28 - 06 - 2024

مسيرة" رعد " من جنين إلى تل أبيب : قراءة في آفاق الصراع على فلسطين التاريخية

مسيرة

بَنيتُ هذا المقال على نصّ لم يسبق نشره ؛ قمت بكتابته بعد أقل من عشرة أيام من العملية التي نفذها البطل "رعد فتحي حازم" ابن مخيم جنين ؛ في إبريل 2022 ؛ في شارع ديزنجوف ؛ في قلب مدينة تل أبيب ، و هي العملية التي لم يفهم المعنيون في الكيان الصهيوني دلالتها ؛ ليتفاجأوا بعد عامين و نصف العام بـ "طوفان الأقصى" التي تبلور ردهم الإجرامي عليها في قتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال – تحديدا - من أبناء شعبنا الفلسطيني ؛ فهؤلاء وهؤلاء هم مصانع المقاومة التي تعبد الطريق إلى دولة واحدة تقوم على كامل أرض فلسطين التاريخية. فالمقال الذي يطالعه القراء ها هنا هو إذن بناء نصي جديد يحتوي النص المشار إليه؛ يهدف إلى استشراف مستقبل قضية فلسطين؛ بتوظيف بعض التأملات الذاتية حول مفاهيم اجتماعية أساسية وضرورية لفهم الأحداث الجارية والتنبؤ لها ، وفي طليعتها "الوعي". 

في مثل هذه الأيام من العام 2002؛ كنت على موعد مع حدث من الحوادث الفريدة التي مررت بها في مسيرتي المهنية ؛ حيث تواصلت فجر التاسع من إبريل هاتفيا من القاهرة مع عدد من المقاومين الفلسطينيين الذين كانوا لا يزالون أحياء – يقاتلون من بين ومن تحت أنقاض بناية ضخمة دمرها جيش الاحتلال – يصدون مع رفاقهم حملة اجتياح شامل بالمصفحات والطائرات لمخيم جنين ؛ ارتقت إلى حد المجزرة. 

لا أستذكر على وجه الدقة أسماء هؤلاء الأبطال ؛ لكنهم جميعا ارتقوا بحلول ظهيرة ذلك اليوم، وربما كان من بينهم أمجد (فايد) وعبد الرحيم (فرج) الذين استمع إليهم الكافة وقتها عبر الإذاعة المصرية ؛ وهم يتهيأون للشهادة في ثبات واستبشار. 

في ذلك اليوم ؛ كان الاجتياح الصهيوني للمخيم أكمل يومه الثامن ، وكان عدد الشهداء الفلسطينيين قارب المئة . وهناك – خارج البث الإذاعي ، والتلفزيوني أيضا – كان  صبي لم يتجاوز عمره بعد ثماني السنوات ؛ يدعى "رعد فتحي حازم" – يركض مع الراكضين من النساء والأطفال بعيدا عن المخيم ؛ هو نفسه الفتى العشريني "رعد" الذي نفذ العملية الفارقة التي وقعت نهاية الأسبوع الأول من شهر رمضان قبل الماضي في شارع ديزنجوف ؛ في قلب تل أبيب ، والتي اختار لها توقيتا واضح الدلالة هو إحياء الذكرى العشرين لمجزرة جنين التي عايشها صبيا صغيرا ، وبالتأكيد ؛ لم تغادر وقائعها الدامية المؤلمة ذاكرته الفتيّة. 

عشرون عاما قضّاها "رعد" في مسيرة تعلم خلالها الكثير ؛ قاطعا نحو مئة كليو متر هي المسافة بين مدينتي جنين وتل أبيب التي كان بمقدوره الوصول إليها راكبا ؛ على المحور الرابط بينهما المسمى محور إسحق رابين – في ساعة و نصف الساعة على الأكثر! لكنه لم يفعل!      

