22 - 06 - 2024

في مناسبة عيد الإعلاميين : النخبة و الميديا ... البيروقراطية و الحوار وقضية المتقاعدين في ماسبيرو

في مناسبة عيد الإعلاميين : النخبة و الميديا ... البيروقراطية و الحوار وقضية المتقاعدين في ماسبيرو

في الواحد و الثلاثين من الشهر الجاري ؛ تحل الذكرى التسعون لإطلاق أثير الإذاعة المصرية الذي اتخذ منذ سنوات بعيدة ميقاتا للاحتفال بالإعلام المصري والعاملين فيه ؛ إذ حرك هذا الحدث الفارق في تاريخ مصر موجات متلاحقة من الفكر والإبداع والعمل الجاد ؛ صنعت بجريانها منظومة إعلامية ؛ تعد واحدة من مفاخر بلدنا الغالي ، ومقدراته المعتبرة التي يعتمد عليها في بناء الإنسان ، وإذكاء وعيه ، وشحذ هممه ؛ كشرط أساسي للبناء و التقدم ، وتعزيز مكانة الدولة وصونها.  

والإنسان هو صانع التقدم ، وهو الباني والمحرك لمثل هذه الصروح التي تتبارى في تشييدها وترقيتها المجتمعات الناهضة ؛ خاصة في عالمنا الجديد الذي تحكم العيش فيه اتجاهات رئيسية حاسمة في تأثيرها ؛ من أبرزها تنامي دور الإعلام في الدفاع عن مصالح الدولة التي يتصدرها مبدأ البقاء ، وحماية مقومات الأمن القومي . 

من هنا يكون مبررا تماما ومفهوما مبلغ الاحترام والتقدير والعرفان الذي تنظر به الأجيال المتعاقبة إلى الإعلاميين الرواد الذين أقاموا هذا الصرح العظيم ، وإلى من تعاقبوا على حمل الراية ومواصلة المسيرة ، ومنهم  - بالطبع - عدة آلاف ممن عملوا في الهيئة الوطنية للإعلام وخرجوا تباعا إلى التقاعد خلال الأعوام الأخيرة ، ولم يحصلوا إلى الآن على مستحقاتهم المالية الواجبة ، ويعانون جراء ذلك معاناة لا تفي بالتعبير عنها إلا السرديات المؤلمة التي يتناقلونها في ما بينهم وعلى استحياء !   

يعرف غير المنتمين إلى ماسبيرو أسبابا مفهومة وشائعة لأزمة المتقاعدين فيه وهي كثيرة ؛ لكن أبناء ماسبيرو معرفتهم أكثر خصوصية وتجعلهم يختلفون عن الكافة في تشخيص الأزمة ؛ فعندهم أنه كان من الممكن منذ البدء تجنبها ولاحقا حلها بكل سهولة ؛ علما بأن هذا الصرح الشامخ على ضفاف نيل مصر مرّ بأزمات أكثر منها حدة وتجاوزها ؛ بفضل قدرات وخبرات قياداته. 

لو تركت هذه الأزمة وقت أن نشأت لحالها وللمعنيين بها ما كانت وصلت إلى هذا المستوى من التعقد والاستعصاء ، و لتمكن أبناء ماسبيرو من حلها ببساطة ؛ لكن ما حدث أن من اعتادوا المتاجرة بقضايا الوطن وأبنائه - و هم كثرٌ ، ولديهم أدوات ماضية للتلاعب والتضليل - التقطوا الأزمة ودسوا سمومهم في ثناياها ؛ فزادوها صعوبة و تشعبا ، وبموازاة ذلك ضاعفوا معاناة المعنيين بها ، واستخدموهم مادة لخدمة مصالحهم الشخصية ، ولتضخيم مكاسبهم التي تنمو وتربو على أنقاض أسر تتفكك ، وآباء تتساقط مكانتهم أمام أبنائهم وشركاء حياتهم ؛ رجال ونساء يزداد شعورهم بالامتهان واليأس والإحباط والانكسار ؛ يوما بعد يوم ! 

