29 - 06 - 2024

الفساد والسرقة النخبوية يتحولان إلى عرف في أفريقيا

الفساد والسرقة النخبوية يتحولان إلى عرف في أفريقيا

الباحثة الجزائرية فوزية زراولية: رشوة وتبييض أموال، ونهب مباشر للمال العام من طرف النخبة الحاكمة جنوب الصحراء 

يلعب الريع دورا محوريا في صياغة السياسات الداخلية للعديد من الدول الإفريقية، فما يقارب أكثر من نصف دول القارة يعتمدون على الموارد الطبيعية في تمويل الحياة السياسية والاقتصادية، ولكن التبعية للموارد هذه كان لها الوقع الكبير على البنية المجتمعية ومستويات العنف داخل الدولة خاصة أثناء الأزمات الاقتصادية.فكل من الحروب في نيجيريا، تشاد، جمهورية إفريقيا الوسطى، لا تنفصل عن منطق عمل الآلة التوزيعية الداخلية، وكيفية توزيع الثروات وتوظيفها لتعزيز الانقسامات الداخلية، وإقصاء المعارضة، وتخريب القطاع الإنتاجي في مقابل توسيع نشاطات غير ريعية استهلاكية، وكل هذه الممارسات قادت على المدى البعيد إلى تخريب آليات التعايش الداخلي.

هذه الرؤية تشكل ملخص دراسة الباحثة الجزائرية فوزية زراولية الأستاذة المساعدة في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة جيجل، والتي عنونتها بـ "الريع والحروب الأهلية في إفريقيا جنوب الصحراء: مع الإشارة لحالة جمهورية الكونغو الديمقراطية"، ونشرت بمجلة الحقيقة وكشف فيها كارثية الأوضاع المأساوية التي تعاني منها الشعوب الأفريقية جراء انتشار الحروب والنزاعات والفساد بين النخب الحاكمة والمؤسسات التي تنضوي تحت رئاستها.

تشير زراولية إلى أنه ليست كل دولة غنية بالثروات الطبيعية هي عبارة عن دولة ريعية، وليست كل الدول الريعية هي دول تابعة، وبالتالي ليست كل دولة ريعية مهددة بالانهيار. فالدولة الريعية هي التي تكون فيها نسبة عائدات صادرات المواد الأولية من الناتج الداخلي الخام عالية، والدولة الريعية التابعة هي التي تكون فيها حصة الفرد من عائدات الريع كبيرة جدا. إذن ما يقود إلى الحرب الأهلية هي التبعية وليس الريع ولا الوفرة، وهذا ما أكده باسيدو ولاي من خلال دراستهما الكمية.

وتقول يختلف أثر التبعية الريعية على الاستقرار الداخلي للدول الأفريقية باختلاف نوعية المورد. وفقا لتحليلات تاد دانينغ، تقتضي دراسة الاقتصاد السياسي للدولة الريعية منح الاعتبار لطبيعة المورد المتواجد في الدولة محل البحث، فليست كل الموارد الطبيعية تتجه إلى الخزينة الوطنية، وليست كل الموارد تفرز لنا دولة ريعية.منهجيا، وحسب دراسات فيليب لو بيلون يمكن التمييز بين نوعين من الثروات الطبيعية: الموارد المنتشرة جغرافيا والقابلة للنهب كماس الطمي والأحجار الكريمة، والموارد المتمركزة جغرافيا وغير القابلة للنهب كالنفط. على هذا الأساس، من المستحسن التركيز في البحث على الأنظمة الغنية بالموارد المتمركزة جغرافيا، التي تحتاج لرؤوس أموال طائلة للاستغلال ومن الصعب الوصول لها من طرف الفواعل الخاصة. يسهل على الحكومة أن تؤسس على هذا النمط من الموارد قاعدة ضريبية ورقابة محكمة، الأمر الذي يرفع من مخاطر استهدافها ويضمن تحكم النخبة فيها، في حين تتطلب الموارد المتناثرة جغرافيا تكاليف محدودة لاستخراجها، ويمكن الاستحواذ عليها بسهولة من طرف الفواعل الخاصة كالمليشيات، الأمر الذي يفرز إرهاصات واسعة النطاق على المستوى السياسي ويحرم الدولة من عائداتها. لكن يمكن استثناء هذه المسلمة إذا كانت الدولة المعنية بالدراسة لها نظام ضريبي قوي أومؤسسة عسكرية قوية.

وتضرب زراولية مثلا، تقول "استطاعت المليشيات الإثنية في دلتا النيجر السيطرة على نسبة معتبرة من الإنتاج النفطي. منذ 2009 تطورت حركات القرصنة النفطية بشكل ملحوظ، حيث تم تخريب العديد من الأنابيب التابعة لشركة شل. تصاعد حركة التهريب في السنوات الأخيرة، ما هو إلا ترجمة لتحكم الحركات المافياوية بإقليم دلتا النيجر وامتلاكها لقوارب متطورة لنقل حاويات النفط المسروق، إلى جانب اتصالاتها الواسعة مع الشبكات المافياوية الدولية والإقليمية. يوضح هذا المثال أن نوع الثروة وطريقة الاستخراج ليست عاملا كافيا من أجل الفصل في قدرة الدولة الريعية على التحكم بعائدات الثروات التي تملكها. من جهة أخرى، تلعب نسبة الاحتياطات الداخلية من الثروة التي تمتلكها الدولة دورا محوريا في تحديد سلوك النخبة الداخلي. وضح جون هيليرن في دراسته حول الدول النفطية والسلوك الديمقراطي في الدول الإفريقية أن هناك فارقا بينا بالدول النفطية السائرة إلى النضوج مثل أنجولا ونيجيريا،، وبين الدول النفطية المتراجعة الاحتياطات لأنها محدد محوري لتحليل العلاقة بين المجتمع والنخبة الحاكمة، ومستويات الفساد، ودرجات النهب النخبوي، الذي قد يقود إلى إشعال فتيل الحروب الداخلية.

وترى أنه غالبا تتبني الدول الريعية في إفريقيا آليات إنفاقية غير عقلانية، سواء دائمة أو مؤقتة. الشق الأول، يمثل المبادرات الإنفاقية طويلة الأمد والمستمرة كالخدمات الاجتماعية، القروض الاستهلاكية، المشاريع الاجتماعية الضخمة، وحتى التمويل الموجه للتنظيمات المجتمعية الهادفة لإعادة إنتاج أيديولوجة الدولة، وسياسيا أغلبها مقننة وممأسسة وتلعب دورا محوريا في تحديد الاستجابات الداخلية تجاه النخبة الحاكمة، من جهة، وصياغة الإدراكات الفردية والجماعية تجاه النظام السياسي. مخرجات النسق السياسي، من جهة ثانية تقنن هذه الآليات في حالات عديدة بشكل يسمح بإعادة إنتاج البنية المجتمعية والاقتصادية التي ترغب النخبة الحاكمة في تطويرها.

ثانيا، الآليات المؤقتة والتي عرفت اتساعا كبيرا في السنوات الأخيرة وخاصة في الديمقراطيات الصورية أو التي يسميها نيكولاس فان دي والب التسلطيات الانتخابية من ضمن هذه الوسائل الجديدة، شراء الأصوات أثناء الانتخابات، توزيع الأموال أثناء الحملات الانتخابية، وتعتبر الحالة النيجيرية هي الرائدة في هذا النمط من التوزيع الريعي.لكن لا يمكن أن ننفي أن هناك من الدول التي قد تتبنى سياسات توزيعية ريعية معتدلة، ويعتبر نظام هوفوييه سابقا في ساحل العاج من أهم الأمثلة عن الأنظمة الزبائنية الريعية المستقرة، والتي استطاعت تجنب الانهيار الكلي عبر سياسات توزيعية معتدلة استهدفت تقليص واحتواء الانقسامات الجهوية.

وتؤكد دراسة الحروب الأهلية في الدول الغنية بالثروات الطبيعية أنه يقتضي فهم تطوير ممارسات النهب على مستوى النخبة الحاكمة. ففي بعض الدول الإفريقية، لا يعتبر الفساد ممارسة عرضية منحصرة في مستويات محددة، ولكنه سياسة واستراتيجيات مخطط لها، وموجهة بشكل يسمح للنخبة الحاكمة برفع ثروتها الشخصية من المال العام، ويقود إلى تعميق الانقسامات المجتمعية. فممارسات السرقة تمس جميع المؤسسات الوطنية، كالمؤسسة العسكرية، والبرلمان، والقضاء، حيث يتورط أغلب الموظفين الساميين في سرقة المال العام لتحقيق الأغراض الشخصية. تكون مستويات الفساد عالية جدا في الأنظمة الرئاسية التي يسيطر عليها الشخص الواحد مقارنة بالأنظمة العسكرية أو التي لا يهيمن فيها الشخص الواحد بل لوبيات مشتركة مع بعضها البعض، لأن الرئيس في الأنظمة الأولى يتمتع بصلاحيات واسعة للتدخل في المال العام والإنفاق من الخزينة العامة..

وتشدد زراولية على أن مظاهر الفساد السياسي والسرقة النخبوية من الرشوة وتبييض الأموال، والنهب المباشر للمال العام من طرف النخبة الحاكمة تحولت إلى عرف متبنى بشكل دوري في معظم الدول الغنية بالثروات جنوب الصحراء.إذ أكدت جميع التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية حول الحكم الراشد والشفافية أن الدول النفطية مثل الكاميرون، التشاد، الكونغو ـ برازافيل، غينيا الإستوائية ونيجيريا متصدرة لقائمة الدول التي تشهد أكبر نسب النهب النخبوي. تحولت فيها الشركات الاستخراجية سواء العامة أو الخاصة منها، مثل: الشركة النفطية الأنجولية، الشركة البترولية الوطنية النيجيرية، الشركة الوطنية لبترول الكونغو، الشركة الوطنية للمحروقات في الكاميرون، جي بيترول الغينية، إلى مؤسسات محورية ومحددات جوهرية لاستمرار النظام وبقائه، وفي حالات أخرى، أصبحت مصدرا للصراع الدائم بين اللوبيات الداخلية المهيمنة التي تسعى بشتى الطرق إلى الحفاظ على رقابتها المطلقة على مصدر العائد.

وتتابع أن اتساع حركة الفساد النخبوي في الدول الريعية الإفريقية هو إفراز لمسارين محوريين، الأول وهو الإقصاء، والثاني، وهو الإدماج. إقصاء المواطن من عملية اتخاذ القرار وتجريده من دوره كمراقب في معادلة العقد الاجتماعي، وإعادة إدماجه في الحلقة المفرغة للنظام التوزيعي النيوباتريمونيالي الذي حرصت النخب المهيمنة، سواء مدنية أو عسكرية، على ترسيخه منذ الاستقلال. فالريع سمح للنخبة الحاكمة بقمع النزعات الاحتجاجية الداخلية عبر بناء الجيوش والأجهزة الاستخباراتية الموجهة لقمع أي شكل من أشكال المعارضة الداخلية، كما منحها الفرصة لتشتيت العمل الجماعي وإلغاء الوظيفة السياسية للمجتمع المدني من خلال إلغاء الضرائب أو تخفيضها لمستويات دنيا. فإذا كان المواطن في الديمقراطيات الغربية يلعب دور المراقب لمنع النخبة من الاستبداد بالسلطة، فإنه في الدول الإفريقية الريعية، يلعب دور الزبون الذي يخدم مصالح نخبة ضيقة لا تكترث للصالح العام.

وتلفت زروالية أن هذا النمط من الفساد النخبوي لا يقتصر على مرحلة الأنظمة المطلقة، ولكن مازال قائما حتى يومنا هذا. فالموجة الديمقراطية التي مست معظم الدول الإفريقية منذ مطلع التسعينات لم تحرم النخب التقليدية من الحفاظ على مكانتها في قلب هرم السلطة، بل ساعد آليات جديدة للاستيلاء على المال العام تحت حجة التعددية السياسية، وهنا نقتبس التعبيرالشهير لبيار جاكموت "إن الدولة الإفريقية دولة بدائية حيث الإثنية هي المعيار الجوهري للمعاملات الداخلية والفساد النخبوي تحول إلى مرض مزمن، ولهذا لا بد أن نتوقف عن النظر لها على أنها الحلقة الانتقالية لمشروع بناء الدولة المعاصرة، والبدء بالنظر لها كملكية خاصة". 

إن تنامي النهب النخبوي في المجتمعات الإفريقية لم يساعد فقط على تراجع الخدمات الاجتماعية وارتفاع مستويات الفقر، بل ساهم في تخريب مراكز إنتاج الشرعية الداخلية للنخبة الحاكمة وفاقم من أزمة التغلغل. هذه الأخيرة التي تحولت على المستوى البعيد إلى مجموعة من الحركات الانفصالية المطالبة بتشكيل دويلات مستقلة بدعم من الدول المجاورة أو القوى الكبرى. عائدات الريع ساهمت من جهة من تمويل الحسابات الخاصة في البنوك الخارجية، ولكن من جهة أخرى، مهدت لتنامي العنف المجتمعي الذي أصبح خلال فترة وجيزة عبارة عن حالات عنف على درجة عالية من الشدة. فانهيار الدولة في سيراليون، ليبيريا، والكونغو الديمقراطية، وفشل الحكومات في كل من الغابون، الكاميرون، التشاد ما هي إلا تعبير عن السياسات النخبوية الريعية القائمة على احتكار المال العام لخدمة الأغراض الشخصية.

وتنبه إلى أن تعميم الفساد في المجتمع وتبنيه كاستراتيجية دورية من طرف القطاعات المجتمعية الدنيا، قد يكون تعبيرا عن خيار شخصي أو تعبيرا عن حتمية مفروضة. بالنسبة للعديد من المسؤولين المتواجدين على رأس المناصب العليا في البيروقراطيات، فإن الفساد هدفه رفع العائدات من النفوذ الذي توفره الوظيفة المؤسساتية والسلطة الظرفية التي منحت له، بغض النظر إن كان هذا الموظف لديه توجهات سياسية أو لا، فالتعسف بالسلطة الممنوحة له هو إفراز للطمع أكثر منه إفرازا لتوجه سياسي. نسبة الاختلاس لدى هذه الفئة المجتمعية تكون جد مرتفعة في حالة الأنظمة المشخصنة التي يكون فيها تواتر تغيير المناصب سريع جدا، وسقوط الأدوار الاقتصادية وتصاعدها لا يخضع لمعايير واضحة ولكن لقرارات شخصية. أما للفئة المهمشة أو الفئات الشعبية الدنيا فإن الظروف الاقتصادية وغياب قاعدة الجزاء هو الذي يفرض عليها المشاركة في نشاطات الفساد اليومي، أو على الأقل التسليم به كعرف داخل المجتمع.
------------------------------
من المشهد الأسبوعية






اعلان