26 - 06 - 2024

عصر الاكتشافات العلمية

عصر الاكتشافات العلمية

على قدر أفكار وأعمال العلماء تتحقق أحلامهم.. وإنجاز الوكالة الأوروبية "سيرن" يفجّر سيلا من التساؤلات العلمية..

منذ ما يقرب من القرن، يعتقد علماء الفيزياء أن المادة التي نعرف صورتها في الكون على هيئة مجرات ونجوم وكواكب وسدم وأجرام وغبار سماوى لا تمثل كل المادة الموجودة، بل ما نراه لا يمثل سوى 4 % فقط من مادة الكون الكلية، أما 96%  المتبقية فهي غير مرئية أو إن شئت قل (معتمة).. أو ما يطلق عليه إصطلاحا علميا المادة المظلمة للكون.. ولا أحد من العلماء يعرف طبيعة هذه المادة المعتمة المظلمة.. ومايزال العلماء يبحثون منذ عقود طويلة للعثور عن تفسير سبب ذلك. 

وفي نهاية تسعينات القرن المنصرم أكدت أرصاد العلماء الفلكية أن الكون يتمدد ويسير في توسع دائم وثابت تحت تأثير طاقة مجهولة الهوية تمثل 70% من كثافة الطاقة الكلية للكون.. بينما كان العلماء على اعتقاد أن هناك ثمة شيئا مجهولا لم يُكتشف بعد.. جزءا فيما يسمى بالبازل الكوني .. وأن باكتشافه يمكن تفسير كل التساؤلات التي تشغل العلماء، وهذا ما تم بعد خمسين سنة من طرح هيغز لنظرية البوزون عام 1964. فالأمر الأكيد أن  إقتراح آليّة هيغز تم بأن هناك ثمة جسيم أولي يعتقد أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها حينما تنبأ الفيزيائي الاسكتلندني بيتر هيغز بوجوده في إطار النموذج الفيزيائي القياسي الذي يفترض أن القوى الأساسية قد انفصلت عند الإنفجار العظيم ، وكانت قوة الجاذبية هي أول ما انفصل ثم تبعتها بقية القوى.

وكان لاكتشاف مختبر "سيرن CERN " بمركز البحوث والدّراسات النوويّة، بالمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية حيث مختبر فيزياء الجسيمات مترامي الأطراف في منطقة الحدود السويسرية الفرنسية المشتركة قرب جنيف.. والذي يعتبر أكبر مجمع للأبحاث العلمية في العالم وأكثرها تكلفة.. على عمق مئة متر تحت الأرض وتشارك فيه إحدى وعشرون دولة.. الإعلان عن أحدث اكتشافاتهم وهو الوجود الفعلي لما يطلق عليه"جسيم أو بوزون هيغز Higgs Boson " .. كما يعرف نظريا. وهو جسيم افتراضي مساعد لتماسك مكونات المادة، إذ ذكر عالم الفيزياء الإسكتلندي «بيتر هيغز» قبل ثلاثة عقود من الزمن أنه يساعد على إلتحام المكونات الأولية للمادة ويعطيها تماسكها وكتلتها.. وهو الذي طالما حلم العلماء برؤيته لكثرة ما كانوا مؤمنين بوجوده المفترض، هو الإكتشاف الذى اعتبر معادلا في أهميته لاكتشاف الحمض النووي (دي إن إيه DNA)... في رحلة البحث عن المجهول، عن الجُسَيم الأسطوريّ الّذي يفسّر أصل كتلة الكواركات واللبتونات في نظريّة النموذج العياريّ وبصفة أدّق كتلة الجُسَيمات الناقلة للقوى، وللتوصل إلى إكتشافات تفسر لنا ألغاز وغوائب الكون.. 

