26 - 06 - 2024

عمار علي حسن: طوفان الأقصى كشفت أكذوبة الدولة الحامية لشعبها بعد قهر جيشها وظهور تهالكه

عمار علي حسن: طوفان الأقصى كشفت أكذوبة الدولة الحامية لشعبها بعد قهر جيشها وظهور تهالكه

اعتبار القضية الفلسطينية صراعا دينيا يخدم أهداف الاحتلال
- لو رفع الفلسطينيون مطلب "الدولة الواحدة" سيضعون إسرائيل في مأزق شديد أمام العالم 
- حل الدولة الواحدة يبدد الدعاية الإسرائيلية التي تسوقها للعالم بأن المقاومة تريد إبادة اليهود
- الأموال التي أُنفقت والجهود التي بُذلَت وسط المثقفين لدفعهم للتخلي عن القضية الفلسطينية فشلت 
- هناك قطاع من اليهود يعتبر قيام إسرائيل خطيئة دينية وسياسية من الأساس
- من الضروري فتح نوافذ التعامل مع فلسطينيي 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية وعدم اعتبار ذلك تطبيعًا
- تحول الرأي العام العالمي ضد إسرائيل خسارة كبيرة لها ولم تعهده بهذا الزخم منذ إنشائها عام 1948.
- إسرائيل تساوقت مع فكرة "حل الدولتين" دون اقتناع لتكسب به وقتًا وتعاطفًا غربيًا، وتستعمله ستارًا يخفي نواياها الحقيقية

انقلب العالم رأسًا على عقب بعد عملية طوفان الأقصى، وعادت قضية فلسطين إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن ظن الكيان الإسرائيلي أنه قضى عليها تمامًا وأخذ يفاخر بتطبيعه مع بعض البلدان العربية دون أن يضع أي اعتبار لفلسطين، حتى انقلب السحر على الساحر بما فعلته المقاومة في السابع من أكتوبر 2023م، لتثبت للعالم بأسره وهمه إذا ظن أن هناك سلام سوف يتحقق مالم تحل قضية فلسطين العالقة منذ أكثر من 75 عامًا، هذا الحوار مع الباحث السياسي والأديب الكبير عمار علي حسن يفتح أفقا للتفكير في أصداء الطوفان وأهم الخسائر الإستراتيجية التي مُني بها الكيان، وكيف استطاعت المقاومة زعزعة السردية الإسرائيلية في الغرب، ويعرض توقعاته لمآلات هذه الحرب المستمرة منذ أكثر من 7 أشهر. ولماذا يفضل حل الدولة الواحدة في فلسطين المحتلة؟ وتعرية الموقف الغربي المتناقض في علاقته مع إسرائيل وفيما يلي نص هذا الحوار:

* بوصفك مثقفًا كبيرا كيف تقيم موقف المثقفين العرب حيال ما يجري في فلسطين؟

- موقف أغلب المثقفين العرب مشرف لاسيما من أصدروا بيانًا ساندوا فيه المقاومة الفلسطينية، واعتبروا طوفان الأقصى نتاج ظلم وقهر طويلين، ودعوا مثقفي العالم إلى أن يتصدوا للعدوان الإسرائيلي، ويدافعوا عن الحقوق الفلسطينية المهضومة.

وأهمية هذا الموقف أنه جاء في وقت كان هناك من يظن أن الأموال التي أنفقت، والجهود التي بذلت، وسط المثقفين لجعلهم يتخلون عن القضية الفلسطينية قد نجحت في إزاحتها كي لا تكون قضية العرب المركزية.

* يهمش الكثيرون البعد الثقافي في فهم طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، فكيف ترى ذلك؟

- هذا التهميش هو خطأ شديد، فالثقافة كانت العامل المنسي دومًا الذي لا يحضر إلا إذا عجز الباحثون عن تفسير ظاهرة سياسية أو اقتصادية ما، فيرجعونها إلى أسباب ثقافية ترتبط بمعارف الناس والقيم التي تضبط سلوكهم، لكنها صارت عاملًا أساسيًا في التفسير خلال العقود الأخيرة.