فما هو إذن المسار الذي اتخذه " رعد " ليزمجر في قلب تل أبيب ؟ الأقرب إلى التصور أن يكون قد عبر الخط الأخضر في مقابلة المدينة ؛ ليقلص مسافة السير نحو الشارع إلى عشرين كليو متر فقط ؛ من حولها الأرض نطاق من الضواحي الهادئة نسبيا المحيطة بالمدينة ، وأن يكون معظم مساره قد وقع في داخل الضفة الغربية المحتلة ؛ وصولا إلى غرب رام الله عبر قلقيلية ، وربما أبعد من ذلك باتجاه الجنوب عند بلدة نعلين ؛ إذا كان خطط للوصول إلى ديزنجوف من مدخله الجنوبي ؛ بعد أن يفطر في يافا ، ويؤدي صلاة المغرب في جامعها الكبير الذي عاد إليه بعد أن نفذ عمليته الفارقة ؛ ليصلي فيه فجر الجمعة الأولى من رمضان ، ويقضي هناك في تبادل أخير لإطلاق النار مع مطارديه ؛ بعد أن بقي في جعبته القليل من الطلقات ؛ على بعد أمتار من ساحة الشهداء التي قبض رئيس بلدية يافا حولدائي أموالا طائلة لتغيير اسمها ؛ قبل سنوات قليلة.  

تلقيت أنباء عملية ديزنجوف من منظور مختلف تماما عن المنظور العامّ لمن لا يعرفون على نحو دقيق خارطة فلسطين ، وشوارع ومعالم مدينة تل أبيب التي كانت تدعى تل الربيع. 

مرارا وتكرارا تجولت في هذا الشارع الذي يمتد طوليا تقريبا من جنوب المدينة إلى شمالها بموازاة ساحل البحر المتوسط وقريبا منه ؛ حتى إنني عاينت عدة مرات المكان الذي كان مقرا لشركة السياحة التي أسسها رفعت الجمّال (الهجّان) كغطاء لنشاطه ؛ في تفريعة من الشارع تسمى باسم النبي يوشع بن نون الذي أعاد إليه الربّ الشمس ؛ ليجهز على خصومه . وفي الشارع الذي يُدعَى هناك بشانزليزيه تل أبيب ؛ توجد الكثير من مقار المال والأعمال وشركات السياحة ، والمقاهي والبارات والمطاعم ، وحوانيت الملبوسات والمنتوجات والمشغولات الجلدية والمعدنية والأحذية ؛ من جميع الماركات العالمية ، وأماكن الترفيه واللهو . وحواليهِ تتناثر الكثير من السفارات ؛ منها السفارة السويسرية ، وعلى مقربة من الشارع – في شارع بازل – تقع السفارة المصرية ، وفي محيطه ، وعلى جانبيه ؛ تنتشر العشرات من المراكز الحيوية الاقتصادية والثقافية في تل أبيب ؛ منها الناطحة التي تضم أكبر قاعدة لتجارة الماس في العالم الواقعة في منطقة قريبة تسمى رامات جان إلى الجنوب الشرقي. 

الحركة في الشارع لا تنقطع ؛ حتى وقت القيلولة ، ومع انكسار الشمس ؛ يكون مكتظا مزدحما بالمتسوقين من النخبة والسائحين والمتطفلين من أمثالي ، وهؤلاء الأخيرون أقصى ما يفعلونه في هذا الشارع هو شراء بعض العقاقير الطبية النادرة التي تتوافر في صيدليات تشبه الصيدليات العتيقة التي تميزها الأخشاب وألواح الزجاج النادرة ؛ في منطقة محطة الرمل في مدينتي الإسكندرية. 

إذن ؛ ضرب "رعد" دولة الاحتلال في قلبها النابض ، وفرض حظر تجوال إجباريا في تل أبيب – مثلما تندّر الفلسطينيون حينها – لعشر ساعات متصلة ؛ هي الساعات الفاصلة بين مغرب الخميس وفجر الجمعة ، ودفع وزارة الحرب وأجهزة الأمن الداخلي في الكيان إلى تحريك ما يزيد على الألف من نخبة محاربيه ؛ وفي مقدمتهم عناصر من سَرية رئاسة الأركان ؛  لمطاردته واصطياده ؛ من دون جدوى ؛ ليقرر هو المكان و التوقيت الذي سيقضي فيه !  

على ما يبدو لي ؛ اختار "رعد" بوابة الجامع الكبير في يافا المطلة على ساحة الشهداء التي تسمى أيضا دوّار الساعة ؛ لتكون مكانا للارتقاء . ولهذا المكان دلالته أيضا ؛ فالجامع الكبير في يافا هو ثالث أكبر جامع في فلسطين التاريخية بعد الأقصى والإبراهيمي الأسيرين ، وفي هذا الدوّار (الميدان) الذي يتوسطه برج بناه السلطان عبد الحميد الثاني ؛ تعتليه أربع ساعات ضخمة واحدة في كل جانب – سقط الكثيرون من أبناء الشعب الفلسطيني في معارك طاحنة مع الاحتلال البريطاني ، ومع المستوطنين اليهود ؛ وبخاصة في العام 48 الذي أعلنت فيه دولة الاحتلال.  

ومن منظوري الخاص الذي بيّنته في السابق ؛ رأيت أن القطع الأكثر أهمية في المسار الذي اختطّه "رعد" بين جنين وتل أبيب هو خمسة كليو مترات تقريبا ؛ تفصل بين شارع ديزنجوف والجامع الكبير في يافا. فإذا كنت تسير بمحاذاة الساحل ؛ فأنت تتنقل بين مجموعة من الشواطئ والمتنزهات الساحرة وحانات البوب والفنادق وبنايات الأعمال الشاهقة ؛ لتتعرف على نوعية الحياة التي يحياها المحتلون ؛ في مقابلة حياة عموم الشعب الفلسطيني في المخيمات . وفي منتصف المسافة تقريبا ؛ ترى مسجدا يطل من بعيد بمئذنته الجميلة عبر البحر هو مسجد حسن بيك . لكن السير من الداخل خلف طريق البحر وشارع بن يهودا الموازي له ؛ يحمل مضامين أخرى ؛ فهناك ستكون على موعد مع السفارة الأمريكية التي انتقل عملها إلى القدس المحتلة في أبنية القنصلية القائمة هناك ، والمبنى العتيد لوزارة الحرب الصهيونية في منطقة تسمى كرياه ، وكل هذه المعالم قامت على أنقاض حي المنشية أحد أحياء يافا القديمة الذي لم يبقَ منه الكثير ؛ في ما بقي من الأحياء الأخرى عديد من البنايات المهدمة والمهجورة الخاضعة لما يعرف بقانون الغائبين.   

من كل ما تقدم تكون الرسالة العفوية في مضمونها – وإن كانت مقصودة تكتيكيا – التي اختطها "رعد" بدمائه موجهة إلى قادة دولة الاحتلال ؛ في المقام الأول: إلى رئيس وزرائها في حينه نفتالي بينيت الذي تمنى خلال حملة الانتخابات التي جاءت به إلى المنصب أن يكون بمقدوره قتل المزيد من الفلسطينيين ، وإلى زعيم المعارضة آنذاك الملاحق قضائيا بنيامين نيتانياهو الذي حوصر في مكتبه الخاص في الشارع ؛ وقتما كان رعد حرّا يفرغ رصاصاته الغاضبة في صدور العسكريين والأمنيين ؛ داعيا النساء و الأطفال إلى الابتعاد عن محيطه ؛ مثلما شهدت الكثيرات من الإسرائيليات اللائي مرّ بهن في طريقه (ومنهن السيدة أهارونا) ، وإلى القادة السابقين المقبورين في جبل هرتزل ؛ وعلى رأسهم ديفيد بن جوريون وجولده مئير اللذين ماتا وهما مصرّين على أن الفلسطينيين هم مجرد حشرات ! وبالطبع ؛ إلى آريئيل شارون المقبور في مزرعته الخاصة القريبة من غزة التي كان يلهو فيها بمطاردة أسراه من المقاومين ؛ على طريقة الغاب ، وقتل المئات منهم في مجزرة جنين 2002. 

رسالة "رعد" تخطيطا وتوقيتا ودوافع كانت تتعلق بتجسيد الواقع الذي نعيشه ، وهو واقع يضرب في كل الاتجاهات مغيّرا منظومات الأفكار وهياكل المؤسسات ، ومعبرا عن تطورات اعتباطية تتعلق بانسلاخ نظام دولي جديد . وهو واقع يشي بصدقية الرواية الموروثة عن نهاية العالم والألفية السعيدة ، ويعدّ إنشاء دولة الكيان ذروة درامية في نسيجها . وطبقا لهذه الرواية ؛ فإن المعركة الفاصلة بين القوى الخيّرة والشريرة حسب الكثيرين من أصحاب الديانات السماوية والأرضية ؛ ستقع في مجيدو قرب مدينة جنين. 

ولمّا كانت ظاهرة الصراع تعبر في التوصيف الفلسفي والفكر السياسي الواقعي عن التناقض الأزلي بين هذه القوى ، فإن الجمع بين المتناقضات يحتمل حلولا لمختلف الصراعات ، ويحتمل أيضا تسويات مع أعداء يتناقضون في الأهداف والمصالح . ونبوءة الألفية التي يؤمن بها الكثيرون ترهن بدء مرحلة النهاية بالاندماج ؛ فهي تعد بإنهاء جميع الاختلافات والتناقضات صعودا إلى نهاية التاريخ .   

وبخبرتي اللصيقة والعميقة مع العمليات والانتفاضات الفلسطينية منذ انطلاق الثورة المعاصرة للشعب الفلسطيني التي دُشنت بتدمير نفق عيلبون إلى الشمال من جنين ؛ ليلة الأول من يناير 1965 – أرى أن هذه العملية كانت فارقة تماما: ليس بمقياس حجم الضرر الذي أوقعته –  ولم تكشف عنه المصادر الصهيونية المعنية كعادتها – ولكن بمقاربة فلسفية هي التي أوضحتها في السابق. فهذه العملية كانت تعني أن طرفي التناقض و الصراع قد وصلا إلى حد الذروة على منحنى التمثُل والنفاذ العميق ؛ على الرغم من الفوارق الهائلة بينهما في ميزان القوة والقدرات ؛ نتيجة تعاظم التصادم في الأفكار والمعتقدات ، وتنامي ترهل المؤسسات على الجانبين. 

فالجيش الصهيوني الذي "أجهز" قبل عشرين عاما على مخيم جنين الذي تتبلور فيه طبيعة حياة غالبية الفلسطينيين ؛ واجه في هذه العملية واحدا من فتيان المخيم عايش مجزرة جنين "يجهز" على قلب تل أبيب وشريان ثروتها ومرآة حياتها. وعندما يصل المتناقضان إلى هذه النقطة : نقطة التعادل (تصادم الأضداد) ؛ نكون فلسفيا وعلميّا أمام مخاض الحل ؛ بمعني زوال دولة الكيان بالصورة التي عرفناها منذ ما يزيد على سبعين عاما.  

إن "التمثّل" بالخصم النقيض القائم على معايشته والمعرفة به ؛ ومن ثم "النفاذ العميق" في بنيته المادية والبشرية ؛ ظاهرة ملموسة ومعتادة في مختلف الصراعات ؛ لكنها لا تنفي أبدا حقيقة أن الخلاف بين طرف ونقيضه يبقى خلافا لا تقاطع فيه ولا اتفاق . ويكفي أن نفهم كيف أن الأحياء المغلقة التي استخدمت كمراكز أولية لِبنْية الكيان المؤسسية الذي تحول بدوره إلى حي مغلق ؛ هي النقيض والضد للمخيم الفلسطيني المفتوح والمنفتح على الآخَر (هذا المقطع مستعار من تأملات للمناضل والمفكر المصري الراحل الدكتور محجوب عمر). 

وعندي أن مجمل الوقائع التي لحقت بعملية "رعد" ، وفي مقدمتها ؛ الرد الإسرائيلي الفوري عليها بالتوجه نحو بناء المزيد من الأسوار العازلة على طول الخط الأخضر ، وبما فيها عمليات التطبيع العربي مع إسرائيل التي يهلل لها المعنيون في تل أبيب ؛ تؤكد أننا ماضون باتجاه فلسطين التاريخية التي تكون دولة لكل مواطنيها ، وجزءا من دولة الوحدة العربية الكبرى. 

وهذا مسار يتعلق بالفعل الواعي المقاوم و الإبداعي الإنساني للجماهير على الجانبين : رعد – أهارونا . ولعل هذا ما تعدنا به ابتسامة رعد المملوءة ثقة و ثباتا و أملا في صورته الشخصية التي نشرتها عائلته ، وفي صورته الأخرى التي كان يحمل فيها ولده الرضيع الذي لن يكون مضطرا – على الأرجح – إلى أن يقطع المسافة بين جنين و تل الربيع في عشرين عاما من الآلام والدموع والدماء . انتهي هنا النص المكتوب في 14 إبريل 2022.

***

في العام 1990 ؛ وضعت كتابا بعنوان "النموذج الانتفاضي" ؛ عرض تفاصيل دراسة علمية أجريتها اعتمادا على أسلوب تحليل المحتوى للنداءات المركزية الصادرة عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت نهاية العام 1987؛ حاولت من خلالها استكشاف معالم النموذج النضالي الذي شكّله الفعل الثوري الفلسطيني آنذاك . وقد كانت الدراسة معنية بقياس مدى الفاعلية الثورية للانتفاضة ؛ من منظور "الوعي" . وكان أبرز النتائج التي انتهت إليها هي أن للنضال الفلسطيني الممتد استراتيجية عامة تقوم على امتلاك القدرة على "الاستمرار والإنجاز المتراكم" ؛ استنادا إلى قاعدة "التناقض" مع الكيان الصهيوني الذي يعمل عمل الوقود الدائم للتعبير الثوري الفعال ، ويحرك الطاقات الكامنة لدي الجماهير ، وهو ما يدفع كل دورة من دورات النضال الفلسطيني إلى المزيد من الابتكار والإبداع في استخدام أساليب أكثر فاعلية لتهديد وجود الكيان ، وضرب نظرية أمنه على مختلف محاورها.  

واليوم يتعين أن أضيف إلى ما تقدم أن هذا التناقض هو تناقض وجودي لا حل له ، وتعبر عنه المقولة الكبرى للحركة الصهيونية عن الأرض والشعب ، ومقولات رموزها وقادتها ، ومنها على سبيل المثال مقولة آريئيل شارون الشهيرة "إما نحن على أيديهم و إما هم على أيدينا" ، وهي مقولات أسست لمشاريع عقائدية ثابتة في مخططات الحركة الصهيونية ؛ كالنقل / الترحيل القسري ، والطرد المنظم ، والاستيطان المتواصل المتوسع ، والتوطين في المهاجر والمنافي للفلسطينيين ، واستيعابهم عن طريق الأسرلة ، والضغوط المتنوعة ؛ وأبرزها مصادرة الأراضي ، وهدم المنازل ، واختطاف وطمس الثقافة ، ومحاصرة مؤسسات الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي ، وتسبقها وتدعمها جميعها الآلة العسكرية والأمنية والدعائية الشرسة التي توجهها المؤسسات الصهيونية إلى "العقل" والجسد الفلسطيني – على الأقل منذ منتصف القرن الماضي – من أجل تشكيل  وعي فلسطيني مغاير ؛ عن طريق خلق واقع تدفع معطياته الفلسطينيين إلى التسليم و القبول به ، ومن ثم يؤدي بهم إلى الاستسلام . 

