27 - 09 - 2024

كتاب يرصد سيرة الطبيب المصري الخاص للملك فيصل وعائلته

كتاب يرصد سيرة الطبيب المصري الخاص للملك فيصل وعائلته

ولد في المنصورة وحصل على الجنسية السعودية وترتبط أسرته بصلات قوية مع أم كلثوم وعبدالوهاب
- والدته آنا شهدية إحدى وصيفات الخديوي توطدت علاقتها بالملكة عفت وساهم ذلك في دعم وجوده كطبيب للقصر الملكي
- موسيقار الأجيال سمى شقيقه محمدا واعترض على زواج شقيقته «قدرية» لصغر سنها
- سيف الدين السمنودي عن الملك فيصل: "يتسم بالصبر والعدل والحكمة والفروسية والهدوء، والقراءة، وكثرة التفكير وحمل هموم الأمة، واستشارة أهل الاختصاص، والتدين الحقيقي والتواضع والعفو عن الناس، واحترام المواعيد"

يقدم كتاب "الطبيب الإنسان: الدكتور سيف الدين السمنودي طبيب الملك فيصل وعائلته" الصادر عن (دار سطور_ جدة) توثيقًا مهمًا للحياة الطبية في المملكة العربية السعودية والتطورات التي لحقت بها منذ الخمسينيات وحتى الألفية الجديدة، كما أنه يكشف عن جانب مهم عن النظام الطبي المتبع في الأسرة الحاكمة بالمملكة العربية السعودية، وذلك من خلال تتبع سيرة الطبيب المصري الخاص للملك فيصل ولعائلته لمدة أربعة عقود الدكتور سيف الدين السمنودي ابن المنصورة. 

سيرة صوتية

يوضح خالد ربيع السيد محرر الكتاب أنه تمت كتابة سيرة الدكتور الراحل سيف الدين عبدالحميد حسن السمنّودي المولد في مدينة المنصورة عام 1924 والمتوفى عام 2017م من واقع تسجيلات صوتية وثق فيها مذكراته، والتي كان قد سجلها في عام 2007م، وهي منقولة كما رواها، فيما عدا بعض التعديلات اللغوية والمتعلقة بالصياغة إلى الفصحى، دون المساس بالمعنى بأي حال من الأحوال، وتم نقل شهادات بعض الشخصيات القريبة من أقاربه وأصدقائه وزملائه في العمل والأمراء الذين ربطتهم به صلة قوية بحكم عمله الذي استمر لأكثر من 40 سنة في الإشراف على الحالة الصحية في القصر الملكي أيام الملك فيصل رحمه الله، فقد كان رفيقه طيلة مدة حكمه، وطبيبه ومراقب حالته الصحية، المهتم بوزنه وطعامه ومعايير دوائه، طبيب عائلته وحاشيته وخدمه، المؤتمن على صحته وحياته، وبعد رحيله استكمل مسيرته الطبية مع عائلته خاصة الملكة «عفت» رحمها الله التي كان يناديها بـ«العمة».

وصيفة الخديوي 

يقع الكتاب في 235 صفحة ويحتوي على مقدمة ومدخل وستة فصول حمل الباب الأول اسم "رحلة الحياة: شبابي ونشأتي" ويسرد فيه السمنودي تفاصيل نشأته في مدينة المنصورة لأب تاجر يدعى عبدالحميد السمنودي الذي تعود أصوله إلى تركيا حيث جاء أجداده مع الوالي محمد علي إلى مصر، وتزوج أبوه في عام 1919م من إحدى وصيفات قصر الخديوي عباس حلمي الثاني آنا شهدية التي لم تكن تعرف العربية.