إهمال البعد الثقافي في فهم طبيعة القضية الفلسطينية، أو التفكير في مساراتها ومآلاتها، خطأ شديد، لأن إسرائيل قامت أساسًا على ذرائع ثقافية مرتبطة بتأويلات نفعية للنص التوراتي عن أرض الميعاد، وفي المقابل يتكئ قطاع من الفلسطينيين على تصورات مناهضة، أو تسهم في تعبئهم خلال الكفاح ضد الاحتلال".

فإسرائيل تحاول أن تضفي على القضية الفلسطينية طابعًا يجعل منها "صراع هويات دينية" وهذا أمر يجب الحذر من الانسياق ورائه، بل الرد عليه بإظهار الجانب الإنساني للقضية باعتبارها كفاحا من أجل تحقيق المصير، ونضالا ضد احتلال استيطاني. 

* لماذا يجب الحذر من جعل القضية الفلسطينية صراعا دينيا؟

- لعلك ترى معي أن الحرب الدائرة على غزة الآن أظهرت بوضوح أن قطاعًا من اليهود يقفون ضد الاعتداءات الإسرائيلية، بل بينهم من يعتبر قيام إسرائيل خطيئة دينية وسياسية من الأساس، وإذا كان هناك مسيحيون إنجيليون يساندون إسرائيل لأسباب تتعلق بإيمانهم ببعض تأويلات العهد القديم فهناك مسيحيون من الإنجيلية المشيخية لا يؤمنون بهذا، وخرج ملايين الكاثوليك في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية في مظاهرات رافضة للاعتداء على الفلسطينيين.

ويجب أن يمد الفلسطينيون، ومعهم الشعوب العربية المؤيدة لهم، أيديهم إلى اليهود والمسيحيين وأتباع كافة المعتقدات وحتى اللادينيين والملحدين الذين يتعاطفون مع حقوق الشعب الفلسطيني لأسباب إنسانية. مع ضرورة فتح نوافذ التعامل مع فلسطينيي 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وعدم اعتبار ذلك تطبيعا.

* استطاعت المقاومة في طوفان الأقصى كسر الصورة النمطية التي رسمتها إسرائيل حول نفسها عسكريًّا بأنها دولة لا تقهر وأنها الجيش الأكثر أخلاقية في العالم؟

- أعاد "طوفان الأقصى" تشكيل صورة إسرائيل، فبات العالم يعي جيدًا أنها تمارس "الاحتلال التقليدي" الذي استمر قرونا في الحقب الاستعمارية، وكانت البشرية تظن أنها فارقت هذا الدرب.

فقد صورت إسرائيل نفسها لمحيطها العربي على أنها وحش كاسر، لا يمكن مواجهته، في الوقت الذي كانت ترسم لنفسها صورة مختلفة في الغرب، على أنها حمل وديع وسط "قطعان من الذئاب الجائعة"، معولة على الصورة النمطية للعربي في ذهن الغرب، والتي لا تعدو أن تكون إنشاء محرفا ومزيفا لإحن القرون الوسطى حسبما ذهب إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق".

ورغم أن بعض الباحثين والمفكرين العرب قد انتبهوا إلى لعبة المبالغة في القدرات لتركيع الخصوم، مثلما فعل عبد الوهاب المسيري، فإن الأغلبية من العرب ظلوا على حالهم القديمة، مستسلمين للدعايات الإسرائيلية في الغالب الأعم، بل كان من بينهم من يغذي هذا الشعور، سواء عن قصد، أو عن جهالة، أو لامبالاة، وأحيانا للتنصل من تبعات المواجهة.

* لماذا لم تنطل هذه البروباجندا الإسرائيلية التي ذكرت على الفلسطينيين؟ 

 - لم تنطل عليهم لأنهم وحدهم الفلسطينيون، ورغم الصدمة المروعة التي حدثت لهم أيام القتل والتهجير وبعده، راحوا يرون الأمر على حقيقته، دون مبالغة، وهي مسألة وفرها لهم الاقتراب الدائم والاحتكاك اليومي بالإسرائيليين، والذي أمدهم بعدة مزايا في وقت واحد هي: اعتياد التعامل مع الإيذاء ثم التحايل عليه أو مواجهته، واكتشاف نقاط الضعف في المجتمع الإسرائيلي، والمعرفة العميقة بشخصية اليهودي، باعتبار أن إسرائيل أعلنت نفسها دولة لليهود فقط.

فاكتسب الفلسطينيون مناعة بمرور الوقت، مثلما يحدث في الجوانب البيولوجية للكائنات الحية، وصاروا أكثر قدرة على الاعتماد على الذات في الدفاع عن أنفسهم، بعد أن ظلوا زمنا طويلًا يعتمدون على مساندة العرب عسكريًّا لقضيتهم.

* اعتمدت إسرائيل في دعايتها على أنها ملتزمة باستراتيجية حماية الفرد، فهل هذه العقيدة ظلت صامدة بعد طوفان الأقصى؟

- هذا سؤال مهم ويحتاج إلى شيء من التفصيل والتغيرات التي لحقت بهذه الاستراتيجية تعد من أهم مكاسب طوفان الأقصى على المدى الطويل، حيث تعهدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الدوام بتوفير الأمان للأفراد، وبات راسخًا لدى هؤلاء أن واحدة من الغايات الكبرى للدولة هي شعور الفرد بالاطمئنان أينما كان، في حله وترحاله، داخل البلاد أو خارجها، وفي الحرب والسلم، لاسيما مع إطلاق يد المواطن اليهودي في التعامل مع "الأغيار"، سواء كانوا الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة أو بين عرب 1948، أو حتى في المحيط الإقليمي العربي.

وعاش الجندي الإسرائيلي سواء كان على قوة الجيش أم في الاحتياطي، زمنا طويلًا يؤمن بأن الدولة لن تتركه، إن وقع في الأسر، حتى لو خاضت حربًا كاملة، مثلما حدث في يوليو 2006 ضد حزب الله، أو دخلت مفاوضات شاقة في سبيل استعادته، مثلما حدث مع الجندي شاليط الذي أسرته حركة حماس. وحتى لو قتل الإسرائيلي ودفن بعيدا فإن رفاته يظل مؤرقا للحكومة حتى تستعيده ليدفن في إسرائيل. وهو حال قتله في ميدان معركة تتكفل الدولة بصرف معاش مناسب لأهله، يضمن لهم عيشًا ماديَّا لائقًا.

* لماذا ألزمت إسرائيل نفسها بهذاالسلوك؟

- بالتأكيد لذلك السلوك أسباب تفسره، أولها: ضيق المخزن البشري: فإسرائيل أعلنت نفسها دولة لليهود، وهؤلاء قلة في العالم كله. وثانيها: صناعة الدولة الجاذبة: حيث تسوق إسرائيل نفسها بين اليهود باعتبارها الدولة التي تحمي الذي يختارها منهم وطنا له. وثالث الأسباب: صناعة الحكومة النافذة: فكل حكومة إسرائيلية حريصة على تعزيز شرعيتها وشعبيتها، وهذا يجعلها تعمل على إنجاز أشياء مادية ليهود إسرائيل خصوصًا، تقع في قلبها مسألة حماية الفرد. والسبب الرابع: الحفاظ على التماسك الاجتماعي: فمن المشتركات التي يؤمن بها المواطنون اليهود في إسرائيل أن الدولة، بجيشها وشرطتها وأمنها، لا تتوانى في حماية كل فرد.

* وما الذي تغير بعد الطوفان؟

- تغير الكثير، كانت هذه العقيدة سارية في رسوخ يوم انطلاق "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، ليس لدى الإسرائيليين فحسب، بل إن المقاومة الفلسطينية نفسها كانت تدرك هذا جيدًا، وتبني جزءا من تكتيكها القتالي عليه، وإلا ما أقدمت على التخطيط لخطف مجموعة من الأسرى، ومساومة تل أبيب على استعادتهم في مقابل تصفير سجونها من آلاف الأسرى الفلسطينيين.

فمنذ الوهلة الأولى ظهرت الحكومة الإسرائيلية الحالية مستعدة للتخلي عن هذه العقيدة، ولو مرحليًّا، في سبيل تضميد الجرج الغائر الذي أصابها جراء عملية عسكرية كشفت أكذوبة الدولة الحامية، بعد قهر الجيش وإظهار تهالكه، وكشف جهاز الاستخبارات وإثبات فشله، وتعرية الأمن الداخلي وتبيان ضعفه. 

منذ البداية جرى نقاش حاد في إسرائيل عن تطبيق "بروتوكول هانيبال"، الذي يعني إمكانية التضحية حتى بالأسرى في سبيل عدم لي ذراع الدولة بإجبارها على الدخول في تفاوض بشأنهم، والذهاب إلى هجوم عسكري واسع لاستعادتهم عنوة دون قيد ولا شرط. 

وظهر في مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية من يتحدثون عن ضرورة توجيه ضربة قاصمة للمقاومة الفلسطينية حتى لو أدى ذلك إلى قتل الأسرى جميعا. وهذا التوجه إن كان قد قوبل باعتراض أهالي الأسرى، أو أهالي بعض الجنود الذين تم حشدهم إلى معركة غزة، فإن أصوات هؤلاء ضاعت في ضجيج الراغبين في الإفراط في العنف ضد المقاومة، دون أدنى اعتبار لشيء أو أحد، من منطلق إيمان الداعين إلى حرب ضروس بأن ما حدث في 7 أكتوبر يهدد وجود إسرائيل نفسها، بما لم يحدث لها من قبل. 

* كيف سيؤثر التخلي عن هذه الاستراتيجية على الكيان مستقبلًا؟

- التخلي عن هذا المسار هو من الخسائر بعيدة المدى لإسرائيل، إذ سيساهم في هجرة بعض اليهود منها، ويؤدي إلى إحجام قدوم بعض اليهود إليها، بعد أن اهتزت ثقة المواطنين في التزام الدولة بالقاعدة التي رسخت على مدار العقود الماضية، وكانت واحدة من الأسباب التي تثبتهم في الأرض التي استحوذوا عليها، وتعزز انتماءهم للدولة، وتحفزهم على الدفاع عنها، والدعاية لها.

* كيف تفسر صمود الشعب الفلسطيني رغم حرب الإبادة التي يمارسها الكيان بحقهم، فهل المعتقد الديني هو السبب في ذلك؟

- ليس المعتقد الديني وحده الذي يقف وراء صمود الفلسطينيين الأسطوري، إنما هناك علل أخرى، لا يقف عليها ويفهم آثارها، إلا من قرأ بإمعان يوميات العذاب التي يحياها الفلسطينيون تحت الاحتلال منذ النكبة وحتى انطلاق "طوفان الأقصى". فكثيرون منهم مروا بتجارب قاسية، بدءًا من هؤلاء الذين عاشوا تجربة التهجير الأولى في عام النكبة وحتى أطفال صغار ينصتون ليل نهار إلى حكايات الجدات والأجداد عن صقيع الشتات وحيرته ووجع الشوق الجارف إلى الوطن.

الفلسطينيون يدركون أن أي انكسار أو تهاون أو فزع يدفعهم إلى هروب أو استسلام ستكون له عواقب وخيمة عليهم، أكثر إيلامًا حتى من القصف المتواصل على رؤوسهم، رغم غزارته وضراوته، واستهدافه البشر والحجر، والأخضر واليابس. فالصبر على النار والدم المؤقت، حتى لو طال أمد الحرب أكثر من توقعاتهم، أهون من الصبر على الاغتراب حين يفقدون أرضهم، ويضيعون في بلاد الناس على غرار ما جرى لهم سابقا.

ومن أسباب صمود المدنيين الفلسطينيين أيضا أنهم يتابعون جيدًا كيف قادت تضحياتهم الكبرى إلى إعادة قضيتهم عفية على الساحة الدولية، بعد أن كانت إسرائيل قد نجحت في أن تهيل عليها أكواما من التراب، وتخرجها من المعادلات السياسية في المنطقة، بالانتقال من قاعدة "الأرض مقابل السلام" إلى "السلام مقابل السلام". 

يزيد على كل هذا أنه في هذه المرة، أكثر من سابقاتها، أدرك المدنيون الفلسطينيون أن استهدافهم يرمي إلى كشف ظهر المقاومة وكسر إرادتها، بإظهارها وكأنها غير معنية بما يجري لحاضنتها الشعبية، أو يرمي إلى دفع هذه الحاضنة إلى الكفر بالمقاومين، وربما إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال التمرد عليهم، أو حتى خيانتهم. 

* كيف تنظر إلى تناقض الموقف الغربي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية؟

- هذا ديدن الغرب في كثير من القضايا، وعلى رأسها قضية فلسطين. لا ينكر الأوروبيون الرافضون لحق مقاومة الاحتلال للقانون الدولي، ولا للتاريخ الأوروبي نفسه، بل إنهم يقعون في تناقض ظاهر، لا أعرف كيف لا يخجلون منه، حين يصير كل من يعمل لهم مناضلا، ومن يعمل ضدهم إرهابيًّا، حتى لو كان عمله مشروعًا، يوالي فيه مصلحة بلاده.

فقد رأى أبناء جيلي، على الأقل، كيف كان الأوروبيون ينظرون إلى أي حاملي سلاح يدورون في فلكه، ويعملون لأجله، على أنهم مقاومون ومناضلون وطلاب حرية، مثلما تعاملوا مع مقاتلي الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وهم أنفسهم الذين صاروا "إرهابيين" مع طالبان حين وقف ضد الغرب. 

وهي مسألة تعلو من التنظيمات إلى الدول، فقد رأينا الغرب يمدح جوزيف ستالين، ويصفه بـ "العم جو" حين كان في حاجة إلى أن يشاركه الاتحاد السوفيتي التصدي لأدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، لكن حين وضعت الحرب أوزارها، وظهرت موسكو منافسًا للولايات المتحدة، سرعان ما عاد ستالين ليكون الدكتاتور الدموي المتوحش.

استغل الغرب تنظيمات إرهابية مؤخرًا على رأسها داعش، في تحقيق مصالحه، وزود التنظيم بالمال والخطط والسلاح، فيما وجدنا بعض الباحثين الأوروبيين مثل فرانسوا بورجا وجيل كيبيل يصرون على وصف الإرهابيين حقا بأنهم "مناضلون" ضد الظلم والقهر والإكراه، دون الالتفات إلى مضمون رسالتهم المغلقة المفعمة بكراهية الآخر، واستحلال عرضه وماله ودمه، ولا الوقوف عند ما كانوا يرتكبونه من جرائم القتل والتخريب. وكان مبرر هؤلاء أن التنظيمات الإسلامية المسلحة تعيش في ظل أنظمة حكم قمعية فاسدة. 

* نعود إلى طوفان الأقصى، فمن وجهة نظرك السياسية ما أكبر خسائر إسرائيل بعد هذه العملية؟

- إذا عدنا إلى بداية الحرب في الهجوم المباغت للمقاومة الفلسطينية خسرت إسرائيل أربعة أشياء دفعة واحدة، في المقدمة منها الفشل الاستخباراتي: إذ أن عملاء إسرائيل في غزة، لم يصل إليهم نبأ ما تعده المقاومة، على مدار سنة كاملة، وربما أكثر. وفي هذا انكشاف جارح لجهاز "الموساد" الذي يسوق عن نفسه قدرة فائقة في جمع المعلومات وتحليلها، وتمكين الجيش الإسرائيلي من الاستباق. 

الأمر الثاني: الحدود المستباحة: فالجدار العازل الذي بُني حول قطاع غزة، وبلغت كلفته مليار دولار، لم يمنع المقاومين من خرقه، بعد ضربه في نقاط محددة، مكنت المقاومين من العبور السهل إلى مستوطنات غلاف غزة، والسيطرة عليها في ساعات محدودة. ورغم أن هذه الأسوار المحيطة بغزة مزودة بأحدث أنواع الرقابة، وفي مطلعها الكاميرات فائقة القدرة، فإنها لم تغن عن إسرائيل شيئا، بعد أن تمكن المقاومون من تعطيلها إلكترونيًا، قبل بدء الهجوم.

الخسارة الثالثة فقدان التحكم والسيطرة: فبعد عبور المقاومين للحدود تمكنوا من التمدد غربا وشمالًا، إلى درجة الاستيلاء على مساحة مضاعفة للقطاع، دون أُن يجدوا ما يصدهم ويردهم في البداية. 

ورابع هذه الخسائر من وجهة نظري هي بطء رد الفعل وإخفاقه: فبعد أن وصل نبأ الهجوم إلى القيادة السياسية الإسرائيلية، أعطت أوامرها على الفور للجيش أن يتقدم ليعوض انهيار فرقة غزة، لكن التحرك جاء بطيئًا، ولم ينج أيضًا من الارتباك والذعر الذي أصاب العسكريين الإسرائيليين، إثر تأكدهم من الهزيمة الخاطفة التي حلت بقواتهم في ساعات قليلة.

وهناك خسائر أخرى بالتأكيد تنكشف يومًا بعد يوم في عدة أصعدة سواء في جانب الاقتصادي، أو الاجتماعي والنسيج الداخلي في إسرائيل الآخذ في التناحر والتفكك، وصورتها في الخارج التي بدأت تظهر على حقيقتها الوحشية للشعوب الغربية ..إلخ.

* بعد سبعة أشهر من الإبادة الجماعية في غزة هل اعتاد العالم ما يجري هناك؟

- لا يمكن لإنسان أن يُبقي مشاعره ملتهبة طوال الوقت حيال ما يجري له أو حوله، ولا يقدر على أن يجعل الشغف يقظاً، والاهتمام قائمًا، والعناية والرعاية مستمرة، دون أن يصيبه إزاءها شيء من الملل أو الفتور، وليست الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة استثناء من هذه القاعدة، التي سبق أن رأيناها، عما قريب، في الحرب الأهلية التي تدور رحاها في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، والحرب الروسية - الأوكرانية، التي انجذب إليها العالم كله في أيامها الأولى، وتصدرت عناوين وكالات الأنباء والصحف والقنوات.

هذه القاعدة تنطبق على ما يجري في غزة، رغم أنه "إبادة جماعية" تتأكد مفردات جريمتها كل يوم. فلم تعد الحناجر تهتف ضد الحرب في الشوارع كما كانت في الأسابيع الأولى، ولم يعد انشغال الناس على وسائل التواصل الاجتماعي مثلما كان، وقفزت أخبار أخرى إلى كثير من الشاشات التلفزيونية لتشارك غزة الاهتمام والعرض على الجمهور، ولم يعد الناس يأتون كثيرًا على ذكرها في الثرثرة اليومية العادية في البيوت والمقاهي ومكاتب العمل.

وفضلًا عن العامل النفسي الأصيل الذي يمنع الإنسان من الانغماس التام في حدث ما، يتابعه ليل نهار ولا ينفك عنه، فهناك عوامل عدة تخص الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، هذه المرة أكثر من أي مرات سابقة، لاختلاف درجة الصراع من حيث الاتساع والعمق والمدى الزمني.

* هل هذا الفتور يصب في صالح إسرائيل أم المقاومة؟

- إسرائيل تفهم أن أي فتور يصيب الناس حيال الحرب يكون في صالحها، إذ أن أكثر ما أزعجها هو هذا الاهتمام الكبير، الذي أرسل إليها نقدًا وتقريعًا وتوبيخًا، حمله متظاهرون ضاقت بهم شوارع مدن أوروبية وأمريكية عدة، وهذه العيون التي ترقب ما يرتكبونه من أفعال بشعة، ولذا فإن الفتور أو الانصراف عن المتابعة أو اللامبالاة يفيد تل أبيب في ارتكاب ما تريد في الظلام.

أما المقاومة الفلسطينية فهي تريد أن يظل هذا الاهتمام قائمًا، فهو ظهير ونصير لها، يعطيها مددًا هي في أمس الحاجة إليه، وفي الوقت نفسه يضغط على أعصاب خصمها، الذي يدرك أن التحول في الرأي العام العالمي ليكون ضده هو خسارة كبيرة له، لم يعهدها، بهذا الزخم، منذ إنشاء إسرائيل عام 1948.

وأود أضيف هنا إذا استثنينا في كل هذا المتبلدين أو اللامبالين فإن بقاء الانشغال والانفعال بالعدوان على غزة قائمًا، هو مفيد في كل الأحوال للقضية الفلسطينية، لاسيما أن أحداثها ليست من قبيل المواجهات أو الحروب العابرة، إنما حلقات في سلسلة طويلة من نضال، لا يجب أن يدع لمن يقتنع به ويؤيده أي فرصة للانفكاك منه، والتخلي عنه، حتى لا يستيقظ ذات يوم على فاجعة. 

* ناديت في أحد أطروحاتك حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بضرورة أن يرفع الجناح السياسي شعار الدولة الواحدة. فما سبب ذلك؟

- في ظل التعاطف الواسع والعميق الذي ربحته القضية الفلسطينية بعد طول تجاهل وظلم، جراء الانحياز للرواية والموقف الإسرائيليين على مدار ثلاثة أرباع قرن. نعم أرى أنه من الضروري أن يطلب الجناح السياسي للمقاومة، بعد اتفاق مع جناحها العسكري، على المناداة بـ "الدولة الواحدة" التي تقوم على أرض فلسطين التاريخية كلها، وتضم الفلسطينيين والإسرائيليين، وأتباع الديانات الثلاثة في هذه البقعة الجغرافية الملتهبة من اليهود والمسلمين والمسيحيين.

لأن أحد صور زوال الاحتلال هو الانتقال إلى حل "الدولة الواحدة"، وهي مسألة ليس من قبيل المستحيلات، فهناك مليون فلسطيني يعيشون في إسرائيل ويحملون جنسيتها، وقبل إعلان إسرائيل كان هناك يهود يحملون الجنسية الفلسطينية، منهم جولدا مائير.

  ولو رفع الفلسطينيون الآن، بعد توافقهم، مطلب "الدولة الواحدة" سيضعون إسرائيل في مأزق شديد أمام العالم حال رفضه المتوقع، حيث ستظهر قوة غاشمة توصد الأبواب أمام أي حلول طبيعية، بات العالم في ألفة نسبية معها في ظل تجربة جنوب أفريقيا.

هذا الطرح سيبدد الدعاية الإسرائيلية التي تسوقها إلى العالم بأن المقاومة الفلسطينية تريد إنهاء الوجود اليهودي تمامًا، ولا ترضى بديلاً عما تسميه "تحرير فلسطين من البحر إلى النهر"، وقد يكون الطرح نفسه نقطة التقاء تجتمع حولها الفصائل الفلسطينية تنهي به انقسامها، وتضع عثرات في طريق الحلول الأخرى، التي تعرضها إسرائيل حاليًّا، وتطلق عليها "اليوم التالي بعد الحرب".