والواضح بالطبع أن هذا الوعي لم يتشكل ولن يتشكل أبدا ؛ لأن قاعدة الوعي ومنطلقه هي البنيان المعنوي والعقيدة وثوابت الوعي لدى "الجماعة" الفلسطينية ؛ وفي صدارتها تعظيم قيمة الأرض وأولوية الدفاع عنها والتمسك والارتباط بها ، وهذه تجدها عند الفلسطينيين بكل توجهاتهم ؛ بمن فيهم مناصرو حركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي تسقط من حساباتها الكثير من القواعد الفكرية التأسيسية لجماعة الإخوان ، وأهمها قاعدة أن "الدين هو الوطن" .  

وللسبب المتقدم نفسه فشل الكيان الصهيوني ورعاته طوال الوقت في تمرير الحل الإمبريالي البديل الذي يعاد طرحه بصيغ مختلفة كلما جدّ جديد ؛ أي الحل الاقتصادي أو حل الرفاهية الذي ابتدعه شمعون بيرسكي في التسعينات ، ونفخت فيه خلال السنوات الماضية منظومة الرئيس الأميركي السابق ترامب . 

ومن المهم الإشارة إلى أن الدراسة التي أجريتها في العام 1990 بينت أن واحدا من أهم مؤشرات الوعي الثوري في انتفاضة 87 ، ومن أقوى عوامل نجاحها واستمرارها ؛ كان استخدام "الحجارة" في ضرب العدو الصهيوني ؛ فالحجارة – مثلما ذكرت في الكتاب – سلاح لا ثمن له ، ولا يخضع امتلاكه لأية عوامل خارجية ؛ بما في ذلك التقادم التكنولوجي ؛ فهي متواجدة في كل زمان و مكان ، ولا يحدد القدر المطلوب منها سوى المثابرة على قذفها . وهكذا خرجت الجماهير بالجوهر الكامن في خواص الحجارة الطبيعية إلى جوهرها الإنساني المرتبط بوظائفها الاجتماعية ؛ ومنها قيمتها كوسيلة للقذف ؛ تعبيرا عن مشاعر الإنسان المقهور الذي يسعى إلى تحقيق أهدافه السامية .   

وبينما كنت أكتب مؤخرا بعض التأملات الخاصة عن "طوفان الأقصى" ( راجع : طوفان الأقصى و التقصير العربي ، موقع المشهد ، 21 فبراير 2024 ) ؛ لم تسعفني الذاكرة لاستعادة هذا الاستنتاج الذي توصلت إليه في خضم انتفاضة 87 . بيد أن المصادفة وحدها قادتني إلى الاستماع إلى تسجيل صوتي ؛ لجانب من محاضرة ألقاها المفكر المصري الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيري في 1994 ؛ فهمت من خلاله أنه اطّلع على كتابي المشار إليه ؛ حتى إنه استعمل تعبير "النموذج الانتفاضي" ؛ لكنه تجاوز استنتاجاتي إلى آفاق ( و كان للكتاب عنوان فرعي هو : السمات و الآفاق ) لم أكن لأتصورها ؛ تتناسب مع عمق تفكيره ودائرة اهتمامه الفكري ؛ حيث قال نصا " علينا أن نكتشف نموذجا لمواجهة العدو ، وأن نطوره لينتصر ... لنواجه العدو على أرضيتنا نحن ونستدرجه إليها ... نموذج الحجارة نموذج موجود في الخطاب الحضاري الإسلامي (رجم إبليس وعقوبة الزنا وعام الفيل وغيرها ) ... المهم أن نعطي الجماهير شكلا نضاليا تألفه ... ولا ينبغي أن نلقي بأنفسنا في الواقع بدون دراسته ... فنطرح نماذج و مواقف مستحيلة يمنع الواقع إنجازها ... يجب أن نواجه بنماذجنا المنتمية إلى عالم ما قبل الحداثة" .  

