30 - 06 - 2024

إبداعات | ابنة الصباح

إبداعات | ابنة الصباح

تجَلس الَخالة "نبوية" في هُدوءٍ بجوارِ الحَائطِ القَديم المواجه لدَوارِ العُمدة ، في ارتياٍح، تُطاِلعُ مَقدم الصَّباح ، تُؤمِّنُ طلائعِه لحظة تَشق حَواشي القرية تُزاحِم فضاءاتها، كُلّ شَيٍء إلى الآن يَسيرُ في نَسقِه اليومي المُعتاد ، تقاطر الأوزات  في صياحها ذاهبة الترعة، على البُعدِ معركة الكلاب الصَّباحية الدَّامية، مَصحوبة بعواِء كلب "مفتاح حماد" المنهزم  تتناوشه الكلاب في هُجومٍ خَاطف ، صوت "بركات" الخولي يُوقظُ أنفاره في غِلظةٍ ، تتناوب عصاه الأبواب طَرقا عنيفا، ومقذوف لسانه يَنطلقُ في فُحشٍ :"نموسيتك كحلي يا ابن بهية قوم قامت قيامتك" ، عِراك الطبيعة لا يَتوقّفُ، حُوم العصافير وأبو قردان الكثيفة تَملأ الأُفق الباهت، صوت " القمبيرة " يتَعالى عن بُعدٍ :" يا بيضتي يا بيضتي " ، رائحة البيوت تَهبُّ عَطنة ، مُحمّلة بأثقالِ المساء ، خَليطٌ في لزوجةٍ مُنفّرةٍ لتَصريفِ البطون وروث البهائم ، سِربٌ هزيل من الماَعزِ يرعى فوقَ الأكمام في نَهمٍ ، طابور من العذارى الحُفاة يتَقاطرن في عُبوسٍ على الترعة.

واظبت " نبوية " على جلستها مُذ غَادر "الحاج مصطفى البكري" للأراضي الحِجازية ، رقصت أمام موَكبهِ في ابتهاجٍ حَتّى تَعبت ، اطلقت زغرودة مُرتعشة تُشبه نُباح كَلبٍ عَجوز ، رفعت يدها مبتهلة بنيةٍ صَافية ، أن يَكفه شر الطَّريق ، أن يَرجع سَالمِا لناسه ، هَللّت وغَنّت وتَمنّت كغيرها ، لم تَغفل أثناء ذلك أن تُعيد عليه طَلبها ، جَذبت الرّجلَ من كُمهِ وهي متشبثة بنافذةِ السَّيارة ، أعادت طلباتها "جلباب وطرحة وشبشب" ، لحَظتها مَرَّر  يده فوقَ راسها في تَلطُّفٍ ، ودَسَّ في يدها قطعةً من الفضِة رِيالا كَاملا ، رقَصَ قلَبها طَربا ، أطبقت يَدها على الرّيالِ بإحكامٍ ، وقد تَعرَّق جَبينها اليَابس ، سَرت فيها رِعدة خَفيفة من حَرارةِ الحياة ، ابتلعت ريقها ، تَشبَّثت أصَابعِ قدمها العارية بالأرضِ بعدما دارت من تحتها ، طالعت يدها المُحكّمة على قطعِة النَّقدِ ، طَفحت عَبرة بدت كَرزازٍ خَفيفٍ عاجلتها بطرف حرامها ، نفَضت رأسها في ابتسامٍة شَاحِبةٍ ، تكَّسرت لها تجاعيد وجه برئ ، قد رَسمَ  الزمن عليهِ خُطوطا من البُؤسِ والشَّقاء، انَحرفت نَاحيةِ الجِداِر وقد أسندت رأسها إليه ، مَرَّ من أمامها شريط الذكرى ، تَنبَّهت لصراخٍ أمها المَفجوعة ، وبكاء أخوتها ، ضَجيج الخَفر يسوقون والدها في غِلظٍة وهو يَحجِلُ في قيودِه ، في استعبارٍ هَزَّت رأسها ، غَيَّبت نفحتها الجديدة تحتَ أثدائها كالعَادةِ.

" نبوية " ابنة الصباح الوفية، تقولُ مفُتخرة :" مُنذ أربعينَ عَاما لم تطلع عَلّي شمس النَّهار، إلا وأنا تحت الجدار" ، هُنا مُستقرها الآمن ، تشعل نيران الكانون ، تَعشق الشاي لَحدِّ الهَوس ، يَطفحُ وجهها بالسعادةِ حِينَ تَختلط رائحته النَّفاذة بِخيوطِ دُخان "الجوزة " التي لا تمل كركرتها ، تَظّل سَابحةً في الدَّربِ سَحابة نهارها حتى يَلتَحم سواد الليل بالحِيطانِ ، عندها تُلملم أغراضها وتقصد غُرفتها، لا تبرحها حتى مَخاض يَومٍ جَديد، ، تَتودَّد للجميع في حَميميةٍ زائدة تُردّد :" أنا ابنة هذا البلد ، كل الناس أهلي المسلم والمسيحي " ، بحَذرٍ تُلامسُ ماضيها ، تروعها مأساة عائلتها التي قتلت جميعا ، ولم تفكُّ الحكومة لغزها .

يَتغامز الخُبثاء في وقَاحٍة :"هل أصَابَ قلب ابنة الصَّباح ما يُصيب النساء ، وهل تَأثَّر لعدوى الحُب ؟! ، لم يعرف عنها أنَّها مالت لَحبيبٍ ، أو بَادلت رَجلا عَاطفة ، بل هي امرأة تنكَّرت لأنوثتها خَنقتها في مَهدها، في تَعمدٍ تبدو مُسترجلة ، تَغرسُ جَسدها في جِلبابِ الرجال، تُعصِّبُ رأسها بشالٍ أحمر ، حتَّى وهي تَطلب من الحَاج " مصطفى " جِلبابا وطرحة لم تسأل نفسها ، مالي وتلك الثياب؟!

لم تَخرج يوما عن حُدودِ القرية ، لا تعرف من عالمها سوى هذه الجُدران ، لم تخالط غيرَ هذه الوجوه وضَجيج الشوارع، يقشعرُ بدنها عِندَ الموردة تظنّ أن يدا ستخطفها من الماء ، رأيتها البارحة فيجِلبابها الأزرق ، تَلتهمُ عروق الحِلبة الخَضراء في انبساطٍ ، ألقيتُ إليها بتَحيِة الصباح ، اشَرقَ وجهها لكنَّها اكتفت بإشارةٍ من يدها ، ثم عَادت لتَغمسَ وجهها في حِجرها وتَصلُ ما انَقطعَ.
-----------------------
يكتبها : محمد فيض خالد






اعلان