21 - 05 - 2024

مأوى الزمن

مأوى الزمن

ماذا لو أجرينا استطلاعا نختار فيه زمنا من ماضينا لنعيش فيه في المستقبل؟ أي زمن سنختار؟ وهل نتفق على زمن أم نحارب للفوز به؟

أثار فوز الروائي والشاعر والكاتب المسرحي البلغاري جورجي جوسودينوف بجائزة البوكر عام 2023عن روايته ملجأ الزمن ارتياحًا كبيرًا في الأوساط الأدبية العالمية، فالجائزة تعد انتصارًا للغات الصغيرة بعيدً عن طغيان اللاتينية، وتميزًا لكاتب يعدّ من أشهر الكتاب الأوروبيين خلال العقود القليلة الماضية. هو من مواليد  1968،  وترجمت أعماله إلى 25 لغة.

كتب أربعة دواوين شعرية قبل أن يتحول إلى كتابة النثر، وهو ما ترك تأثيراً واضحاً على أسلوبه في كتابة الرواية. حصل ديوانه الأول "نحات الحجر" المنشور عام 1992 على الجائزة الوطنية للعمل الأول. أصدر عمله الروائي الأول "رواية طبيعية» سنة 1999، ولقي نجاحاً في بلغاريا قبل أن تتم ترجمته إلى 21 لغة أخرى. فازت روايته الثانية «فيزياء الحزن» بالجائزة الوطنية لأفضل رواية لسنة 2013، وترجمت لعدة لغات وصدرت مترجمة إلى العربية عام 2016. كتب أول رواية بلغارية مصورة بعنوان "الذبابة الخالدة" ناقش فيها فكرة الخلود والصراع على السلطة، ترشح فيلم فايشا العمياء ومدته 8 دقائق لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم رسوم متحركة عام  2016 للمخرج البلغاري -الكندي ثيودور أوشيف،  المقتبس عن قصة جوسبودينوف ولاقى نجاحًا كبيرًا. فاز عام 2021 بجائزة "ستريغا" الإيطالية المرموقة وهي المرة الأولى التي تُمنح فيها الجائزة لكاتب من أوروبا الشرقية. وقد صرح جوسبودينوف أن إلهامه جاء من صعود الحركة الشعبوية عام 2016، وكذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن كتاباته تأثرت بالكاتبين توماس مان وخورخي لويس بورخيس. بشكل عام، استغرقت كتابة الرواية ما يقرب من ثلاث سنوات وحوالي ستة أشهر لترجمتها إلى اللغة الإنجليزية وترجمتها صديقة طفولته أنجيلا روديل، التي يعتبرها متفهمة تماما لدقائق أعماله.

حين فكرت في ترجمة اسم رواية جورجي جورسو دينوف إلى العربية وجدت أن مأوى الزمن أو ملاذ الزمن يعتبر ترجمة حرفية ولم أرتح، ثم أعطاني صديق معنى آخر هو الاحتماء بالزمن وقد فرحت به باعتباره اسما لامعا جذابًا لرواية ثم حين قرأت الرواية عدلت أفكاري نحو العنوان: عتبة النص الأولى كما نقول، أول ما يقابل القارئ وما يشده أو يقلقه عدلت أفكاري بسبب ما يطرحه هذا العنوان من معاني أخرى أوسع إذ يطرح مجموعة من الأسئلة أولها: هل هو الملاذ من الزمن أو الملاذ في الزمن؟ وينطبق هذا على المأوى والملجأ بالطبع. هل هو الاحتماء بالزمن أم الاحتماء في الزمن أو الاحتماء من الزمن؟ ومع تطورات قراءة الرواية طرح النص على عقلي معنى عيادة الزمن أيضًا وأصبح السؤال الذي تطرحه الرواية فعليا هو إن كان اللجوء إلى الحنين للماضي بخلق ملاذ محمي في ماضٍ محمي لزمن محمي يحل أزمة الإنسان المعاصر أم يدمره؟ فكيف كان ذلك؟

لأن نص جوسبو دينوف لم يترجم إلى العربية بعد سأحتاج إلى ذكر بعض التفاصيل داخل العمل نفسه حتى يدرك القارئ ما أريد.

الراوي في الرواية مجهول الاسم وهناك احتمال قائم أن يكون هو الكاتب نفسه لأنه بلغاري ويحمل بعض تفاصيل حياة جوسبودينوف وسمات طفولته، ولأن الكاتب سبق وأن قدم في كل من روايتيه:  "رواية طبيعية" و"فيزياء الحزن" راويا يحمل اسمه نفسه ويقول عن هذا في حديث صحفي له: "في 'رواية طبيعية' لا توجد شخصية جيورجي جوسبودينوف واحدة، بل ثلاث.  