هذا هو الوصف العام لواقع وبيئة الأزمة التي يواجهها منفردا الرجل الذي التقيته مع مجموعة من زملائي ؛ من بينهم من جاءوا محمولين أو مسنودين، وآخرون فقدوا الإدراك أو البصر أو القدرة على النطق! هذا الرجل الذي كانت لدي صورة ذهنية بالغة السوء عنه - و أقصد رئيس الهيئة الوطنية للإعلام - حمّل بمهمة اختاره لها القدر حتى يشقيه ؛ إذ لمست بخبرتي كم تسيطر عليه مشاعر التعاطف مع الآخرين ، وإلى أي حد هو يتألم لآلامهم ! هذه هي طبيعته كإنسان يتسم بالبساطة والتواضع الشديد . و بكل أمانة و صدق أقول إنني تفاجأت برجل آخر يختلف عن الرجل الذي عرفته عن طريق السمع والمتابعة من بعد ، والتداعيات المأساوية لأزمة المتقاعدين في ماسبيرو . شهادتي العينية فيه أنه صادق الشعور ، ولديه فهم كامل للأزمة في أبعادها الإنسانية والإدارية والمالية ؛ لكنْ ينقصه الانغماس في أبعادها الجوهرية الأخرى ؛ مع الإقرار بأنني كواحد من أبناء ماسبيرو كنت لسنوات طويلة على صلة شبه يومية وثيقة بقياداته المسئولة على مختلف المستويات - أدرك جيدا مدى ضخامة العبء الذي تمثله هذه الأزمة على كاهله. 

المكتب الذي يعمل من خلاله رئيس الهيئة الوطنية للإعلام كان في الماضي وحتى منتصف العقد الأول من العشرية الأولى من الألفينات تقريبا - مزارا دائما لي ؛ لا لتخليص مصالح خاصة أو الحصول على مزايا أو لغير ذلك من أغراض خبيثة أو جالبة للعار ؛ ولكن لخدمة المؤسسة التي أعمل فيها والوطن الذي أنتمي إليه . 

واللقاء الذي أشرت إليه كان موعدا لزيارة أولى لهذا المكتب بعد انقطاع لسنوات طويلة . تغيرت الوجوه و المعالم ؛ ومع ذلك بقي المكان مألوفا لي ، ولا يدهشني أن عددا من العاملين فيه يخاطبونني باسمي ، وقد كنت في أثناء الخدمة دائم البعد عن الظهور وعن التملق و التسلق. 

جالت بخاطري الكثير من المناسبات التي اقتضت تواصلي مع وزير الإعلام أو كبار مساعديه ، ومنها مناسبة انتهائي من وضع واحد من كتبي المنشورة الذي حرصت على أن يصل عبره إلى رئيس الجمهورية . وكان الكتاب صيحة نقد قوية وموضوعية لبرنامج الإصلاح المصري ؛ قدّم له الدكتور علي لطفي رئيس الوزراء الأسبق الذي أنجز أولى خطوات البرنامج بنجاح ؛ وهي الإصلاح المالي. ولقد وجد هذا النقد الذي أشعَرَ رئيس الجمهورية حينها بالإحباط الشديد رغم نجاحات البرنامج - صدى لديه انقطع بعد حين ! وكان منصبا في المعاناة التي تسبب فيها هذا البرنامج للمواطنين ، وتأثيراته المروعة على تفاصيل حياتهم ، والأهم الأوضاع الاجتماعية الخطيرة التي خلفها ، والتي لم تجد إلا اهتماما شكليا غير مدروس من المعنيين في النظام الذي قامت عليه ثورة يناير.  