ويكشف السمنودي عن طبيعة وظيفة الوصيفة في هذا العصر وكيف كان يقع الاختيار عليها، فهو منصب شرفي لا تتقاضى عليه راتبًا ولا يتم اعتماد الوصيفة إلا بعد تدقيق وتمحيص، فالوصيفة ينبغي أن تكون سيدة محترمة، رفيعة الخلق والأدب والعلم، كما تكون حسنة المظهر والسلوك وتجيد التصرف في المراسم الملكية والبروتوكولات التي يضعها القصر. ونتيجة للأصول التركية لوالدة السمنودي ومولد الأميرة عفت في تركيا وقدومها إلى المملكة العربية السعودية في شبابها ولم تكن تجيد العربية وقتها، توطدت العلاقة بين الملكة وبين آنا شهدية لما رأتها، كانت ترحب بها وتستضيفها في القصر وتتحدثان باللغة التركية لغة البلاد التي ولدا فيها، كما كان ذلك سببًا من الأسباب التي دعمت وجود الدكتور سيف الدين السمنودي كطبيب في القصر الملكي. 

أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب

ويبين السمنودي علاقة عائلته الجيدة بأساطين الفن في مصر في القرن العشرين مثل أم كلثوم التي كانت تأتي لزيارتهم في البيت لتسلم على والده ووالدته في المنصورة، وكذلك الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي كان يزورهم ويحيي حفلات الأفراح الخاصة بالعائلة، حتى أنه في يوم زواج شقيقته «قدرية» اعترض موسيقار الأجيال على زواجها لأنها لا زالت صغيرة، حسبما قال. واعتذر عن إحياء فرحها لارتباطه بفيلم «يحيا الحب»، وحين ولد شقيق السمنودي الأصغر محمد، سأله والدي: ماذا نسميه؟ فقال: "سموه محمد على اسمي"، وتم ذلك. فكان محمد عبد الوهاب الفنان المفضل لدى السمنودي.

بداية صعبة

في الباب الثاني " إلى مهبط الوحي وقبلة المسلمين" يرصد الدكتور سيف بداية عمله في المملكة العربية السعودية كطبيب عام 1952م والصعوبات القاسية التي واجهها بسبب عمله طبيبًا متنقلًا في بوادي المملكة الشاسعة، حيث عمل في بوادي القصيم التي يصف العمل فيها في ذلك الوقت بالقول: "واجهت في بادية القصيم الحياة القاسية إلى أبعد حدود القسوة، لم أتعرض في حياتي لمثل هذه الظروف، كان أقصى ما أفكر فيه هو أن أحافظ على أهم احتياجاتي، أي الطعام والماء والنوم. بمعنى آخر البقاء حيًّا، كنت وزملائي نخشى من البعوض والزواحف والهواء اللافح". ثم انتقل بعدها للعمل في جدة: كان الوضع الإنساني فيها لا يختلف كثيرًا عما في بادية القصيم، سوى أن المياه صارت أنظف، ولكن الصعوبة تكمن في العيش مع مرضى السل، والاحتكاك والتلامس اليومي مع المصابين به".

ويكشف ذلك الباب مأساوية الوضع الصحي في المملكة العربية السعودية في هذه الفترة ووجود مستشفيات بدائية وانتشار الأمراض والأوبئة، مما يبرز قيمة التطور في القطاع الصحي الذي أصبحت فيه المملكة الآن، بجهود متوالية لملوك السعودية بداية من الملك عبدالعزيز رحمه الله، كما يرصد السمنودي من واقع حياته ومعيشته في المملكة قائلًا: "المملكة بلد واسع الأرجاء وملك شاسع، يفتقد آنذاك إلى كثير من عناصر نمو الحياة، وحين أتامل كيف تغيرت هذه البلاد فالأمر يبدو أشبه بالمعجزة".

القصر الملكي

في الباب الثالث "في رحاب القصر الملكي" يكشف السمنودي عن حياته منذ 1956 للعمل كطبيب في القصر الملكي وقربه من الملك فيصل وأسرته، فيحكي عن لقائه الأول مع ولي العهد وقتها الأمير فيصل صحبة الدكتور رشاد فرعون وزير الصحة السعودي، فكان كلما التفت الأمير لشيء ما يلكزه وزير الصحة في صدره ويهمس له بصوت مكتوم ويطلب منه أن يقول «طال عمرك، قل: طال عمرك». فقد كانت هذه العبارة جديدة على السمنودي، ولم يعتد عليها في مصر، أو في القصيم وجدة، فواصل حديثه مع الأمير دون أن يقولها لأنه لا يفهم المغزى منها، ولأنه لم يكن يجيد طريقة مخاطبة الملوك والأمراء في ذلك الوقت ويضيف السمنودي: "لكن بعد ذلك الموقف أصبحت عبارة "طال عمرك" التي تحمل معنى الدعاء بطول العمر وفي نفس الوقت تعبر عن التقدير والتوقير لمن تقال له، طبيعية على لساني، وتعودت عليها، بفضل الدكتور رشاد فرعون".