* وماذا عن حل الدولتين الذي يُنادى به منذ زمن؟

- ظهر للجميع أن إسرائيل ترفض حل الدولتين، ولم تظهر موافقة على هذا التصور الذي حمله اتفاق "أوسلو" 1993 إلا لكسب وقت، حتى تقضم على التوالي أرض الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم تخطط لتهجيرهم جميعًا، بشكل متدرج ومتتابع، دون أن ينجو من هذه الخطة الجهمنية فلسطينو 1948 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

لم تكن هذه الخطة خافية تمامًا، فكثير من قادة إسرائيل تلفظوا غير مرة بأن قبول "دولة فلسطينية"، حتى لو كانت منزوعة السلاح كما طرح البعض، معناه نهاية إسرائيل كدولة لليهود، كما سبق أن أعلنت، دون خجل من أن تكون هي الدولة الدينية الوحيدة في العالم المعاصر، بل تبدو مُصرة على هذا، ومعتزة به، وتجد من القوى الكبرى تواطئًا معها، وسكوتًا عليها، رغم الأدبيات التي تسيل في الشرق والغرب معتبرة أن "الدولة الدينية" هي نبت القرون الوسطى، التي لا تصلح للدنيا الحديثة والمعاصرة.

تساوقت إسرائيل مع فكرة "حل الدولتين" دون أن تكون مقتنعة بها، حتى تكسب بها وقتًا وتعاطفًا غربيًا، وتستعملها ستارًا يخفي نواياها الحقيقية، ولا سبيل لرفع هذا الستار إلا بطرح حقيقي يقبله العالم، الذي ينصت إلى صوت إسرائيل وهي تتهم المقاومة بأنها تسعى إلى استئصال وجود اليهود على أرض فلسطين التاريخية تمامًا.

يحتاج هذه الطرح إلى خطوة شجاعة تضعه محل نقاش فلسطيني داخلي أولاً، حتى يتم الاتفاق عليه وتحديد معالمه ورسم خطاه إلى النهاية، ثم يُعرض على العالم أجمع، وقد يكون هذا من النتائج المهمة الكلية للحرب الدائرة الآن.

* في الأخير: ماذا لو انتهت الحرب الإسرائيلية على غزة دون الانتصار المطلق على حماس كما يروج نتانياهو لجمهوره؟

- في ظني ستكون أبرز هذه الخسائر اهتزاز معادلة "الجيش الحامي": فإسرائيل جيش حوله مجتمع، والأخير يعتمد تماما على الأول في بقائه. وعلى مدار 75 عاما تعامل الإسرائيليون مع جيشهم على أنه لا يُقهر، وبذا فإن دولتهم آمنة ومستقرة. وهذه الفكرة التي تم تسويقها على نطاق واسع، طالما ساهمت في قدوم كثير من اليهود إلى إسرائيل. لم تعد هذه المعادلة على حالها، مهما كانت نتائج الحرب. فإسرائيل اعتادت الحرب خارج أرضها، وأبقت حدودها آمنة، فلا تكون للمعارك وطأة شديدة على الشعب، لكن عملية "طوفان الأقصى" كانت في مدن اسرائيل ومستوطناتها، ليس من خلال الصواريخ هذه المرة، إنما عبر الاقتحام والضرب في العمق، أو الحرب على أرض العدو.

وثاني هذا الخسائر هي جرحها الصورة الناصعة: فقد صنعت إسرائيل لنفسها صورة سوقتها عالميًّا على أنها واحة ديمقراطية وسط دول استبدادية، لتخفي وجهها الكريه في التعامل ضد الفلسطينيين، والذي يتراوح بين فصل عنصري وإبادة جماعية مستمرة، سواء بطرق ناعمة في أغلب الأوقات، وخشنة وقت المواجهة والحروب. 

أما ثالث هذه الخسائر فهو احتمال تراجع أنظمة عربية حاكمة عن اتخاذها إسرائيل ملاذ حماية أو شريكًا عسكريًّا، بعد أن ثبت لها أن الجيش الإسرائيلي ليس بالقوة التي كانوا يتصورونها، ومن ثم عليهم بعد الحرب أن يبحثوا عن وسائل أخرى لتحقيق قدر من التوازن الاستراتيجي أو التفاهم وحماية المصالح.
-----------------------
من المشهد الأسبوعية







اعلان