26 - 06 - 2024

عاجل خامس إلى سيادة الرئيس : الرصيف يستدعي مراجعة الاستراتيجية !

عاجل خامس إلى سيادة الرئيس : الرصيف يستدعي مراجعة الاستراتيجية !

لا تكتشف الاستراتيجية السياسة السليمة دائما ؛ لأن المستقبل غير قابل للمعرفة . و كل ما تفعله أنها تضيق نطاق الافتراضات غير المتسمة بالثقة. 

في الحالة المصرية ؛ بدا أن المكونات الأساسية التي شكلت استراتيجية التعامل مع عملية السابع من أكتوبر ، والتوقعات المقدّرة لما بعدها ؛ تشمل تجنب أن تتدحرج الأمور إلى  الدخول في مواجهة عسكرية مع الكيان الصهيوني ، وعدم المساس أو الإضرار بمعاهدة السلام الموقعة معه منذ نحو خمسة وأربعين عاما ؛ بما يضمن صيانة مقومات السيادة المصرية على سيناء ، وتشمل أيضا الاحتفاظ بقدرة مصر على تقديم كل أشكال المساعدة الممكنة والدعم للفلسطينيين في قطاع غزة ؛ من منطلق قومي وإنساني ، وتدنية احتمالات تدافعهم باتجاه الحدود الإدارية مع مصر و اختراقها ، وقطع الطريق على مخطط ترحيلهم إلى سيناء الذي يعود إلى العام 1968 ( مشروع إيجآل آلون ) ، وطمأنة هذا الكيان وتهدئة خواطره ؛ للتخفيف من وقع الصدمة التي أصابته جراء ما حدث ؛ من أجل السيطرة - قدر الإمكان - على ردود أفعاله عليها . 

من المحتمل قطعا أن تكون هناك مكونات أخرى لتلك الاستراتيجية ؛ لكن هذه المكونات المؤكدة الآن كانت تكفي مبدئيا لمواجهة الموقف ؛ مع بقاء الاستراتيجية التي صاغها الكيان لنفسه ضمن حدود التقديرات التي تحسّب لها المخططون المصريون . 

و ما حدث هو أن استراتيجية الكيان المحتل تجاوزت كل الحسابات ، وكسرت الكثير من القواعد و المجرّبات ، وفي مقدمتها ؛ الاستعداد الذي أبداه لخوض حرب طويلة الأمد ، أو لنقل لا حدود زمنية لها ، وإقناع مواطنيه بأن ما جرى يتطلب تجاوز السقوف المعتادة للخسائر البشرية التي كان يدفعها في كل حروبه السابقة مع الفلسطينيين ، ومع غيرهم . 

إن الاستراتيجية موضوع " تطبيقي " يتعلق بأمن الدول والمجتمعات ومصائرها ، و هي تبنى على اتجاهات غير مؤكدة ، ولهذا ؛ تبقى قابلة للمراجعة والتغيير ، ويفترض واضعوها دائما أنها ستحتاج بمرور الوقت إلى إجراء تعديلات قد تكون جذرية وجوهرية عليها . ومن قواعد العمل الاستراتيجي الراسخة أن يتمتع العاملون في هذا الحقل الفكري المحوري بالمرونة والقدرة على رؤية المتغيرات ومراقبة التطورات بالدقة الواجبة ؛ من أجل العمل على مقابلتها بالكيفية اللازمة وبالسرعة الواجبة ؛ عبر مراجعات متتابعة ؛ تضمن تحقيق الأهداف الرئيسية التي صيغت الاستراتيجية في إطارها ، وفي صدارتها - في السياق الذي نتحدث فيه - التأكد من حماية مقومات ومرتكزات الأمن القومي المصري .  

ولكل ما تقدم ؛ من حقنا أن نسال - كمهتمين بالمجال على الأقل - عن نتائج المراجعات التي يفترض أن يكون المخططون المصريون قد قاموا بإجرائها على الاستراتيجية الأولية العاجلة التي وضعوها عقب عملية السابع من أكتوبر: ما هي هذه النتائج ؟ وما هي المستجدات التي واجهتها ؟ وكيف فعلت  ذلك ؟ 

من الصعب تصور بقاء الاستراتيجية التي وضعها المخططون المصريون في أكتوبر 2023 على حالها حتى الآن ؛ من دون أن تطالها أية تعديلات ! على الرغم من ثبوت عدم قدرتها على تحقيق الكثير من أهدافها الرئيسية والفرعية ، وإخفاقها في التصدي لمتغيرات وتطورات عديدة صادمة طرأت على المشهد العام ؛ أخطرها انكشاف الهدف الرئيسي لاستراتيجية الكيان المتمثل في تصفية القضية الفلسطينية ، وتفريغ قطاع غزة من سكانه ، واختراق معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع الكيان ، وتجاوزها من جانبه في ثنايا ما يجري على ثلاثة محاور رئيسية ؛ يتعلق واحد منها بمعبر رفح البري بين مصر وقطاع غزة .  