والمؤكد أن قضية المتقاعدين في ماسبيرو لا تختلف عن تلك القضايا من المنظور الذي ذكرته ؛ ولهذا أجدني ملزما باالإشارة إلى الاستراتيجية العامة التي يتوجب اتباعها - في تقديري - وصولا إلى حل حاسم لها : إنها استراتيجية تقوم على إنجاز حل نهائي للأزمة في أسرع وقت ممكن ؛ وصولا إلى الوضع الطبيعي للتعامل مع استحقاقات المتقاعدين مستقبلا ، وبحيث يكون هذا الحل متدرجا في إطار برنامج زمني مرن ، وقائما بالأساس على التمويل الذاتي ، والحوار المستمر مع المتقاعدين ، وإعطاء الأولوية لمكافأة نهاية الخدمة التي يستحقونها ، والتدخل - كلما كان كان ذلك ممكنا - بآليات مبتكرة لإسراع وتيرة الصرف ، وإنجاز الحل المنشود \. 

ولقد سلمت رئيس الهيئة - خلال اللقاء الذي أتحدث عنه - اقتراحات مبدئية تنسجم مع هذه الاستراتيجية قدرتُ أنها تحظى بالأولوية . فأولا ؛ اقترحت أن تنشأ آلية دائمة لتبادل الرأي بين المتقاعدين ومسئولي الهيئة ؛ تتحدث عن نتائج عملها بشكل مستمر إعلانات رسمية من الهيئة ، مع ضرورة أن يجري هذا العمل في مسار موازٍ يخص العاملين في ماسبيرو الذين لديهم مشكلات تستوجب النظر فيها في سياق موضوعي ؛ يداوي جروح الماضي القريب ويفتح آفاقا للمستقبل المثير للقلق . إن هذه الآلية قد تكون مثالا قابلا للتعميم كأداة متحضرة فاعلة لحل المشكلات التي نواجهها عموما أينما وجدت . 

واقترحت ثانيا ؛ إعادة النظر في عمل اللجنة المعنية بالصرف الاستثنائي لجانب من المستحقات المالية للمتقاعدين ؛ على نحو يعطي دفعة كبيرة لوتيرة الصرف ، ويضمن وجود قواعد منطقية عادلة محكمة للصرف ؛ تصدر عاجلا في شكل لائحة يكون العمل بها تحت رقابة صارمة من رئيس الهيئة. 

من هنا أعود إلى الحديث عن المتاجرين بأزمة المتقاعدين في ماسبيرو ؛ فأزعم أن التحدي الأساسي الذي يتوجب علينا مواجهته على موائد هذا الحوار ؛ يبقى هو اختراق و إجهاض بؤرة البيروقراطية التقليدية العتيدة التي تقف حجر عثرة في كل مواقع العمل والإنتاج أمام معالجة المشكلات ، وتحقيق أي إنجاز أو تقدم . فالبيروقراطيون المحترفون يحتلون دائما صدارة مشاهد التعثر أو الفشل ، وتتلخص خطتهم التي يجيدون تنفيذها في تكبيل القيادات بمزاعم لا أساس لها في الواقع ، وإشعال فتيل المنازعات مع المرءوسين ، وأخيرا الاستمتاع بالفرجة على ما تقوم به القوى ( الأمنية ) التي قد تستدعى للقيام بدورها القانوني في إخماد النيران. 

ويلي هؤلاء ويتنافس معهم على صدارة قائمة المتاجرين بقضية المتقاعدين ؛ نخبة ماسبيرو التي هي جزء من النخبة المصرية المريضة المتعالية المنكفئة على ذاتها ، والتي تركت القاعدة العريضة من المتقاعدين تصارع وحيدة في خضم الأزمة ، واكتفت بالتنظير والتظاهر بالعقلانية ، أو أسهمت في احتواء غضب المتقاعدين بكل السبل الممكنة . وهذه النخبة معروفة دوافعها ومتنوعة ، وأبرزها حماية المكتسبات التي اغتنمتها ، والخوف غير المبرر الساكن فيها من أجهزة السلطة . ويستطيع رئيس الهيئة الراغب في إنهاء الأزمة أن يستدعي هذه النخبة لمساعدته ، وستنصاع تحت تأثير الدوافع نفسها !  

