل الاجتماعي البارزة في لعب دور حاسم في الحياة العامة لسنوات قادمة. 

وفي واقع الأمر، وتحديدًا فيما يخص الاهتمام العربي بهذا الشأن، يمكن القول بأن "مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، في أبو ظبي، قد أَوْلى هذا الموضوع بشكل خاص عناية ملحوظة عبر سلسلة كتب، منها كتاب الباحث المصري إيهاب خليفة الصادر بالتعاون مع دار العربي للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2016 تحت عنوان "حروب مواقع التواصل الاجتماعي". وفي خلاصة هذا الكتاب أنه "بعدد مستخدمين تجاوز ملياري شخص، لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد أداة للترفيه وتحقيق التواصل بين الأفراد؛ بل ظهر لها وجه آخر قبيح، وتحولت إلى ساحة خلفية لممارسة نوع جديد من الحروب، هي بالأساس حروب أفكار، وطرحت عدة إشكاليات رئيسية، منها الأمنية المتعلقة باستخدام المنظمات الإجرامية والجماعات الإرهابية لها كوسيلة لتهديد الأمن الدولي، ومنها السياسية المتعلقة بضمان حق الأفراد في تحقيق التواصل الآمن بينهم دون اختراق لخصوصيتهم، أو تهديد لحريتهم في إبداء الرأي والتعبير، ومنها الثقافية التي تتعلق بالحفاظ على الهوية والقيم والمعتقدات التقليدية في عالم مفتوح الثقافات ولا يعترف بحدود جغرافية". وهناك كذلك على سبيل المثال المفكر المصري نبيل عبد الفتاح، الذي كثيرًا ما كتب عن ارتباط وسائل التواصل الاجتماعي المستجد بما أسماه "الطغاة الدينيين الرقميين"، ملاحظًا اجتذاب الواقع الرقمي ومجاله العام "عشرات الملايين من المحتسبين الجدد والطغاة الصغار في وجه السلطة ورجال الدين والآخر الديني والمذهبي حتى باتت الحياة الرقمية ومحتسبوها عائقًا في مواجهة أي تطور ديموقراطي محتمل" (جريدة "الأهرام" 26 م 5 / 2022). 

ولاحظتُ في سياق متصل أن لدينا اهتماما ملحوظا باستخدامات الذكاء الاصطناعي في الإعلام، تمثل في عدد كبير من الدراسات الأكاديمية التي نشر عدد وافر منها في كتب، منها مثلا كتاب حصل قبل أيام على جائزة الدورة الأحدث لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عنوانه "الإعلام الرقمي: تشريعات وأخلاقيات النشر" لشيرين كدواني وشريهان توفيق، ومن الواضح أن موضوعه يتفق مع موضوع هذه الحلقة النقاشية، التي تطمح إلى وضع مدونة سلوك أخلاقي لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في الإعلام. وعن نفسي فإنني أفضل أن تسمى "مدوَّنة سلوك مهني"، فالمهنية تنطوي حتما على ما يراعي الأخلاق والأديان والتنوع الثقافي والعرقي... الخ

وأنا كذلك على قناعة بضرورة أن يتوازى مع هذا الطموح، سعيٌ للإلمام بكل جديد في تقنيات الإعلام، ليس فقط على المستوى الأكاديمي، وإنما على مستوى سوق العمل، بحيث نتخطى الارتياب فيما يمكن أن يترتب على تطبيق تلك التقنيات، بالنسبة إلى ما يخص السلوك المهني. وعلينا كذلك أن ندرك أهمية أن نتعلم ونبتكر لنكون شركاء في إنجاز التطورات التكنولوجية في هذا المجال الحيوي، الذي عرف تاريخ البشرية طفرات شتى في نطاقه، وكانت كل طفرة منها تُوَاجْهُ بمخاوف من تبعاتها، إلى أن تستقر، ثم تتلوها طفرة أخرى... الخ. فأنا أذكر مثلا أن أدواتي في العمل عقب تخرجي في كلية الإعلام عام 1986، كانت حديثة جدا بمقاييس ذلك الوقت، لكنها الآن تعتبر بدائية مقارنة بالطفرات التكنولوجية المتعاقبة، وصولا إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي الراهنة. 

في بداية عملي محررا صحفيا كنت أكتب على ورق الدشت، ثم يتولى شخص آخر طبع ما كتبتُه من خلال الآلة الكاتبة، وإذا كنت بعيدا عن مركز العمل كنت أستخدم التليفون الأرضي لأملي ما كتبته على زميل في قسم تلقي الأخبار، ثم ظهر الفاكس، والكومبيوتر، والإنترنت. وهذه الطفرات ألغت الحاجة إلى ورق الدشت، ولم تعد هناك حاجة لقسم تلقي الأخبار، ولا للفاكس، فأجهزة المحمول الذكية باتت تفعل الأعاجيب، من تصوير فوتوغرافي، إلى تصوير فيديو، وكتابة نصوص، وإرسال ذلك كله أو رفعه إلى منصات البث. وهذا كله فرض تحديات كثيرة، سواء على صعيد المنافسة المهنية، أو حتى على صعيد التعامل بحرفية مع ما يسمى بالحروب النفسية وساحتها الأساسية هي الإعلام، المكتوب والمرئي والمسموع. وهذا بالفعل ما يعزز ضرورة أن تكون هناك مدونة سلوك مهني ملزمة على الصعيد الدولي، وليس فقط على الصعيد المحلي. على أن يتوازى ذلك كما سبق أن قلت مع ضرورة مواكبة كل جديد، لا بتلقيه فحسب، بل بالمشاركة كذلك في صنعه، باهتمام غير محدود بالبحث العلمي، وتفهم أهمية إفساح المجال لحرية التعبير.
-------------------------------
بقلم: علي عطا


مقالات اخرى للكاتب

نحو مدوَّنة سلوك مهني تواكب حتمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي