22 - 06 - 2024

السعودية ما بين إلغاء قيود شهر رمضان والانتصار لقيم المواطنة

السعودية ما بين إلغاء قيود شهر رمضان والانتصار لقيم المواطنة

«رمضان يجمعنا» هكذا شعار المحبة السائد في البلاد العربية والتي تعودت أن تسودها أجواء صافية، ولعل القضايا الجدلية تحضر بقوة خلال هذا الشهر الفضيل لتخلل المشهد علي أمل غد أفضل نتطلع فيه لمراحل نضوج فكري أكثر اتساعا، فمنذ أكثر من عشر سنوات كانت وزارة الداخلية السعودية تحذر غير المسلمين علي أرضها بأنها ستتخذ بحقهم إجراءات رادعة تصل لحد الفصل من العمل وطردهم من المملكة حال قاموا بالمجاهرة بالإفطار في شهر رمضان، وكانت النشرة تعمم علي كل وسائل الإعلام وكانت القرارات أكثر تشددا خالية من قيم التسامح الديني واعتبرت نوعا من نعرات التفرقة، إذ يحاول البعض اقتران الصوم بفرضيات صارمة أو اختلاط حريات وحقوق المواطنين بمفاهيم احترام الصيام كنوع من الحجة، وشيطنة غير الصائم بأعتبارة يكسر حرمه الشهر ويقع في التهاون وتقييده بثقل مسؤولية وحزمة قوانين لا تطبق في العالم كله إلا في بلاد معينة، وعلي الرغم من الشريحة التي يخاطبها المجتمع السعودي تجد التزاما اخلاقيا في الامتناع عن الطعام والشراب والسجائر من تلقاء نفسها، بل الذين يجاهرون بالأفطار في عز الشهر الكريم هم من يجب عليهم الصيام، إلا أنها صارت معضلة تصور عدم الرغبة في بقاء غير المسلم في هذه المجتمعات إلا بعصر الليمون، وبتسليط الضوء علي أفعاله بالترهيب وتقديمه في صورة منفرة، بدلا من أن تكون اختيارية نابعة من داخله، مع العلم أن عقوبة الإفطار جهرا تتراوح بين السجن والجلد، وفي الأردن دعا البعض لغلق المطاعم نهائيا، وفي الكويت فرضت غرامة علي المجاهرة بالإفطار وكل من ساعد في ذلك، وفي الصومال وجزر القمر تقوم محاكم الاتحاد الاسلامية بمعاقبة المجاهرين بإفطارهم بالسجن، وما زالت المغرب يناضل فيها التنويري والمفكر إلى إلغاء الفصل ٢٢٢ من القانون الجنائي المغربي الذي يعاقب على الإفطار العلني في رمضان، ويري بعض الحقوقيين لديهم أنه تعسف يناقض حقوق الانسان في مخالفة صريحة للمواثيق الدولية غير القابلة للتصرف التي صادقت عليها الحكومات شكليا وبأعتبار الصوم نفسه حقا فرديا وليس مشتركا تحت مزاعم الأمن الروحي واعتبروا المجاهرة بالإفطار استفزازا لمجتمع يقدس الصوم أكثر من الصلاه وباقي الشعائر الأخري حتي تهمش القضية الأساسية وتعطي قدرا من الحريات المحدودة المصبوغة بغطاء ديني متشدد.

وتحول مظهر الصيام إلي أداة قمعية وترهيب فكري بدلا من أن يكون وسيلة للتقوي، وليس افطار غير المسلمين دعوة للفحشاء كما يصورها البعض، إلا أن بعض الحكومات تصمم علي اختراع مفاهيم تخترق المعاهدات الدولية تحت شعارات أن الخصوصية الثقافية والدينية والاجتماعية لا تخضع كليا للمفاهيم العالمية، وهذه الأعراف تعد بمثابة فيروس اكثر رجعية ومجرد تقاليد لعقود طويلة ومن يخالفها اصبح في مرمي نيران الإخلال بالآداب العامة، علي النقيض نجد حقوقيين يتصدون للمسؤولين الصينيين لرغبتهم منع بعض الموظفين والطلاب المسلمين من الصوم ويؤكدون أن القيود الدينية والثقافية المفروضة على الأيغور والأقليات المسلمة الأخرى في المنطقة الشاسعة المتاخمة لآسيا الوسطى تثير التوترات بدلا من خلق بيئة يتم فيها تشجيع استيعاب الصائم، ويزيد من احتمالية صيام الأشخاص بنجاح، إذن نستنتج أن البروتوكولات الدوليه غير قابلة للتجزئة.

وشهدت المملكة السعودية في الآونة الأخيرة تغيرا جذريا، وتخفيفا في القيود على السلوك الشخصي خلال السنوات الأخيرة رغم بقاء قانون للذوق العام، وتداولت وثيقة صدرت عن السلطات بعدم المساس بمن لا يصومون سرا أو جهرا إعمالا لحقوق الإنسان التي يأمر الله بصونها علي حد تعبيرهم، وهو يقودنا لمفهوم فك الارتباط بين المفاهيم والفصل بين الإجهار وعدم مراعاة المشاعر، وفي نفس التوقيت حافظت علي التفسيرات الدينية والفقهية داخل مكة والمدينة، وأدركت وانتصرت لقيم المواطنة السامية فيما يسمي برؤية المملكة ٢٠٣٠، ومن الغريب أن تجد إصرارا هذا العام علي تطبيق القرار وتقبل المجتمع السعودي بعد سلسلة من التكذيب عبر السنوات الماضية والتي اتهموا فيها جهات معادية تهدف للإثارة، فهل كان حقا تكذيبا أم جس نبض ومحاولة للتغيير الي الاتجاه الصحيح نحو مجتمع منفتح وسوي، حيث نجد أن بادرة الإصلاح تعمم وتنمو وتجد تربة صالحة، هذه النبتة التي قام بها الملك الراحل عبد الله بن عبدالعزيز، وصارت أكثر نضجا علي يد ولي العهد الحالي بعقليته المنفتحة والذي عمل علي رفعة قومه وجعل المملكة نموذجا للمجتمع المتسق مع المجتمعات الحديثة، نظرا لمكانة السعودية في العالم والتي تقود مسيرة اصلاح عنوانها الازدهار.

إن التحول الديمقراطي في السعودية استغرق حوالي قرن من الزمان، كما استغرق قرونا فى بريطانيا وقرنين بعد الثورة الفرنسية، وكلها أمثله لم يكن بالإمكان إحداث تغيير فيها الا بمشاركة شعبية، إلا أن الصوم في البلاد العربية استخدم وسيلة للخطابات الطائفية الممجوجة واستثارة الغيرة الدينية وتم استخدام أبواق شعبوية فارغة للمزايدة والاستهلاك الإعلامي، وجاءت القرارات التاريخية بتخفيف القيود على السلوك الشخصي لتفويت الفرص وتحجيم النفوذ الوهابي وتعزيز دور المملكة إقليميا.

وفي بعض البلدان كمصر، ارتبط شهر رمضان بالمناسبة الاجتماعية التي تجلب البهجة والمشاركة الوجدانية، ولكن حاول المتطرفون إفسادها سواء اجتماعيا عن طريق الوعظ التكفيري أو سياسيا عن طريق القيام ببعض العمليات الإرهابية حتي لو كانت فردية، في محاولة لتشويه مفهوم الجهاد، فرأينا مظاهر تبدو غريبة مثل قص الشعر داخل المترو، ووقائع اعتداء علي المرأه غير المحجبة، وبعضها ارتبط بامتناع محالّ الكشري عن القيام بعملها لتعكير صفو المجتمع، ومن المعروف ان الحرية تكمن في  التخيير بين التزام العبادة أو تركها، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أساسه التخفيف والتيسير وليس ممارسة البلطجة الفكرية وفرضها علي المجتمع، وشتان بين حرية غير الصائم طالما لم يؤذ أحدا والاستهزاء بالصوم من بعض العلمانيين الذين ربما يستحقون عقوبة تعزيرية تنظمها القوانين.

ومن الغريب أن تجد في مصر ميلا أكثر لمعاقبة المجاهرين بالإفطار في نهار رمضان فقد وافق مجلس الشيوخ علي قانون لم ير النور يعاقب المجاهر بالسجن ثلاثة أيام والغرامة أيضا، ورغم أن القانون لم ير النور، إلا أن الداخلية تقوم علي نطاق ضيق في بعض السنوات بضبط "المجاهرين بالإفطار" وتحيلهم للنيابة العامة، على نحو ماحدث عام ٢٠٠٩ في أسوان والغردقة رغم أنها محافظات سياحية، بل إن المجاهرة تصنف على أنها جنحة مثلها مثل الفعل الفاضح في الطريق العام، وهو الأمر كان ينفذ في تونس أيضا، وهذا يتعارض مع مفهوم الدولة المدنية، وبدلا من أن يصبح الامتناع عن المجاهرة مشاركة اختيارية وجدانية للصائم من باب التراحم والرأفه، تحول الي سوط يسلط علي رقاب الأقليات وشركاء الوطن، ويوجب عليهم التواري عن الأنظار حتي علي غير رغبتهم، فأصبحوا يفضلون تناول الطعام حتي داخل الحمامات أثناء العمل، حتي يقدموا إثباتا علي سمو اخلاقهم او بحثا عن رضاء أو خوف من الحساسية الزائدة للصائم بصرف النظر عن التسلط الفكري الذي يمثله.

ومن المؤسف أن تعزز دار الإفتاء المصرية هذا الاتجاه، حيث أصدرت بيانا عاما يتهم المجاهر بالإفطار في نهار رمضان بأنه مستهتر وعابث بشعيرة عامة، ودعت الي التحقيق مع المفطرين والتدخل في شؤونهم عما اذا كان لديهم عذر مقبول بالقرائن من عدمه، وفي عام ٢٠١٩ قرنت دار الافتاء المجاهرة بالإفطار بالتعارض مع الحرية الشخصية للإنسان، واعتبرته نوعا من الفوضى والاعتداء على قدسية الدين، أما في عام ٢٠٢٢ ومع قيادة مسيرة تجديد الخطاب الديني، فقد أصدر فضيلة الدكتور شوقي علام تصحيحا يميل إلى الاكتفاء بمطالبة المجاهر بالتوبة الشخصية دون أي إضافات أخري، ولم تعد اللجان الأمنية التي تتعقب المجاهرين مفعلة بالصورة التي كانت عليها، والتي وصلت الي مطالبة رؤساء الأحياء ونوابهم بشن حملات واسعة علي المقاهي كما كان الحال في عام ٢٠١٦. 

في النهاية يظل الشهر الكريم محببا لقلب كل انسان تكثر فيه الفضائل، ويرتقي بروح الانسان ويجعله فردا في مدرسة تربوية ذاتية رفيعة المستوي، ولكن المعركة الفكرية طويلة الأمد حتما ستنتصر للمواثيق الحقوقية وتحتكم لتعديلات علي قوانين تحمي من التمييز الديني مع الإنتهاء إلي حزمة أكثر مرونة تعزز من الحقوق المدنية والسياسية وتؤول الي" فلترة عقلانية" بدلا من الاكتفاء بتنقيه الجسد فقط من سموم الطعام.
-----------------------
بقلم: جورجيت شرقاوي 

مقالات اخرى للكاتب

خانة الديانة في كشوف طلاب المدارس بين الجمود والطرح





اعلان