في المرتبة الثالثة نجد حفنة من اللاعبين الفاشلين في مختلف الساحات الشعبية و السياسية والحزبية والإعلامية وغيرها ؛ مثلت الأزمة بالنسبة إليهم فرصة للظهور ، وصنع بطولات زائفة ، ومجالا ثريا للابتزاز عبر مبادلة أصواتهم الصاخبة الكذوبة بمكاسب إضافية ، وتبييض وجوهم المسودّة أمام الجمهور الذي فقد الثقة بهم . وهؤلاء تستطيع أجهزة الدولة بل يجب أن تقوم بإسكاتهم ؛ كون ممارساتهم الداعية إلى السخرية تزيد غضب الناس وسخطهم ، وتعطل الجهد الذي يبذله رئيس الهيئة لحل الأزمة .    

وأخيرا ؛ و للأسف ! يحضر المتاجرون المنتمون إلى المتقاعدين أنفسهم يظاهرهم مستأجرون أو متطوعون ممن يستخدمون الميديا الجديدة لخداع المتقاعدين أو تخويفهم و تفريقهم وإحباطهم وتخديرهم أو تهييجهم ؛ حسب الاقتضاء ، وهؤلاء يقومون بحشو قضية المتقاعدين في سياق قضايا أو عبارات سياسية لا علاقة لها بالقضية ، أو إسالتها في قضايا فرعية لا طائل منها ، أو يقومون بابتزازهم ماديا ومعنويا والإضرار بمصالحهم . وهؤلاء يملك رئيس الهيئة سلطة التعامل معهم وفقا للقانون ، وعليه أن يفعل ، ونحن نطالبه بذلك . 

يستطيع رئيس الهيئة أن ينحي كل هؤلاء المنتفعين المغرضين جانبا ، وأن يعيد القضية إلى مساحتها الطبيعية التي تقبل فيها الحل ، وأن يتحول إلى بطل شعبي على الأقل في مخيلة الإعلاميين الذين تتلمذ على أيديهم ؛ يكفيه فحسب أن يتحلى بقدر إضافي من مقومات رجل السياسة ، وألا يكتفي بأداء دور المدير الأعلى ، وأن يضرب في الموقع والتوقيت المناسب لحل الأزمات التي تعطله وتسيء إليه . فالمنصب الذي يحتله الرجل الإنسان الذي التقيته مع زملائي يحتاج إلى أن يهتم شاغله بما يثار حوله من تقييمات أو تساؤلات ، وبتصحيح صورته أمام جمهوره ، وبامتلاك دائرة إعلامية قوية تتولى التعريف بجهوده وإنجازاته ؛ ولو كانت محدودة ، وإلى أن يتجرأ على توظيف علاقاته الفوقية بغير سقوف لحل المشكلات الصعبة التي تواجهه.   

فهل يكون عيد الإعلاميين فرصة ومناسبة لوضع بسمة تأخرت طويلا على وجوه المعذبين من المتقاعدين في ماسبيرو ؛ اتساقا مع الصالح العام والظرف العام ؟ ولم لا ؟! أظن أن هذا ممكن ومتاح من خلال المقترح الذي قدمته إلى رئيس الهيئة منذ عدة أسابيع ؛ في لقاء ثانٍ جرى معه ؛ بناء على استدعاء منه ، وهو مقترح تم تقديمه أيضا إلى رئيس مجلس الوزراء ، وسيكون موضوعا لمقال تالٍ حول هذه القضية .  
--------------------------------
بقلم : عبد المجيد إبراهيم  
[email protected] 

مقالات اخرى للكاتب

في ميدان عمليات تغيرت مقارباته | كيف سيكون الرد الجوابي لحزب الله على العدوان الصهيوني ضد لبنان؟





اعلان