اللقاء الأول

ومن ضمن الحوار الذي دار بين الملك والطبيب في أول لقاء، أنه سأله عن والده ووالدته بحضرة الملكة عفت آل سعود زوجته، فأجابه أن والده يعمل تاجرًا وأن أمه تركية الأصل، فشعر باستحسان الملكة عفت لذلك، وشعر بأنه نال ثقة إضافية في هذا اللقاء، وتسلل إلى نفسه شعور بأن الملك وثق به بسبب تلقائيته وعدم تكلفه، ومنح إثر قبوله للعمل كطبيب خاص لولي العهد الجنسية السعودية دون أن يفقد جنسيته المصرية.

تشخيصات خاطئة

ويكشف السمنودي عن الحالة الصحية للملك الفيصل حيث تعرض لمجموعة من التشخيصات الطبية الخاطئة التي أدت إلى إجراء عدة عمليات لم يكن بحاجة إليها أثرت على صحته بشكل كبير، حيث كان يعاني من ورم حميد سبب له الكثير من المتاعب في معدته وكان يشخص على أنه قرحة معدة، إلا اكتشف بالصدفة أثناء إجراء إحدى العمليات هذا الورم، الذي كان يضغط على الضفيرة العصبية الشمسية فيحدث الآلام التي كان يتكبدها. اكتشفوا ذلك بعد عمليات كلفته في صحته ثمنًا غاليا. ولو أنهم وفقوا إلى اكتشاف هذا الورم من قبل وأزالوه، لما احتاج إلى عملية التفاغم (آنستومرز) ولا إلى غيرها.

 بقي الأمير أكثر من سنتين، بعد العملية، يشعر بهبوط في القوى وضيق في التنفس بعد تناول الطعام بساعة، فالعملية بين المعدة والأمعاء، تجعل الطعام يهبط رأسًا إلى الأمعاء، مما يسبب هبوطا مفاجئا، يرافقه شيء من التعرق، وضيق التنفس. لأنه لا يوجد مكان ينتظر فيه الطعام، وعندما ينهي طعامه تراه يريد أن ينام فيذهب في غيبوبة ـ كانت مرحلة الغيبوبة تأتيه بعد الأكل وكانت مدتها في البداية حوالي ثلاثة أرباع الساعة، ثم نقصت إلى نصف ساعة، ثم إلى ربع ساعة، ثم إلى خمس دقائق، وبعدها يصحو، ثم بدأت تزول قليلا قليلًاـ إلى أن بدأت المعدة تصنع معدة ثانية، أي تتمدد شيئا فشيئا فصنعت جيبا، فصار الأكل يبقى فيه برهة من الوقت.

تحمل الأمير كل ذلك بصبر عجيب. ونتيجة للعمليات التي أجريت له خطأ، كان يلتزم في

طعامه نظام حمية استمر أكثر من ثمان وعشرين سنة. حيث يبدأ بلحم مشوي أو دجاج، ثم أرز مع خضار مسلوقة، ثم حبة موز أو تفاحة، وربما تناول بعض المهلبية.

الولع بالصيد

ويسرد الطبيب جانبًا من رحلاته مع الملك فيصل وولعه بالصيد "المقناص" في البراري الشاسعة، يصطاد الحباري والأرانب، والغزلان، ومحبته لعبة العرضة تلك اللعبة الشعبية التي أعطاها حياة جديدة وجعل الشعب يعتز بها كما يعتز بعاداته وتقاليده. 

وبسبب مقربة السمنودي من الملك بحكم وظيفته ينقل مجموعة من صفات الملك التي رآها بنفسه مثل عدم التسرع، والصبر والعدل والحكمة والفروسية والهدوء، والقراءة، وكثرة التفكير وحمل هموم الأمة، واستشارة أهل الاختصاص، والتدين الحقيقي والتواضع والعفو عن الناس، واحترام المواعيد.

ثم ينتقل السمنودي إلى الحكي عن عالمه مع الملكة عفت ابنة الأمير محمد الثنيان آل سعود، التي طالبته بالاستمرار في عمله، ويكشف عن دورها التنويري والرائد وحرصها على نشر التعليم، ففور وصولها إلى المملكة قالت: «دهشت عندما تعرفت عن كثب على الشعب السعودي، فلم أر شابا أو شابة متعلمة. كان سؤالي أين المدارس؟ أين التعليم؟» منذ تلك اللحظة قررت أن تكون امرأة فاعلة في بلدها الأم، فاتخذت مواقف تصب في خدمة مجتمعها وبنات جنسها، وعملت على حل مشاكلهن في مجلس مفتوح، يرحب بالزائرات في كل أسبوع، لتستمع إلى مطالبهن وتقدم العون للمحتاجات منهن، ومن ثم نقل همومهن ومشاكلهن إلى زوجها الأمير ثم الملك فيما بعد. فقامت بفتح مدرسة للبنات داخل قصرها، وكانت تشرف على كل مدرسة تفتح للبنات داخل البلاد.

ترحيب الأسرة المالكة بوالدته

ويصف السمنودي كيف عوملت والدته من قبل الأسرة الحاكمة في السعودية عند زياتها لها، ففي أثناء فترة وجوده في قصر الملك حضرت والدته إلى المملكة لتحج، وتم ذلك مرتين، وقد سعدت الملكة عفت بوجود والدته التركية حيث مثل وجودها فرصة لتتحدث بالتركية بعد زمن طويل، فارتاحت لها، وكذلك الأميرة نورة بنت عبدالعزيز شقيقة الملك، استضافتها عندها في بيتها فترة من الزمن. قالت له: "أبقها عندي بالبيت وسيكون لها غرفتها الخاصة، وعندما تود أن تراها تفضل عندنا أهلا وسهلا بك". حيث كان وقتها طبيب العائلة ومنهم الأميرة نورة، والأميرة مشاعل، وعائلتهما، فقد اهتموا بوالدة السمنودي آنا شهدية وأكرموها، وحججت برفقتهم.

الطبيب الإنسان

ويروي في الفصل الرابع "الأب كما خبره أبناؤه" أبناء الدكتور سيف الدين السمنودي "عبير وغادة إيهاب وفيصل" ذكرياتهم مع  والدهم داخل البيت، وعن خصاله الطيبة ومساعدته للناس حتى بعد إصابته بالزهايمر، ثم رحيله في عمر التسعين، ونقل الفصل الخامس مجموعة من شهادات الأصدقاء والأقرباء والذين تعاملوا معه وعرفوه عن قرب، وجاء الفصل الأخيرة فيما يشبه الخاتمة بعنوان "الطبيب الإنسان" لأنه عندما أنشأ عيادته في بدايات مشواره العملي، في المنصورة بعد تخرجه لم يكن يهتم بالعائد المادي الذي يدفعه المريض، رغم أنه كان في مرحلة تأسيس وفي أشد الحاجة للمال، وإذا استشعر بأن أحد المرضى بحاجة إلى المال فإنه كان يعطيه ما يعينه ولا يأخذ منه. فمعظم ما يتقاضاه من عمله كان يمنحه للمرضى، وأثر ذلك على دخله، وأصبحت العيادة لا تحقق له الدخل الذي يمنحه الاستمرارية. لذا حين جاءته الفرصة للسفر إلى السعودية في بداية الخمسينيات سافر لأنه وجد فرصة العمل دون أن يأخذ مالاً من مرضاه، فوزارة الصحة تمنحه راتبه وتجعله متفرغا للقيام بواجباته. 
-------------------------------
قراءة: د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية