06 - 05 - 2024

جذور الخلاف بين فريد الأطرش والعندليب عبد الحليم حافظ

جذور الخلاف بين فريد الأطرش والعندليب عبد الحليم حافظ

اعتادت الصحافة الفنية أن تجعل من سيرة العندليب عبد الحليم حافظ طوال العام، سرادقا تحرق فيه أعواد البخور؛ وتخصصه كمادة مشوقة ومطلوبة تتجرع فيه سيرة العندليب ورفاقه من كبار نجوم زمانه، مع سكب كثير من الدموع، وإن كنت أتمنى أن يخصص لدراسة إبداع حليم: الفني والإنساني، وإن كان هذا لا يمنع مناقشة الهنات أيضا؛ باعتبار أنها دروسا لعلها تأتي بعندليب جديد..طال وسيطول إنتظاره!

في مقدمة الألغاز من وجهة نظرنا التي جاءت في مسيرة عبد الحليم، علاقته بأمير النغم فريد الأطرش، ليس لكون تلك المحطة قد تركت أثرا في مسيرة أحدهما أو كلاهما؛ فالصحيح أنه لم تتأثر شعبية القطبين بالخلاف المستتر بينهما؛ فقد غفرها الجمهور، ولكن إلقاء الضوء عليها ومحاولة تأصيلها وتحليلها، مهم غاية في الأهمية؛ لأنها تكشف عن كيفية إدارة قطبين غنائيين يقتسمان جمهور مساحة هائلة من الكرة الأرضية، في وقت لم يكن يعترف بالمؤسسات ولا بعلم إدارة الأعمال ـ وربما إدارة حياة ـ النجوم الإستثنائيين!

بداية أسجل حبي وخالص تقديري ومحبتي لفن العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، إلا أنني ـ كنت ـ لا أنكر دهشتي أمام بعض المواقف التي لم يحسن إدارتها، وصل الأمر إلى حد اتهام العندليب بالخطأ تجاه من لا يستحقون أن يتصرف أمامهم بهذا القدر من الغموض والارتباك..ولكن مع كثير من التأمل والحب لشخصه ومسيرته، اكتشفت علامات مضيئة في طريقه تنبئ عن حسن النية، ليس هذا فقط، بل والفهم لسر نجاحه الذي جعله قد يبدو غامضا أحيانا..ولنعود إلى بداية القصة: 

كنت أرى أنه من أوضح المواقف التي أخطأ فيها - ربما من وجهة نظر قديمة- هي موقف العندليب من المطرب الذي أحبه بصدق، وكان شديد التعاطف معه، بل إنه لم يسيء إلى حليم مطلقاً في أي لقاء صحفي أو إذاعي أو تليفزيوني، وبشهادات الثقاة الذين صادفناهم والتسجيلات الإذاعية والصور النادرة تشير إلى هذا بوضوح ودقة، ولا حتى فيما وصلنا من كواليس بعض السهرات الخاصة، وهي باقية لدى بعضنا - فإن (الإنسان) فريد الأطرش كانت آراؤه شديدة الإيجابية والإخلاص تجاه عبد الحليم حافظ..

لم يبد فريد أية إشارات تضر بالعلاقة بينه وبين العندليب، بل كانت أحاديثه كلها، فيها من العلامات التي تدغدع المشاعر، وتكشف عن أننا أمام فنان لم تسكن نار الغيرة قلبه؛ فهو لم يحقد على شهرة ونجومية وحظوة عبد الحليم الذي يحظى بها باقتدار وعن موهبة بثقة السلطة التي تقدر فنه والمحبوب من الجماهير الحاشدة.

بادر فريد الأطرش بعرض رغبته في التعاون مع حليم، فهما يتقاسمان قمة الغناء والألحان تحت سماء أم كلثوم، التي كانت ولا تزال في مرتبة خاصة من النجومية تحلق في سمائها منفردة.. في السياق لم يكن فريد في مرتبة أقل من عبد الحليم، لا مطرباً ولا ملحناً، كانت له شعبية طاغية، خاصة في بلاد الشام والعراق، ولم يكن مستجديا لبضعة ألحان يهديها لمنافسه التقليدي العنيد عبد الحليم حافظ، ولكنه كان يرغب في أن تصل ألحانه إلى القطاع العريض من جمهور العندليب، ومن هنا فإنه لم يجد غضاضة في أن يعرض عليه التعاون متمثلا في ألحانه عبر الحنجرة الذهبية  لفتى الغناء الأشهر والأحب.