فماذا عن " طوفان الأقصى " كنموذج نضالي ما قبل حداثي ؟ 

في المقال الذي أشرت إليه في الفقرة السابقة كتبت ما يلي : 

((لا يحتاج فهم الرواية القرآنية لقصة الطوفان إلى الغوص في التفاسير المعتمدة و الاحتمالات التي تتجادل حولها ؛ فالقصة في بساطتها هي أن قوم نوح كانوا قوما ظالمين – بحكم الله – و أنه عاقبهم بالطوفان ، و نجّى جماعة المؤمنين الذين أقلتهم الجارية التي صنعها نوح بوحي و تكليف من الله ؛ استعدادا لما هو قادم ، وأن الطوفان تحقق بطريقين : ماء منهمر من السماء و ماء تفجرت به الأرض من باطنها عيونا ، وأن الله أعطى نوحا علامة تسبق الطوفان تمثلت في فوران التنّور الذي هو وجه الأرض ؛ ليستبق وقوعه بركوب الفلك أو السفينة أو الجارية مع الناجين من قومه ، و أن نهاية الظالمين كانت الغرق في مياه الطوفان التي كانت أمواجها عظيمة كالجبال لا عاصم لأحد منها إلا من رحمه الله ، و أن هذه النهاية فتحت الباب أمام " عهد جديد " بعد نفاذ حكم الله و قضاء أمره الذي قدره بنهاية الظالمين ، و جعل السفينة آية وعبرة للأمم التي ستقوم من نسل جماعة نوح الناجية. 

و من هذا السرد البسيط للقصة يتضح لنا مدى كثافة الدلالات التي تحملها تسمية عملية السابع من أكتوبر بالطوفان ، وتعيينه بإلحاق الأقصى به بطريق الإضافة . وهذا الإلحاق يطرح عددا من الأسئلة الجوهرية التي ترتبط من جانب بالقصة مثلما رويت في القرآن وفي غيره من الكتب المقدسة ، ومن جانب آخر بسياق الأحداث الجارية على أرض فلسطين و جذورها . وأهم هذه الأسئلة على الإطلاق سؤال النهاية المقدرة للأحداث ، والسؤال الخاص بطبيعة وتوقيت فوران التنّور في السياق الجاري ، وما هي طبيعة السفينة التي ستعصم المؤمنين ؟ و ما علاقة شبكة الأنفاق المقامة تحت الأرض في غزة بالمشابهة التي قصدتها التسمية ؟ وما علاقة الطوفان بالأساس بالأقصى ؟ وكيف ستكون صورة الواقع الجديد على أرض فلسطين بعد الطوفان ؟ 

و من المفهوم أن الإيدولوجية بما قد تحمله من محتويات دينية حاسمة في تأثيرها تعد الحقل الأكثر ملاءمة للبحث عن تسميات فعالة لمثل تلك العمليات . فـ " السيوف الحديدية " كمثال لها رمزية قوية في الروايات التوراتية التي تقول إن الفلسطينيين كانوا يحتكرون تشذيب الأدوات الحديدية لحرمان اليهود من صناعة السيوف و الرماح – راجع سفر صموئيل الأول ، الإصحاح 13 . وهنا تتضح بجلاء الغاية من الرد الصهيوني على طوفان الأقصى و طبيعته ؛ فهو رد يشير إلى أننا بصدد حرب انتقام "مشروعة" ذات عمق تاريخي ، ويلمح ؛ باستخدام صيغة الجمع ، إلى أنها لن تكتفي بمواجهة الفلسطينيين وحدهم ! ويعزز هذا الفهم أن مجلس الوزراء في الكيان بحث في نهاية ديسمبر الماضي تغيير هذه التسمية ؛ باعتبارها غير كافية ! وتداول عدة مقترحات بديلة ؛ منها "حرب البقاء الثانية" ، وبدا أن النيّة تتجه إلى تسمية عملية الرد على طوفان الأقصى بـ "حرب التكوين" ، وهذا يستدعي طبقا لمضمون سفر التكوين قضية البدايات ، وتسخير التاريخ من أجل فكرة الخلاص ، و بمعنى أكثر تركيزا ؛ خطة إبادة "عادلة" وضعها الرب و يظاهرها ؛ لبدء عالم أبدي جديد . ويقال إن نيتانياهو استحسن هذه التسمية بسبب الوقع الجيّد للكلمة GENESIS في الإنجليزية ! )) .  

