30 - 06 - 2024

أمين صالح: الكتابة ضرب من الحصانة ضد الإحساس القاهر بالهامشية في عالم لا يريد منك إلا أن تكون شيئاً

أمين صالح: الكتابة ضرب من الحصانة ضد الإحساس القاهر بالهامشية في عالم لا يريد منك إلا أن تكون شيئاً

"بعد عقود من الكتابة، وتراكم التجربة، والتنقل بين أشكالٍ كتابية متنوعة ومتباينة، لا تعودُ تلك الملامح الأولى ساطعةً كما كانت، صافيةً كما كانت، بل صار يكتنفها سديمٌ من اللا يقين والالتباس والخلط الذي يربك الصورةَ العامة. الذاكرةُ نفسُها لم تعد تسعف، وكأنها تتكئ على وقائع مشكوكٍ في صلابتها ومصداقيتها" هكذا ابتدر الكاتب البحريني الفائز بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية الدورة الثامنة عشرة (2022 ـ 2023) فرع القصة والرواية والمسرحية، شهادته أمام جمهور النادي الثقافي العربي بإمارة الشارقة في الندوة التي أدارها الناقد والكاتب الناقد إسلام أبو شكير، مؤكدا محاولته ترتيب عناصرَ الصورةِ كما يراها الآن، وليس كما كانت في الأصل.

 وقال"حكايات تخلبُ اللبَ ترويها جدّةٌ بارعةٌ في السرد، تحزمُ المسامع وتشدّها إلى عوالم لا نشتهي الخروجَ منها. قراءات لكل ما يقع في متناول اليد، لكل قصاصةٍ مهمَلة داستها الأقدامُ بلا مبالاةٍ لكن بلا كراهية. قراءات لكتبٍ مستعارة من أصدقاء مسّهم مثلي شغفٌ بالقراءة، وأخرى مسروقة برعونةٍ وبلا مهارة من المكتبات. تصفّح مجلاتٍ وصحفٍ لا تحصى، ثم محاكاة المجلات بإصدار جرائد حائط لا أحد يقرأها من منتسبي النادي الرياضي. بعدها يأتي اختبارُ القدرةَ على الكتابة بتأليف قصصٍ ساذجةٍ لا قيمة لها، مع ذلك تجد موطئاً في ساحةٍ لم تعجّ بعد بالموهوبين والمدّعين معاً، وتستدرجك شلةٌ أدبية صغيرة مفرطة في الحماس، وتضفي عليك أهميةً زائفة. ومنها تلتحق بتجمع أكبر من أدباء لا تجانس بينهم. مع مرور الوقت، تتحرّر تدريجياً من الأوهام وتتواضع وتبدأ في الإصغاء إلى الآخرين، وتستفيد من قراءاتك واحتكاكك بالتجارب الأخرى، وتتفاعل مع المنجزات الحديثة في الأدب، وتتأثر بالحساسية الجديدة التي ولّدتها إبداعات شتى في أشكال الفن والأدب، وتقترب أكثر من العوالم الشعرية، وتشعر أخيراً بأن الكتابة ليست مهنة، ليست هواية، ليست وسيلة للتكسب ولتحقيق مجدٍ أو شهرة، بل هي حياةٌ أخرى، أكثر جمالاً ونقاوةً، تعيشها برغبةٍ حقيقية، وبشغفٍ لا حد له، وتدرك بأنها وحدها التي تعطي وجودَك معنى وقيمة.

وأضاف الأديب البحريني الذي يكتب القصة القصيرة والرواية والشعر والسيناريو والمسرح ويترجم أيضا "بدأ ولعي بقراءة القصص والروايات وأنا في المرحلة الثانوية. هذه القراءة النهمة حرّضتني، في أواخر الستينيات، على أن أجرّبَ كتابةَ القصة.. لكن بسذاجة المبتدئ. ليس فقط هذا الولع من وجّهني إلى كتابة القصة القصيرة، هناك أيضاً تأثري العميق بالحكايات التي كانت جدتي ترويها لنا ونحن صغار. كانت تسرد الحكايةَ بطريقةٍ فيها الكثير من التشويق والدراما. كانت مذهلة في السرد. من خلالها أحببت السرد. لكن المفارقةَ أنني، في كتابة القصة، بعد البدايات البائسة، لم أكترث كثيراً بالسرد التقليدي. ربما لأني، على نحو غير واعٍ، شعرت بأنني لا أستطيع أن أضاهي الجدّةَ في السرد. أو ربما لأني شعرت بالإشباع والامتلاء في السنوات التي أمضيتها وأنا أصغي إلى سردها.أحببت الشعرَ كثيراً. أكثر من القصة والرواية. لكنني لم أجرب كتابة القصيدة. لم أشعر بأني قادر أو مؤهل لفعل ذلك. أردت أن أكون شاعراً في مجالي الخاص.

ويتابع "إنك تبدأ الكتابةَ بغايات معينة، كأن ترغب في التعبير عما يوجد بداخلك.. أفكارك وعواطفك ومشاعرك وهواجسك. ثم تضع لنفسك هدفاً سامياً، فيه الكثير من الادعاء: أن تغيّر واقعَك، حالماً بعالمٍ أفضل، بغدٍ أفضل.كان ذلك ضرباً من البراءة والسذاجة اللتين ترافقان البدايات عادة، ويفرضهما مناخ سياسي واجتماعي معين. كنا جميعاً، آنذاك، نظن أن الكتابةَ قادرةٌ في لمحةٍ على اجتراح المعجزة المرتقبة. كنا في الحقيقة نحلم، وكان حلماً جميلاً ونبيلاً وطفولياً. لكننا خذلنا هذا الحلم، أو اتضح أنه محض وهم.يود المرء أن يعطي لنفسه، ولما يفعله، شيئاً من الأهمية، من القيمة، من الامتياز. أن يعتبر نفسه خارقاً وذا حضورٍ طاغٍ. لكن هذا يعدُ خداعاً للنفس قبل أن يكون تضليلاً للآخرين. يجب أن نقبل بدورنا المتواضع، الضئيل، وبوجودنا الهش، في هذا العالم، ولا نعطي أنفسنا حجماً زائفاً. الزعم بأن الكتابةَ قادرةٌ على اجتراح تغيير ما، حتى لو كان بسيطاً، هو محض وهْم. 

وأكد صالح أن الكتابة، وكل الأشكال الفنية، لا تقدر أن تغيّر الواقع. قد تقول للإنسان شيئاً عن واقعه، عن معنى ذاته ووجوده، أن تعمّق وعيَه، وأن تصقل حسّه الجمالي. وإذا استطعت أن تحقق بالكتابة بعضاً من هذا، تكون قد أنجزت شيئاً له قيمة وأهمية. إن ما تكتبه يتصل بهذا الواقع، جذوره ممتدة فيه، إلا أنه يتخطى هذا الواقع ليطرح رؤيةً أشمل تتصل بأسئلة أزلية. في نصوصي لم أحاول أن أطرح الواقع في حرفيته، في قضاياه اليومية المباشرة. كنت معنياً أكثر بعوالم الحلم والمخيلة، والتي فيها أمتلك حريةً أكبر في تناول قضايا أكثر جوهريةً أو أكثر اتساعاً.. من وجهة نظري. عالم الحلم أو المخيلة هو امتداد طبيعي لعالم الواقع، وليس منفصلاً أو مستقلاً عنه.

وأشار إلى أن أي نصٍ هو بالضرورة انعكاسٌ لذات الكاتب ورؤاه وتجاربِه الشخصية ومعرفتِه الثقافية وأحلامِه وذكرياته وتخيلاته.

الكتابة، بالنسبة لي، ليست قناعاً أو نتاجَ مخيلة محضة بل هي نافذةٌ تطل على الروح.. مرآةٌ للنفس تعكس الدواخل والأعماق. الذات، أو شظايا من السيرة الذاتية موجودة في النص، لكنها قد تنتحل أشكالاً أو شخوصاً أو أفكاراً. أثناء الكتابة، كل العناصر تشتغل: الوعي واللا وعي، الذاكرة، المعرفة، المخيلة.. سنوات الخبرة كلها تتداخل ولا يوجد عنصر يتغلب على الآخر. دع نفسك خمس دقائق مع المخيلة، بتركيزٍ شديد وذهنٍ منفتح، وسوف تعطيك المخيلة صوراً لا تعد، كل ما عليك هو أن تلتقط الصور، وتضعها ضمن بناءٍ محكم ومتناسق. أما في مرحلة التصويب والتنقيح وانتقاء المفردات وتحسين الجمل، فيأتي دور الوعي ليتدخل ويحسم.

وكشف صالح أنه ينبغي أن تكون اللغةُ موظفةً شعرياً وإلا سقطت في العادية والتقريرية والرتابة.. وهذا ما نجده عند كتّاب لا يعتقدون أن للغة طاقة تفجيرية هائلة. باللغة العادية، التقريرية، التقليدية، لا أستطيع أن أبني نصاً يقنعني شخصياً، ويدهشني في المقام الأول.بالطبع، الحالة هي التي تخلق لغتَها الخاصة وليس العكس. بمعنى أنا لا آتي إلى مقطع معين وأقرر أن أكتبه بلغة نثرية سردية أو بلغة شعرية. الحالات والصور تفرض لغةً متجانسة معها. ومثل هذه الأمور ليست مقررة سلفاً بل إنها وليدةُ لحظةَ التعبير. 