حدث هذا في مرحلة مبكرة من عمر عبد الحليم الفني؛ حيث أن فريد سبق العندليب إلى النجومية وكان هو فارس السينما الاستعراضية المغوار الأغلى أجرا بين نجوم السينما الغنائية مع عبد الوهاب وأم كلثوم قبل أن يحل العندليب كمنافس قوي في سوق السينما الغنائية.

حدث أن التقى البلبلان الصداحان، وبعد عبارات المديح المتبادل، تقدم فريد بطلبه أن يغني العندليب الأسمر من ألحانه، وكعادة عبد الحليم المجامل اتفق الطرفان على هذا الصداق الفني بينهما، اتفاق عظيم احتفت به الصحافة الفنية عظيم الاحتفال، وأثنى أصدقاء الطرفين أي ثناء على لقاء سحاب بين القطبين كان سابقا لتعاون الكوكب أم كلثوم مع موسيقار الأمراء والملوك محمد عبد الوهاب ...

انتظرت ميديا ذلك الزمان بشغف ثمرة هذا الاتفاق!

هل انتظر فريد كثيراً ...

أبداً..

6 سنوات كاملة.. لم يبد خلالها عبد الحليم أية خطوات إيجابية جادة تجاه إتمام المشروع، على الرغم من الترحاب الإعلامي والأعناق والقبلات المتبادلة عند كل لقاء وفي كل مناسبة!

التقيا كثيراً بالأحضان دون أن يرشح حليم أشعارا مكتوبة كي يلحنها فريد .. إلى أن جاءت مناسبة تهيئ لتنحية الخلاف، كانت قرب حلول حفل شم النسيم الذي كان نجمه فريد، واقترح بعض الأصدقاء ومنهم الإذاعي المتميز جلال معوض، أن يحييه عبد الحليم بلحنين لفريد، ولكن حليم قال أن برنامج الحفل مزدحم، وأنه يفضل الغناء في حقل له وحده، وفشلت المحاولة، مرة أخرى اشتد المرض على عبد الحليم، وبادر فريد بزيارته، مع مجموعة كبيرة من الفنانين، وتحدث فريد عن حلمه في أن يغني حليم من ألحانه، ورد عبد الحليم بكلمات مهذبة ودودة للغاية تنقصها الأحضان، وكان قد مضت ست سنوات على اتفاقهما دون أية خطوة جادة للتنفيذ..

هنا اقترح بعض أصدقاء فريد أن يعطي اللحنين لمطربين صاعدين هما: محمد رشدي ومحرم فؤاد، وكان رشدي هو الأقرب، حيث أنه كان في ذلك الوقت "مكسر الدنيا" بتعبير أهل الفن مع شعبيات العبقري بليغ حمدي ..

هنا قال فريد الأطرش: "لقد وضعت اللحنين على مقاس عبد الحليم ولا أحد غيره سيغنيهما".. ولكنه لم يغنهما!! على الرغم من عدم تنفيذ الاتفاق كان القطبان يلتقيان بالأحضان!!

نتصور أن هذا التعاون لو تم بين الأميرين؛ في تصورنا أنه كان سيترك علامة مضيئة في سماء الأغنية العربية بشجن اللحن وإحساس الحنجرة، ولكن حليم كان يدير فنه بشكل مختلف.. نقول أن العندليب كان يدير حياته الفنية بإحساسه وأنه يعرف جمهوره حق المعرفة و كان يخشى أن تأتي ألحان فريد في غلاف من شخصيته الحزينة، فالشجن عند حليم مختلف ونابع من إحساسه، ومن معرفته لذوق جمهوره وهو الذي لم يعرف مستشارين يديرون له فنه، ومنعه خجله ورقته أن يقول هذا لفريد قولا صريحا.. فكان هذا اللغز الذي لامه عليه حتى المقربين.
------------------------------------
حواديت يكتبها: طاهـر البهـي

 






اعلان