***

إن البعد الإيدولوجي للوعي يعمل بغير انقطاع على تقديم بدائل لمكونات الواقع القائم بكل مشتملاته . فالوعي يحرك الإبداع و الابتكار ؛ ليؤدي عن طريق الفعل ورد الفعل إلى بناء مفاهيم وعلاقات وقيم و أنظمة جديدة ، ويحفز ويحرض على هدم القائم منها .  

ومثلما أسلفنا ؛ فإن تناقضات الواقع تعمل عمل الوقود للتغيير الذي يحرك الطاقات الإنسانية ؛ لتبني الإرادة التي تنهض بالفعل / رد الفعل . ولهذا ؛ نجد أن محاولات فرض التناقضات كواقع مقبول بتوجيه ضربات مادية أو غير مادية ساحقة للخصوم ؛ لإشعارهم بالعجز – لا تنجح بالمطلق ؛ ما دام الوعي قابضا على مكوناته الثابتة . 

***

قلنا سابقا إن  قاعدة الوعي لدى الفلسطينيين – كغيرهم – هي البنيان المعنوي و العقيدة ؛ إضافة إلى ثوابته الخاصة لدى " الجماعة " الفلسطينية . ولهذا ؛ لا يلتفت الكيان الصهيوني كثيرا في مواجهته للنضال الفلسطيني الممتد إلى المشاعر والأفكار ، أو إلى المعتقدات العامة الجامعة للمقاتلين والمدنيين ، بل يوجه جلّ اهتمامه إلى ضرب عمق عقيدتهم وروحهم المعنوية التي تبني العزيمة وتفجر الإرادة . والعزيمة والإرادة تنبني على متغيرات جوهرية ؛ في مقدمتها الإيمان والانضباط والإصرار والحزم والجديَة والجَلَد والتأني والثبات الانفعالي وسرعة رد الفعل والصبر والقدرة على اتخاذ القرار ، وغيرها .   

***

و ختاما ؛ يستوجب الأمر عودة ضرورية إلى الشهيد "رعد فتحي حازم" ؛ لنقول إنه كان بمقدوره (ومن المؤكد أنه سيكون بمقدور ولده الصغير ؛ في المستقبل القريب) أن يتعايش في سلام مع السيدة أهارونا ، ومع الأسيرة المحررة أجام التي صرحت - بافتخار كبير - بأن المقاومين في غزة أطلقوا عليها اسم "سلسبيل" ؛ موضحة أن " الاسم مذكور عندهم في القرآن ، ويعني الماء الحلو " ، وقالت "يا لها من مصادفة ؛ فاسمي أجام في العبرية يعني بحيرة" ! وأضافت " هؤلاء لن يتراجعوا ، ورؤوسهم لن تنحني ... إنهم يتجهزون للعودة مجددا ، وقد وعدتهم بأن أطبخ لهم بنفسي الطعام في المرة القادمة" !  

إنه الوعي يا أصدقائي ! معه يستطيعون أن يقدموا حلولا تنتمي إلى واقع الحداثة ، أو ما بعد الحداثة ؛ تقوم على فكرة الدولتين وما شاكلها ، ومن المقبول أن نتحاور معهم حولها . 

ومعه نستطيع نحن – فلسطينيين وعربا – أن نقدم نماذج نضالية فاعلة تنتمي إلى خطابنا الحضاري ؛ وصولا إلى زوال الكيان الصهيوني ، وإنشاء دولة واحدة على أرض فلسطين التاريخية . ومن لا يرغب في العمل والنضال فليتنحَ جانبا ، وليتركنا في حالنا ، ولا يعطلنا ! والله معنا !!      
---------------------------
بقلم: عبد المجيد إبراهيم
[email protected] 

  

مقالات اخرى للكاتب

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :





اعلان