بالمنظور الاستراتيجي الصارم ؛ ثبت وتأكد أن الاستراتيجية التي وضعت قاصرة بل عاجزة تماما عن تحقيق هدف جوهري صممت لتحقيقه ؛ ضمن منظومة متكاملة من الأهداف التي تدافع عن الأمن القومي لمصر ؛ وهو توفير الحماية "الكاملة" الضرورية للفلسطينيين في غزة الذين يتعرضون لحرب تجويع وإبادة ، وتدمير شامل لمقومات حياتهم ، وتهديد فادح بترحيلهم خارج أراضيهم .  

وبالمنظور الأمني ؛ من الواضح أن الإجماع في الداخل المصري حول الاستراتيجية الموضوعة؛ خاصة لدى الأوساط الشعبية - أصابه شرخ كبير ؛ بالنظر إلى خصوصية القضية الفلسطينية لدى المصريين ، والطابع الإنساني المكثف لها الذي تعزز بممارسات الكيان المجرم بحق الغزاويين الذين تربطهم روابط تاريخية وثيقة بمصر وشعبها . لقد بدأت الشكوك تثار حول صحة هذه الاستراتيجية وجدواها ؛ على الرغم من الوجبات الدعائية اليومية المتسمة باللامسئولية والسفاهة التي تضر بركائز ومقتضيات الأمن القومي المصري ؛ كونها تحاول التستر على واقع الإخفاق في وقف جريمة الإبادة التي يرتكبها الكيان بحق شعبنا الفلسطيني ، وتسعى إلى كبح شعور المصريين بالامتهان والعجز عن مواجهته ، وتبديد مخاوفهم المشروعة ( والاستراتيجية ) من أن تفتح الجريمة التي ترتكب الآن في غزة الطريق أمام العدو الصهيوني - الذي يفهم البسطاء أنه عدو دائم لمصر و شعبها - لإيقاع ضرر بليغ بأمن وسلامة البلاد . 

الآن وقد تفاقمت المشكلة ، وتعاظمت المخاطر ، لا تزال الاستراتيجية مثلما تشي السياسات المتنفذة ثابتة جامدة صامتة ؛ لم تخضع بعد للمراجعة وإعادة النظر ؛ حتى مع إعلان الرئيس الأميركي عن أنه سيعطي أمرا تنفيذيا قريبا للجيش الأميركي لبناء رصيف بحري مؤقت على ساحل غزة ؛ لتسهيل نقل المساعدات الإنسانية إلى سكان قطاع غزة ... نعم ؛ السكان الذين يعطي هذا الرئيس الكيان الصهيوني الأسلحة والذخائر لإبادتهم وتدمير مقومات حياتهم ! 

***

تقول دفاتر الاستراتيجية التي تعلمنا ما فيها على مدار السنوات إن احتقار الجغرافية السياسية يهزم أفضل الاستراتيجيات صياغة ؛ برغم أهمية التنظيم الاجتماعي ، والبراعة الاقتصادية ، والاستعداد العسكري في بنائها .  وتفيد الدروس الأمنية المتسمة بالثقة والمجرّبة بأن أنماط التغير في بيئة السياسة والأمن لا تتسم بالوضوح الكامل حتى مع استجلاء الحقائق التي تشكلها ، وبأن اللحظات الحاسمة تاريخيا تعرف باتجاه الأحداث اللاحقة ، وبأن الضمانات الأمنية الخارجية غالبا ما تثبت عدم قدرتها على الإحاطة بمحددات الأمن في الأقاليم على نحو ملائم ، وبأن وقوع مشكلات أمنية في إقليم ما يكشف قيمة الأرصدة المتاحة لدى وحداته السياسية من الأمن الهيّن والمعتمد على الذات .  

ربما تكفي هذه الحقائق - دون غيرها من عوامل واعتبارات تستوجب مراجعة وفحص الاستراتيجية - لمنع تجاهل إعلان الرئيس الأميركي المتسم بالخطورة ، ومن ثم عدم التمادي في ترك الاستراتيجية الأولية على حالها . فأوضح ما يمكن فهمه من هذا الإعلان أننا سنكون مع الإجراء الذي يتضمنه – استراتيجيا ، وبمنظور متسع - بصدد رؤية جغرافية سياسية جديدة في الإقليم العربي ، وفي المتوسط ؛ في محاولة لاستثمار ما يجري ؛ لخدمة مقتضيات الصراع الدولي وحسابات الهيمنة . وبعبارة أكثر تحديدا و تركيزا ؛ نحن نقف الآن أمام قرار أميركي بإنشاء قاعدة بحرية عسكرية أمريكية - أطلسية على بعد كيلومترات قليلة من الأرض المصرية ، وبطريقة لا تستند إلى أي أساس من المشروعية ، بل ترقى إلى أن تكون عملا من أعمال الغزو ؛ ينقل القضية الفلسطينية من سياقها السياسي المتعلق بتقرير المصير إلى سياق إنساني مخادع ، والأدهى أنه يمهد لقطع التواصل نهائيا - وربما إلى الأبد - بين مصر و قطاع غزة الذي هو مكون حيوي في حسابات أمنها القومي ، ويرسخ لحصاره المتطاول ، بل يجعله عمليا بمثابة جزء من الكيان الصهيوني ؛ يحتاج بصفة دائمة - وكفى - إلى تأمين دخول المساعدات الإنسانية لمن يتبقى فيه من سكان . 

