21 - 06 - 2024

ثروت مرسي يربط العربية بالمنجزات اللسانية المعاصرة

ثروت مرسي يربط العربية بالمنجزات اللسانية المعاصرة

يفض كتاب «في التداوليات الاستدلالية قراءة تأصيلية في المفاهيم والسيرورات التأويلية» للدكتور ثروت مرسي الصادر عن دار كنوز المعرفة الأردنية، الاشتباك والجدل الحاصل في مفاهيم التداولية الاستدلالية التي عانت كثيرًا وما زلت من الالتباس بسبب سوء النقل تارة من مصادرها الأجنبية، أو عدم الرجوع إلى المصادر الأصلية لتلك المقاربة في لغتها الأصلية، والاكتفاء بالنقل من لغة وسيطة.

ويرجع مرسي في كتابة إلى المقاربة الأنجلوسكسونية وهي المقاربة التداولية الأساسية، مستعينًا بقدرته على التعامل مع نصوصها بلسانها الأصلي، حيث إن الأدبيات التداولية الفرانكفونية، المترجمة والشائعة اليوم لا توفر فهمًا متكاملًا للمقاربة الفرانكفونية، كما أن هذه المدرسة لم يترجم منها إلى الإنجليزية سوى القليل، وذلك بالإضافة إلى المقاربة التداولية الأنجلوسكسونية هي الأصل، ورغم ذلك لم يترجم عن مفاهيم هذه المقاربة وآلياتها في التأويل إلى العربية شيئًا من قبل، لذا يعد هذا الكتاب رائدًا في هذا المجال.

ويتكون الكتاب من بابين يشمل كل باب منها فصلين في 334 صفحة من القطع الكبير، يعمل فيهما المؤلف على رصد مكونات المقاربة التداولية على مستويي المفاهيم والإجراءات/ السيرورات التأويلية في أدبيات رافد مهم من روافد الفكر اللساني العربي وهو علم أصول الفقه، سعيًا ربط العربية بالمنجزات اللسانية المعاصرة لا عن طريق الإسقاط وادعاء السبق دون مسوغ منهجي، بل عن طريق التأصيل العلمي الدقيق الذي يراعي البعد الزمني بين النظريات ، وظروف إنتاجها.

ويعالج الكتاب التفكير الأصولي بداية من الشافعي 205هـ، وانتهاء بالغزالي 505هـ ويقيم موازنة بين المنجز الأصولي العربي الإسلامي، والتداوليات الأنجلوسكسونية

وينطلق مرسي من فرضية مفادها إمكانية تناول العلوم العربية الإسلامية المشتغلة باللسان العربي، انطلاقًا من منظور مجموعة من المقاربات التي قد تبدو مخالفة لمجالنا التداولي العربي الإسلامي، ولكن بتدقيق النظر نكتشف عددًا من الظواهر، تشكل امتدادًا للمعرفة الإنسانية على طوال تاريخ الإنسان الناطق باللسان والمفكر بتصوره.

ويحدد مدخل الكتاب تعريفات التداولية في الأدبيات الأنجلوسكسونية وحدود اشتغالها، بداية من التعريف الذي قدمه تشارلز موريس للتداوليات عام 1938 بأنها «دراسة العلاقة بين العلامات ومؤوليها» وصولًا إلى آخر تعريفات التداولية في وقتنا الحالي، مفندًا تلك التعريفات ومبينًا مناطق القوة والضعف فيها، وصولًا إلى أفضل تعريفاتها.

كما يركز مرسي على الاختلافات الجوهرية بين التداوليات الكلاسيكية التي بدأت مع جون أوستن ومن بعده سيرل، وجرايس، والتداوليات الحديثة التي تضم الجرايسيون الجدد وتيار المناسبة.

ولا يغفل المؤلف التلقي العربي لمفهوم التداوليات بداية من طه عبدالرحمن الذي يعد أول عربي ورد عنده مصطلح التداوليات استعمالًا وتنظيرًا، ويرجع إليه الفضل في ترجمة هذا المصطلح، صاحب المنجز الأصيل الذي لم يقف أمام المعارف الوافدة منبهرًا ومقلدًا، بل حاورها وانتقدها، وأضاف إليها.

وخلص مرسي في خاتمة الفصل الأول الذي عني بالقصد والاستعمال والخطاب في التداول اللساني من الذهن إلى الفعل إلى أن الأصوليين العرب كانوا أكثر دقة في مفاهيمهم الأصولية مما طرحه المنجز الغربي حديثًا، وأن رؤيتهملمفهوم الاستعمال لم تكن بعيدة عن المقاربة التداولية الحديثة.

وفي الفصل الثاني «السياق، والخلفية المشتركة من العمومية إلى الفاعلية» يشير إلى ما مقدمه الأصليون العرب من تبصرات عميقة ومهمة في هذا الصدد لافتًا إلى أهمية إعادة ما صاغة الأصليون قديمًا في هذه الناحية على ضوء المنجز التداولي الأنجلوسكسوني، بوصفها سبيلًا تقريبية بين المنقول والمأصول، خاصة أن منجزهم قريب الشبه مع ما تقدمه التداولية.

مضيفًا أن الأفكار التي طرحت في البحث التداولي الحديث لم تكن غائبة عن التفكير الأصولي لذا إعادة بلورة الأفكار الأصولية وفقا للمقاربة الأنغلوسكسونية التداولية ليست عملا إسقاطيًا أو تلبيسًا بل هو ضرورة منهجية تفتضيها عملية التقريب للإفادة من هذه المفاهيم الوافدة وإدخال النافع منها إلى مجالنا العربي التداولي.

وفي الفصل الأول من الباب الثاني «الأفعال التداولية» يستعرض مرسي مقاربتي أوستن وسيرل في أفعال الكلام وصولًا إلى اعتماد نظرية الأفعال الكلامية لماي بوصفها المقاربة الأحدث في هذا المجال ولم تظهر في الدراسات العربية إلى الآن، وفي الفصل الثاني الاستلزام التخاطبي يكشف مرسي وجه الشبه الكبير بين ما قدمته النظرية الغربية وما وصل مقاربة المدرسة الحنفية الأصولية.

ويخلص الكتاب إلى أن الأصوليين العرب قد أقاموا نظرية متماسكة لاستثمار إمكانات الخطاب الشرعي كافة، الدلالية منها والتداولية، ويكاد يتشابه مع المنجز الغربي الحديث ويتفوق عليه أحيانًا في بعض الجوانب دقة ووضوحًا.

ومن الأمور التي تحسب لمرسي في كتابه تعريبه لبعض المصطلحات التداولية وتأطيرها عربيًّا مثل مصطلحي القولة والدولة، كما أنه رجع  في دراسته إلى أكثر من 98 مرجعًا أجنبيًّا، في مقابل 63 مرجعًا عربيًا، ويرجع سبب كثرة المراجع الأجنبية إلى قلة تطرق الباحثين العرب إلى ذلك الميدان، وأحيانًا إلى كون الكتاب في بعض القضايا يكون أو من تناولها في محيطنا العربي.

وبشكل عام لا يخفى على قارئ الكتاب التزام الكاتب الشديد بالمنهج العلمي الذي وضعه لنفسه من البداية بغية الوصول إلى نتائج علمية دقيقة، بالإضافة إلى حرصه على تبيان ما وصل إلى المنجز العربي قديمًا في مجال الدرس اللساني.

ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب بالأصل هو أطروحة دكتوراه منحت مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالطبع والتبادل بين الجامعات الأخرى لتميزها وتفردها في مجالها، من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.






اعلان