في ملاذ الزمن يتعقب الراوي البطل الثاني جوستين الطبيب النفسي "لاحظ اسمه الذي يختصر اسم المؤلف أيضًا " بعد أن قرأ عنه مقالا في جريده ذكر فيه تجربته في علاج مرض الزهايمر أو خرف الشيخوخة. لا نعرف إن كان جوستين موجوداً بالفعل أم أنه من نسج خيال الراوي: "اخترعتُه أول الأمر، ومن ثم التقيته بلحمه ودمه" وفي مكان آخر: "لا أتذكر إن كنت أنا من اختلقتُ جوستين أو هو من اختلقني".

يقول الراوي أن الطبيب النفسي انتبه لارتياح المرضى في عيادته بسبب  الديكور الستيني لها، فقرر أن يختبر تنشيط ذكريات مرضاه فاقدي الذاكرة عن طريق وضعهم في زمن يحبونه، فلما استجابوا بسرعة أنشأ عيادة في مدينة زيورخ السويسرية من عدة طوابق كل طابق منها يمثل عقدا مختلفا من الزمن أعاد إحياءه  لزيادة اشعار المريض بالأمان، أضفى عليه جميع التفاصيل المعقدة التي كانت شائعة في ذلك الزمن من روائح وصابون وموسيقى وماركات سجائر ومجلات وألوان أقمشة ومفروشات وبيانات وإذاعات وغيرها من التفاصيل، التي من شأنها اعادة خلق أماكن من أيام شبابهم بهدف نقل المرضى إلى ماضيهم في الوقت المناسب لإعادة النظر في ذكرياتهم. ووضع المرضى حسب ارتياحهم للوجود في زمن معين يتزامن مع سجنهم في وقتهم الماضي الذي لم يتجاوزوه داخليا. وكعلاج للنسيان ولانعدام المعايير الأخلاقية والقلق المتفشيين في الزمن المعاصر كما سيتضح في الرواية بعد ذلك.

وشجعته النتيجة التي وصل إليها المرضى إلى نقل نموذج هذه العيادة إلى معظم بلدان أوروبا وقد فوجئ بإقبال الناس الأصحاء للانضمام إلى هذه العيادات، للهروب من أهوال الحياة العصرية، واستعير كلمة رئيسة لجنة تحكيم الجائزة، الكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سليماني: الكل يريد قطعة من الماضي. 

عالج الراوي موضوع صراع الماضي والحاضر كوسيلة لاستكشاف القرن العشرين في أوروبا، من خلال متاعب الأصحاء والصدمات النفسية التي يعاني منها والأشخاص المحطمين جراء أحداث الحاضر وخوفهم من المستقبل، وقد لاحظت أن استخدام المؤلف لسلاح الحنين وهو سلاح ذو حدين لإعادة الأشخاص إلى تجاربهم الفعلية أسفر في بعض الأحيان عن ألم وحزن لأن هروبهم إلى النسيان وفقد الذاكرة كان بسبب أحداث كارثية رفضتها عقولهم من ناحية، ومن ناحية أخرى أسفر عند البعض الآخر عن عودتهم إلى ذكرى تخيلاتهم عن الزمن الماضي: شرطي سري سابق يتخيل إعادة حياة رجل اضطهده وأبلغ عنه، مريض روماني يجد العزاء في تذكر ليس ما اختبره في حياته ولكن لحياة متخيلة في الولايات المتحدة، وغيرها من الشخصيات التي ساعدت على ابراز صورة المجتمع الممزق.

ومع توالي فصول الرواية يصبح التمييز بين الماضي والذاكرة ضرورة "كلما ازداد الماضي، قلّت الذاكرة"؛ بعد أن أصيب المجتمع كله بمرض فقدان الذاكرة الجماعي واختطف السياسيون فكرة الطبيب النفسي جوستين، وكما يقول كل الأشخاص الحقيقيين متخيلون وكل المتخيلين حقيقيون، وبشكل ساخر حكى الراوي مشاهد من الكوميديا السوداء لبعض الدول الأوروبية أثناء استفتاءاتها لتقرير أي فترة في الزمن تريد العودة إليها لتعيش فيها في المستقبل.؟ وبدلا من أن يؤدي العلاج بالاحتماء في الماضي إلى سعادة الإنسان يؤدي إلى صراع أكثر عنفًا حين تطرح كل دولة سؤالا عن أي الأزمنة يجب إلغاؤها وأيها يجب استعادتها، وهو ما يؤدي إلى شبه محاكمة لتاريخ أوروبا وانقسام الناس حول تقييمه؛ في بلغاريا مثلاً، يصطدم الاشتراكيون الذين يريدون استعادة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين مع الوطنيين الغارقين في مجد الانتصار على العثمانيين عام 1876، أما فرنسا فتختار العودة إلى الثمانينيات، وهكذا.

رواية تتهمنا جميعا بتدمير التاريخ، لأن مواجهة العولمة، والهجرة، ومواكبة العصر الذي أدى إلى قتل كل ما هو جميل في حياتنا، بالحنين إلى الماضي، والعودة المصطنعة إليه لا تعني سوى تمجيد الرجعية المتمسكة بالتقاليد والتكلس في قوالب تدمر المستقبل. ومع هذا حذرنا الكاتب من اللجوء إلى النقد السياسي بدون جدوى لأن الهروب إلى الماضي لن يؤثر على نزاعات الحاضر. لهذا سعى إلى استكشاف كيف يمكن أن يعيش الإنسان الماضي والحاضر في وقت واحد، وما نخسره عند فقدان الذاكرة، وكيف تختلط الأوقات في داخلنا ومن حولنا. 

هناك الكثير من القضايا الفلسفية المتعلقة بالذاكرة والماضي. من دون ذاكرة، تغدو الحياة مستحيلة حتى على المستوى البيولوجي، لكن الغرق في الماضي والعودة إلى الوراء والسجن في النوستالجيا لا يؤدي إلى شيء، خاصة وأن ذاكرة كل منا تحمل وجهة نظرنا التي قد لا يفهمها غيرنا وأحيانا تكون ما تخيلناه عما حدث لا ما حدث نفسه، وهو ما يوقع الشعوب في صراعات لا جدوى منها كأنه يريد أن يقول أن ما جرى قد جرى حسب فهمنا له، ومن حق الآخر أن يفهمه كما يريد، وقد توقفت كثيرا أمام وجهة النظر هذه فكم من المغالطات تجري بهذا الشأن؟ التاريخ يكتب بأيدي خبيثة وتصنع بدائل تعطي حقوقًا لغير مستحقيها.

أثارتني أسئلة الرواية وفكرة التعامل مع الزمن المصنوع وبراعة الكاتب في تشخيصها أقول تشخيصها من التشخيص ليس كعلاج فحسب ولن أيضًا كبناء لشخصيات وتجسيدها لتسريب الأسئلة الفلسفية والمحيرة ومساءلة التاريخ .

بنية الرواية معقدة جدًا وتصعب القراءة وتحتاج إلى العودة في صفحات كثيرة لتضبط التسلسل المنطقي للأحداث لكن استخدام الكاتب لأسلوب السخرية اللاذعة يضفي على المناطق الصعبة وعلى مناخ الرواية راحة وقبول يدفع لاستمرار القراءة حتى تكشف الرواية عن نفسها وتبرز عمق الفكرة وطرحها لكثير من الأسئلة الفلسفية، ويستخدم الكاتب التشويق لمعالجة مفاجآت النص حين تختطف الفكرة من السياسيين وتبدو المرارة هنا قمة في السخرية من صراعات العصر ورؤيتنا له. اللغة الإنجليزية جميلة ولا أعرف مدى تعبيرها عن البلغارية فالمترجم خائن بطبعه وبحرفته التي نحتاجها بشدة لنقل الآداب من اللغات الحية والميتة أيضًا وكم من المترجمين أنعش نصا ضعيفا في لغته الأصلية لبراعة المترجم ولغته النفيسة.

بحثت عن روايته فيزياء الحزن التي ترجمت إلى العربية وتعجبت لعدم انتباهي لها من قبل وأدعوكم لقراءتها حتى تتم ترجمة مأوى الزمن إلى العربية لكاتب كبير علينا اكتشافه، كاتب يقول أن سعادته كبيرة بترجمة روايته إلى العربية لإنه يقدّر بشدّة العديد من الأعمال الأدبية العربية "تربيت على قصص أجدادي، التي تشبه إلى حد كبير أسلوب سرد القصص العربية الكلاسيكية التي نعرفها من ألف ليلة وليلة".
----------------------
بقلم: هالة البدري


من المشهد الأسبوعية






اعلان