17 - 07 - 2024

هكذا عرفت شمس الدين الحجاجي

هكذا عرفت شمس الدين الحجاجي

- عالم موسوعي، عصامي، رحالة، شجاع، ثائر ضد الظلم، باحث عن الديمقراطية، معتز بهويته، وفيّ، صوفي زاهد، كاره لتولي المناصب، مبدع استثنائي

تحمل سيرة الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي صفات أبطال السير الشعبية الذين كرَّس لهم الكثير من دراساته وجهوده العلمية، ثائرًا ضد الظلم يقف في صف المظلوم حتى يأتي له بحقه ، يخوض معارك صعبة يتجنبها الجميع ليس من أجل مصالحه الشخصية وإنما من أجل آخرين. عرفت سيرته من خلال تعاملي المباشر معه منذ 2012 وحتى رحيله في 13 فبراير 2024، ومن خلال ما حكاه لي أو حُكي لي عنه من مواقف لم أعاصرها، عرفته عالمًا موسوعيًّا، عرفته رحالة كثير الأسفار بين قارات العالم، عرفته مناضلًا شديد الكراهية للظلم لا يتوقف عن النداء بالديمقراطية، عرفته عصاميًّا، عرفته صوفيًّا زاهدًا، عرفته مبدعًا، عرفته محبًا لأهله معتزًا بجذوره لم يغير لهجته الجنوبية الرائقة.

 أذكر أنه عندما علم الصحفي عبدالرحمن أبو العنين أن الدكتور شمس هو من يشرف على أطروحتي للماجستير انهالت ذكرياته مع هذا الأستاذ الذي كان يشارك طلاب الجامعة في المظاهرات ضد الظلم والاستبداد فيحمله الطلاب فوق أعناقهم في مظاهرات الجامعة في الثمانينيات وهم يهتفون «أحمد شمس يا أحمد شمس انهاردة ضلمة وبكره شمس» والهتاف الثاني الشهير «دكتور شمس يا دكتور شمس، لينا نهار ولينا شمس». فلم يكن يعبأ بالعواقب التي يتعرض لها والتهم التي قد توجه إليه بتحريض طلاب الجامعة على المظاهرات ، كل ذلك كان يلقيه وراء ظهره طالما وجد أن المطالب عادلة فلا يتأخر عن تلبية النداء.

أذكر عندما تعرض الدكتور سيد البحراوي إلى حملة تشويه وأكاذيب وتهم باطلة نتيجة لتدريسه لرواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» على طلابه وكانت هناك مظاهرات ضده، سارع الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي ليكون أول مدافع عنه ضد هذه التهم الباطلة متناسيًا الخلافات التي كانت بينهما في تلك الفترة، فهكذا كان ديدن الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي يقف مع الحق دون النظر إلى أي شيء أو حسابات أخرى. 

ساند شعراء السيرة الشعبية ووقف في وجه عبدالرحمن الأبنودي الذي كان يسطو على مجهودهم من خلال ادعائه أنه جمع السيرة من أكثر من راوي شعبي ووضعها في كتاب بينما كانت في الحقيقة كلها روايات مختلفة رواها له جابر أبو حسين فوضعها الأبنودي بين دفتي كتاب تحمل اسمه، وكان يعمل على إيهام الجمهور أن السيرة الهلالية من تأليفه وأن الراوي يقول صياغة الأبنودي للسيرة فقد كان الإعلان اليومي الذي تذيعه الإذاعة لرواية جابر أبو حسين: السيرة الهلالية، يرويها عبد الرحمن الأبنودي، غناء جابر أبو حسين. جاعلًا من جابر مجرد مغني لا مبدع صاغ هذه السيرة بقريحته الشعرية الشعبية الفذة. وقد فند الدكتور شمس الدين الحجاجي ادعاءات عبدالرحمن الأبنودي بشكل علمي في دراسة له بعنوان «الانتحال على طريقة عبدالرحمن الأبنودي» ولم يخض شمس الدين الحجاجي هذه المعركة مع الأبنودي إلا من أجل نسب الحق إلى صاحبه الذى تُوفي - جابر أبو حسين - وظن الأبنودي أنه لن يجد من يدافع عنه ويرد له حقه.

المحبة

كانت مدرسة  الدكتور أحمد شمس الدين قائمة على المحبة، يسعى إلى التأليف بين جميع تلاميذه وجعلهم أسرة واحدة مهما اختلفت أجيالهم، تلاميذ في مدرسة شمس الدين الحجاجي التي تجعل من إتقان العمل هي القيمة العليا، كان يراجع رسائل تلاميذه حرفًا حرفًا موجهًا أبناءه إلى المراجع المفيدة لهم من واقع خبرته الطويلة، يكلفهم بقراءة عشرات الكتب، يطالبهم بإعادة ما كتبوه ولا يرضى لهم سوى بما يليق بالمدرسة التي أسس بنيانها على مدار سنوات عمره، ثم إذا جاءت المناقشة العلمية يكون خير مدافع عنهم بالحق لعلمه بما بذلوه من جهد في كتابة أطروحتهم.

زاهد

عرفت الدكتور أحمد شمس الدين زاهدًا من أكبر زهاد عصره، عُرضت عليه مناصب جمة لكنه رفضها كلها، منها أنه كُلِّف يأن يتولى أحد المناصب المهمة في وزارة الثقافة اعتذر عن قبوله بصورة ربما شكلت صدمة لمن أبلغه بالأمر والذي كان يعتقد أن الدكتور شمس سوف يرحب به، خاصة وأن كثر يتقاتلون على نيله بينما جاءت إليه هو دون طلب منه.

وفي موقف ثان يدل على زهده واعتزازه بأرومته أنه حين دُعي إلى أحد الملتقيات الثقافية في دولة خليجية، أعجبت إحدى الأميرات بطرحه الثقافي المتقن وموسوعيته وعفويته في الحديث، وأمرت بأن يمنح مكرمة استثنائية تقديرًا له، فما كان منه إلا أن رفض ذلك عندما توجه إليه السكرتير الخاص بها بظرف به مبلغ مالي قائلًا له في إباء شديد (ما هذا يا بني نحن أبناء شيوخ نُعْطِي ولا نُعْطَى) -  كيف لا هو حفيد الشيخ أبو الحجاج الأقصري وعميد الأسرة الحجاجية - فلما وصل ذلك الأمر بتلك الأميرة الخليجية ازداد إعجابها بموقفه هذا ونبله، وما كان منها سوى أن دعته إلى مأدبة عشاء مع أسرتها في قصرها.

الوفاء

عرفت الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي وفيَّا، فلم أر إنسانًا يحب أبيه كما أحب الابن أحمد والده شمس الدين، كان كثير الحديث عنه والتغني به، ذلك الأب الذي تعلم في الأزهر الشريف في بداية القرن العشرين، ثم عاد الأب إلى الأقصر وعمل مفتيًّا لطريقة الشيخ أحمد الطيب جد الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر حاليًّا، ثم بعدها عمل مأذونًا إلى جانب عمله معلمًا في إحدى مدارس الراهبات في الأقصر، وحين خرج على المعاش لم تمنحه المدرسة مكافأة نهاية الخدمة التي يستحقها فقال له ابنه أحمد أنه من الممكن أن يرفع على المدرسة قضية في القضاء وسينال حقه، فقال له الأب لو أخذتُ حقي ربما أغلقت تلك المدرسة أبوابها تمامًا ولم يعد لديها ما تُعَلِّم به أبناء الأقصر. ذلك الموقف كان له بالغ الأثر في حياة أحمد شمس الدين الحجاجي في تعلم معنى التسامي والزهد والتنازل عن حقه إذا كان ذلك في صالح الجماعة مقدما مصلحة الكل على النفس.

عرفت ذلك الوفاء في ذكره الدائم للدكتور نعمان القاضي الذي طالما حدثني عنه وعن مواقف دارت بينهما، وكأن نعمان لم يفارق الحياة خالدًا في ذاكرته وكأنه لم يعرف صديقًا صدوقًا سواه.

رحالة

عرفت الدكتور أحمد شمس الدين رحالة لا يكف عن تجوال قارات العالم، بدأها بالانتقال من الأقصر للتعلم في جامعة القاهرة ليكمل سيرة والده الذي جاء إلى القاهرة للتعلم في الأزهر الشريف من قبل، وبعد الانتهاء من الدراسة سافر إلى كوريا الجنوبية ودرس في جامعاتها وبالتحديد في جامعة هانكوك هناك، وخرج بتأملات مهمة حول أسباب غياب المسرح عن الثقافة العربية، وتعرف على الأسطورة كواقع معاش هناك، ثم عاد منها ليسافر إلى أمريكا طاف بين جامعاتها وحظي بشعبية هائلة بين الطلاب هناك وَلُقِّبَ بالإمام وفتح الأبواب للكثير من زملائه للقدوم إلى أمريكا للعمل في جامعاتها هناك، فقد درس في جامعة يوتا وبنسلفانيا وأبلاشيا –نورث كارولينا- وويسكنسن وكتب كتابه بالإنجليزية هناك أصول المسرح العربي، ثم قرر ترك كل هذا والعودة للتدريس في جامعة القاهرة، وبعدها عمل لبضع سنوات في المملكة العربية السعودية وفي دولة البحرين، فعمل في جامعات الملك فيصل، وكلية البنات بالرياض، وكلية البحرين الجامعية، وجامعة الشيخ زايد. ومازال تلاميذه من هذه الدول يكنون له شديد المحبة والعرفان وكانوا يوصونني بأن أوصل لهم السلام، وإذا قدموا إلى القاهرة أن أصطحبهم إلى زيارته في منزله.

مثابر

عرفت الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي الإنسان المثابر العصامي الذي بنى نفسه بنفسه، أنهى دراسته في كلية الآداب جامعة القاهرة بالحصول على الليسانس في الآداب، ثم  حصل بكالوريوس التربية من جامعة عين شمس، وفي هذه الأثناء كان يعد أطروحته لرسالة الماجستير الرائدة في مجالها حول النقد المسرحي في مصر في الصحف والجرائد المصرية 1876: 1923، كان يمشي على قدميه إلى دار المحفوظات بالقلعة بضعة كيلومترات توفيرًا للنفقات، يعكف فيها على قراءة الصحف والمجلات القديمة ليخرج برسالة رائدة وأصيلة تؤرخ للحركة المسرحية في مصر راصدًا في هذا الكتاب الخطوط التي أدركها نقاد المسرح وكتابه في تلك الفترة الزمنية. ثم أكمل رحلته العلمية موجهًا جهوده للنقد المسرحي بعدة دراسات منها العرب وفن المسرح، والأسطورة والمسرح الذي كان في الأصل أطروحته للدكتوراه وحظيت بحفاوة كبيرة وكانت تدرس في أقسام الفلسفة، كما أنه أصلَّ للمسرح الشعري في كتابه المسرحية الشعرية ، ثم اتجه إلى الفنون الأدائية الشعبية خاصة السير الشعبية وأسهم فيها اسهامات بارزة بكتب تعد عمدة في بابها ولا يمكن لأي باحث في الأدب الشعبي أن يستغني عنها مثل كتابه مولد البطل في السيرة الشعبية، والنبوءة ومولد البطل وذلك بخلاف عشرات الكتب والدراسات حول الشعر والرواية العربية منها كتابه المتفرد صانع الأسطورة الطيب صالح.

الشجاع 

عرفت الدكتور شمس الدين شجاعًا يدافع عن زملائه عام 1960م أمام طه حسين الذي غضب منهم لأنهم لم يعرفوا نسب حسان بن ثابت الأنصاري الذي ينتمي إلى قبيلة الخزرج، وعدَّ العميد ذلك علامة من علامات تدني مستوى الطلاب في الجامعة وقرر عدم العودة إلى التدريس ولكنه عاد في النهاية بعد تدخل العديد من الأساتذة واستطاعوا أن يقنعوه بالعدول عن رأيه، وفي المحاضرة التالية واصل تقريع الطلاب فوقف شمس الدين الحجاجي مدافعًا عن زملائه قائلًا فيما قال، إن عدم معرفتهم لنسب حسان بن ثابت ليست معيارًا على مستواهم العلمي، وأن جميع هؤلاء الطلاب يناضلون من أجل لقمة العيش ومع ذلك يصرون على إكمال دراساتهم العليا في الجامعة فهم بحاجة إلى المساندة والدعم والتوجيه، فما كان من عميد الأدب العربي أن قال له (إني أعلم ذلك، وإن كنت قد نسيته) ثم سأل الحجاجي عن اسمه فقال له أحمد شمس الدين الحجاجي، فقال له العميد إنه يعرف شخصًا بذلك الاسم يدعى «شمس الدين الحجاجي» كان يقرأ له ممن كانوا يقرأون له إبان دراسته في الجامع الأزهر، فأخبره الحجاجي أن ذلك هو أبي، وحين عاد إلى الأقصر سأل والده لماذا لم يخبره أنه كان صديقًا لطه حسين فرد عليه أبوه (مالك وما لأصدقائي فهم أصدقائي لا أصدقاءك أنت) ليرسخ في ابنه قيمة الاعتماد على النفس. 

عرفت الدكتور شمس الدين الحجاجي شجاعًا في ذلك الموقف الذي حكاه لي عما جرى بينه وبين صديقه الدكتور نعمان القاضي (توفي: 1983) - وكان يردد اسمه كثيرًا ويذكره بمحبة شديدة - إذ رآه واقفًا أمام المبنى الرئيسي للجامعة وحين اتجه نحوه ليسأله عن سر وقوفه أخبره أن الدكتور سهير هي من فعلت ذلك ونصحه نعمان بأن يذهب بعيدًا عنه حتى لا تراه واقفًا معه فيؤثر ذلك على علاقة شمس بأستاذته سهير وربما يؤدي ذلك إلى تعطيل مناقشته للماجستير فعلم الدكتور شمس من ذلك الحديث أن هناك خلافًا كبيرًا بين سهير ونعمان القاضي، ورفض أن يغادر المكان ووقف مع صديقه حتى جاءت الدكتورة سهير فتقدم ناحيتها وبأسلوب الدكتور شمس الحكيم نجح في حل مشكلة صديقه معها التي كانت تبدو عصية على الحل.

الديمقراطية

عرفت الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي المولع بالديمقراطية والحرية ولا يرى أن هناك سبيلًا لتقدم مصر دون وجود حياة ديمقراطية سليمة، وكان يرى أن نظام الملكية البرلمانية هو النظام السياسي الأفضل لمصر على غرار نظام الحكم في إنجلترا. وكان يرجع غياب الحركة المسرحية في مصر وضعفها إلى غياب الحرية فبدون وجود الحرية لا يوجد مسرح حقيقي.

ورغم أن عمره كان قد تجاوز السبعين حين اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير إلا أنه شارك فيها ووقف في ميدان التحرير وهتف مع المتظاهرين مطالبًا بالحرية وخطب على منصة التحرير محذرًا الشباب من الكثير من الأخطاء التي من الممكن أن يقعوا فيها إذا تركوا الميدان بعد تنحي مبارك، وحثهم على الإصرار على وجود حكم مدني لمصر لكن الكثير من الأخطاء التي حذر منها حدثت بالفعل بعد ذلك.

الأقصري

عرفت الدكتور شمس الدين الحجاجي الذي لم ينس جذوره ولا أهله ولم تأخذه القاهرة عن ناسه، فقد ظل شديد الانتماء إلى الأقصر كثير الحديث عنها، كيف لا وهو عميد الحجاجية ويقام بشكل سنوي مولد لجده أبو الحجاج الأقصري. وقد كان هذا الانتماء إلى جذوره واحد من أهم الأسباب التي دفعتني للسعي كي أكون مريدًا في مدرسته، وكانت تلك واحدة من أكثر المناطق خصوصية في الحديث بيننا كأبناء لمحافظة واحدة كان يحكي لي عن تاريخ الأقصر التي عاشها في طفولته وكما سمع عنها من أبائه وأجداده ويحكي لي عن مدينة إسنا التي أنتمي إلى أحد قراها كاشفًا لي تاريخ هذه المدينة وكما كانت مدينة عظيمة.

المبدع

عرفت الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي مبدعًا غير عادي كتب روايته الأيقونية سيرة الشيخ نور الدين، لكنه أعدم قبلها ثماني روايات رأى أنها غير جديرة بالنشر دون أن يطلع عليها أحدًا، وكذلك فعل مع المسرح إذ نشر مسرحية واحدة وهي الخماسين من بين العديد من المسرحيات التي كتبها دون أن ينشرها، فقد كان حسه النقدي لنفسه شديد الصرامة وحرم المكتبة العربية من الكثير من أعماله الإبداعية ولم يسمح لها بأن ترى النور، فقط روايته سيرة شيخ نور الدين التي بدأ كتابتها في أمريكا في أواخر الستينيات التي أفلتت من قبضته الحديدية وأعاد كتابتها أكثر من مرة ثم أعطاها إلى صديق له فقرر نشرها منجمة في إحدى المجلات ثم صدرت مجمعة في كتاب، وربما لو فعل هذا الصديق لما رأت هذه الرواية النور أيضًا وحين تحولت إلى مسلسل تلفزيوني باسم «درب الطيب» بطولة هشام سليم وروجينا حققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، وأخبرني أن بطلة المسلسل روجينا تواصلت معه لتخبره أنه لم تشارك في عمل من قبل ومر بمثل هذه السلاسة واليسر والتوافق بين الجميع مثلما هو الحال في المسلسل المأخوذ عن روايته.

أما عن مسرحيته فعندما قُدِّمت على خشبة المسرح على مسارح الثقافة الجماهيرية وعرضت في نجع حمادي حققت نجاحًا جماهيريًا ضخمًا وكان يتزاحم الناس لمشاهدة العرض.

ولم يبتعد الحس الإبداعي عن أعمال الدكتور شمس الدين الحجاجي النقدية، إذ حملت الرؤية الإبداعية نفسها دون أن يقلل ذلك من قيمتها العلمية الأكاديمية فقد كان الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي مبدعًا بالفطرة والتجربة في جميع مناحي حياته.
----------------------------------
من المشهد الأسبوعية