ويذهب بعض المحللين إلى أن هذا الرصيف ليس إلا جانبا من منظومة ما يسمى "اليوم التالي" التي اخترعها مجرم الحرب بنيامين نيتانياهو ؛ فهو سيكون - طبقا لتقديراتهم - وسيلة للتهجير القسري لسكان القطاع ؛ تفتح مجالا بديلا للمجال الذي أغلقته مصر برفضها القاطع ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء ؛ خاصة وقد بات معروفا أن بناءه وتشغيله سيجري تحت الإشراف الكامل للكيان ، وهو ما يعني بوضوح أنه مجرد إجراء تكتيكي للالتفاف على المحاذير المصرية المتعلقة بتصفية القضية الفلسطينية ، وتفريغ قطاع غزة من سكانه . 

ويدعم ما يذهب إليه هؤلاء المحللون أن المدعو محمد دحلان كبير المخاتير المدجّنة الذي استباح غزة بما فيها و من فيها - بإيعاز من الاحتلال ؛ قبل دخول منظمة التحرير إليها مع أوسلو - سيكون هو " الحليف " الذي ستتعامل معه قوات المارينزالأميركية لتلقي وتوزيع المساعدات ، وأن الوقت اللازم لبناء هذا الرصيف لا يفي بالمعايير البدهية لأعمال الإغاثة الإنسانية ، و يعبد الطريق أمام الكيان لحرب لا منتهية على شعبنا في القطاع ، ويمكنه من مواصلة عمليات الإبادة والتجويع بحقه ؛ حرب تخضع وتيرتها لخطط الكيان المعلنة بالبقاء في غزة لعشر سنوات تالية ؛ حتى تصبح "غزة جديدة" يتمكن معها من استكمال مشروعه التوراتي بالتمدد إلى سيناء والحجاز !    

ما يسميه الرئيس الأميركي رصيفا مؤقتا لا يعكس نيّات إيجابية ، وهو ليس بالعلاج الجاد للمأساة التي حلت بالقطاع وسكانه . ولقد ماطل الكيان المحتل لنحو ثلاثة عقود في تنفيذ ما نصت عليه اتفاقات أوسلو في ما يخص إنشاء مطار وميناء بحرى في قطاع غزة . ولطالما رفضت مصر مطالبات أمريكية بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر والكيان المحتل بإنشاء قواعد عسكرية على أراضيها . وحرص الرئيس المصري قبل أيام على تأكيد المواقف الثابتة لمصر تجاه القضية الفلسطينية بالقول إننا "لن نخون دماء الفلسطينيين . نحن نبذل أقصى ما نستطيع لحمايتهم وإغاثتهم" . 

و لعل هذه الحقائق و التطورات ؛ مع تطورات أخرى محتملة في الضفة الغربية ، وفي مدينة القدس ، وضغوط شعبية متزايدة في مصر لتعديل السياسات - تدفع قريبا جدا إلى مراجعة الاستراتيجية ؛ فنرى استراتيجية أكثر جرأة وتأثيرا في مواجهة الكيان ؛ تراعي حقيقة أن الأمن يضمن المصالح الدائمة المرتبطة بالحقائق الجيواستراتيجية . 

لا مجال على الإطلاق للتمسك باستراتيجية تجرد المعتدَى عليه من حقه المشروع في الدفاع عن نفسه ، وتصادر حقوق الأطراف المتضررة - ونخص هنا مصر تحديدا - في ممارسة واجباتها الأخلاقية ، والأدوار التيتمليها عليها مصالحها ؛ في دعم المعتدى عليه . 

إن الامتناع عن تحدي الكيان الصهيوني ، يشكل خطرا داهما على السياسات والتوازنات الدولية والإقليمية في المستقبل القريب ؛ يكمن في إخضاع الكل لإرادة هذا الكيان ومشغليه .  

وعلى المخططين المصريين أن يضعوا خططا سريعة تتحدى التكتيكات الصهيو - أميركية المدمرة ، وتكفل تشغيلا كاملا لمعبر رفح البري ؛ لإيصال الضرورات الحياتية والإغاثية لشعبنا في القطاع ؛ مستندين إلى الطلب الذي تقدم به مؤخرا مئات من المصريين والعرب الشرفاء لمرافقة الشاحنات المكدّسة على طول الطريق الممتد إلى المعبر من قلب سيناء العزيزة . 

لا مفر من تحدي هذا الكيان المجرم ومعاقبته . ولا مهرب من موقف عربي ضاغط لردعه تأخر طويلا .

أيها المخططون راجعوا الاستراتيجية ، ولا تنتظروا نتائج الاجتماع المرتقب للرئيس الأميركي المعتوه مع المسيح !  
-----------------------------
بقلم: عبد المجيد إبراهيم 
[email protected]  

مقالات اخرى للكاتب

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :





اعلان