وقال "لست من المولعين، أو الممسوسين، بالهدم. أظن أنني بنيت لنفسي عالماً (وأعتقد أن هذا ما يفعله أغلبُ الكتّاب) فيه كل نص يتمّم (ولا يهدم) الآخر، سواء أكان هذا بوعي أم بلا وعي أم على نحو اتفاقي غير مقصود. في كل نص جديد، هناك أصداء، إشارات، ومضات معينة من النص السابق أو من نصوص كتبتها في أوقات سابقة وبعيدة، تستحضرها التجربة من جهة، والذاكرة من جهة أخرى. بالتالي، هي أشبه بعملية بناء متواصلة، بواسطة الأدوات ذاتِها، والعناصر ذاتِها، مع تجديدات هنا وهناك.إذن فعل الكتابة، بالنسبة لي، يعتمد على الاتصال (بين النصوص، أي التجارب) أكثر من الانفصال، على التراكم أكثر من الانقطاع. النص ينمو بفعل عناصر موجودة أو كامنة في تجربة الكتابة الكليّة، وليست مستقلة يتم استعارتَها من مكان ما.

وبيّن أن للعناوين وظائف متنوعة: إيضاحية، إيحائية، رمزية، دلالية، تفسيرية.. إلخ. شخصياً أميل إلى العنوان الذي له رنينٌ شعري، جمالي، وفي الوقت ذاته يعبّر عن جوهر النص، ويكون مفتوحاً على عدد من القراءات، من التأويلات. قد يتولّد العنوان أثناء الكتابة، أو بعد إنجاز العمل، وأحياناً، لسبب غامض ما، يكون حاضراً وجاهزاً قبل التفكير في الكتابة. في بعض الأوقات، تستعين بصديق يقترح عليك العنوان الملائم (حيث يمكن للعنوان أن يوجد باستقلالية وعلى نحو متوازٍ مع النصوص).لكن في كل الأحوال ينبغي للعنوان أن يكون مدهشاً، وأن يكون محركاً، جمالياً ودلالياً، لمخيلة القارئ.

وأكد صالح أن الكاتب أحياناً لا يفهم ما يكتبه هو لسبب بسيط، فأثناء الكتابة لا يكون للوعي السيطرة الكاملة على العملية برمّتها، بل هناك تدخلات مباشرة ويتعذر اجتنابها من قبل اللا وعي والمخيلة والذاكرة والهذيان، وهذه العناصر تفرض نفسها وتوجّه الكاتب إلى مسارات لم يخطط لها وإلى معانٍ ودلالات غامضة لا يستطيع الكاتب أن يفسرها أو يؤولها في حينها، لكنه يجدها منسجمة عضوياً مع الحالات المنبثقة – كلغة ومجاز - من قلب النص.ثمة قوة سحرية للحرف والكلمة يشعرها الكاتب قبل أي أحد.. الكاتب الذي يقع تحت سحرها فيما هو يسعى إلى تركيب كيميائي للعناصر من خلال الاشتغال على مجاورة المفردات ورصد إيقاعية الحروف، وترددها في الجملة، واتصالها ببعضها موسيقياً ودلالياً، وما ينتج عن هذا التجاور والتفاعل والتزاوج من معانٍ تستنتجه القراءات والتأويلات. لكن هذا ليس نتاج الوعي وحده وعلى الدوام، فعبر التداعي الحر وإطلاق المخيلة وتفعيل الذاكرة والإحساس بإيقاعية اللغة ودلالاتها الصوتية، تتولد جمالية يشكّـل فيها توظيف الحرف عنصراً أساسياً.

وختم صالح شهادته مؤكدا أن الكتابة عنده ليست عملية عقلانية، ذات دوافع واضحة ومدروسة، محكومة بمنطق وأسباب ونتائج، قابلة للشرح والتفسير. هل يعرف المرء لما يحيا؟ أو لما يحلم؟ إنه يحيا فحسب، يحلم فحسب. التأويل والمعنى يأتي في ما بعد. هل يعرف المرء لما يكتب؟ إنه يكتب فحسب.هكذا أتنفس هواءَ الكتابة تاركاً التأويل للآخرين. الكتابة حاجة تقتضي الإشباع، لكنها حاجةٌ مستمرة، تبدو أزلية، لا نهائية.. هي بالأحرى رغبةٌ دائمة لا تعرف الإشباع ولا الاكتفاء، مهما تعددت أشكال وأنواع الكتابة. ستكون وظيفةً لمن يتّخذ من الكتابة مصدراً للرزق، أو لمن يكرّس نفسه للوعظ السياسي والأخلاقي، أو لمن يشعر بأن العالم لا يستطيع الاستغناء عنه فيعلن عن حضوره بأكثر الأشكال صخباً وادعاءً. إنه الكاتب الذي لا تشكّل له الكتابة متعةً خاصة يتلذّذ بها حتى في نومه.الكتابة، بالنسبة لي، كما أشرت سلفاً، حياةٌ أخرى أعيشَها حتى الرمق الأخير، واستمتع بها حتى الثمالة.. الكتابة ضرب من الحصانة ضد الإحساس القاهر بالهامشية في عالم لا يريد منك إلا أن تكون شيئاً أو رقماً أو أداة فحسب. الواقع صار أكثر عنفاً وشراسة ضد الفرد، وإزاءه لابد من التحصّن بفعل يشعرنا بالقوة.. حتى لو كانت وهمية أو تخيلية إلى أبعد حد.






اعلان