الغريب أن هذا الجسيم الأولي الإفتراضي ثقيل، بدرجة أن كتلته تزيد نحو مائتى مرة على كتلة البروتون، فهو أثقل بوزون إكتُشف في مسرّع للجُسَيمات ويشاهد آثار وجوده داخل المكشافَيْن العملاقين بالمصادم الكبير للهدرونات. ويُعتقد طبقا لهذه النظرية أن البوزون بأنه المسؤول عن طريق ما ينتجه من مجال هيجز عن حصول الجسيمات الأولية كتلتها، مثل الإلكترون والبروتون والنيوترون وغيرها . وتحديدا كانت هناك إشارات سلفا قد رصدت الوجود العملى لهذا الجسيم أو البوزون فيما يعرف بمصادم الهادرونات الكبير LHC  الذى تم تشيده فى  فترة مضت بين عامي 1998-2007 حيث تصل فيه سرعة البروتونات إلى سرعة الضوء تقريبا.. ويعتبر مصادم الهدرونات الكبير هو أقوى مسرِّع للجسيمات في العالم.. وهو مجمع ضخم من المغناطيسات الحلقية العملاقة والأجهزة الإلكترونية المعقدة والحاسبات وتكلف إنشاؤه عشرة مليارات دولار.. ويصل عمره الإفتراضي إلى عشرين عاما. 

يتم في هذا المصادم دراسة وتحليل نتائج التجارب التى أجريت بالمختبر لتحديد هويّة البوزون، بطريقة أكثر وضوحا، فى ظروف تماثل على مستوى مصغر، للحظة الزمنية للانفجار العظيم وبعدها، والتي يُعتقد أن بوزونات هيغز تكونت عندها. وهى أضخم تجربة علمية في العالم باستخدام مصادم الهدرونات تحاول محاكاة الانفجار الكبير، العملية التي يعتقد العلماء أنها أدت إلى خلق الكون.. تجربة قامت على إحداث تصادم بين حزمتي جسيمات من البروتونات تسيران في إتجاهين متقابلين في مسار بيضاوي داخل نفق طول محيطه سبعة وعشرين كيلومترا في مصادم الهدرونات الكبير.. وبكم طاقة يصل الى ثلاثة ونصف تريليون إلكترون فولت في الإتجاه الواحد لمحاكاة الظروف التي أعقبت الانفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون منذ حوالى أربعة عشرة مليار عام.. وبغية العثور على ذلك الجسيم بفضل الطاقة الهائلة المحررة في المصادم ومن جراء عملية التصادم أمل الفيزيائيون إظهار هذا البوزون الغامض المراوغ وطبيعته ورصده عمليا والعمل على محاصرته. 

وكان العالم الفيزيائى "بيتر هيغز Peter Higgs " قد تنبأ عام 1964 بوجوده في إطار النموذج الفيزيائي القياسي الذي يفترض أن القوى الأساسية انفصلت عند الانفجار العظيم The Big Bang .. فقوة الجاذبية هي أول ما انفصل ثم تبعتها بقية القوى.. بينما كانت كتلة بعض الجسيمات صفرا مثل الفوتونات..، أما بقية الجسيمات الأولية مثل (الإلكترونات والكواركات) فكان لها كتلة . ووفقا لهذه النظرية يُعتقد أن البوزون هو المسؤول عن اكتساب الجسيمات الأولية لكتلتها من خلال ما يعرف بمجال "هيغز" الذي ظهر بعد الانفجار العظيم حيث تشكلت الذرات ثم الجزيئات ثم المادة برمتها كما نعرفها اليوم واقترح بيتر هيغز فكرة تقول أن الفراغ الكونى ـ الذي هو ليس فارغ حقا ـ غارق في حقل أو مجال موجود في كل مكان وتوقع أن العلماء سوف يتوصلون آجلا أم عاجلا لاكتشاف هذه البوزونات.. فهيغز هو المكون الأخير والحاسم من النموذج القياسي لسير عمل الكون في الجسيمات.. ببساطة إثبات وجود جسيم أو بوزون هيغز يعني أن كل آلية إكتساب الجسيمات لكتلتها التى بيّنها العلماء أصبحت صحيحة، فمن المحتمل أن يكون بوزون هيغز هو الذي يعتقد أنه السبب في تفسير كتلة الجسيمات الأولية.  

ويرى خبراء الفيزياء وعلماؤها أن نتائج البحث عن بوزون هيغز في غاية الأهمية لإستكشاف خلق الكون، لأن هذا الجسيم الأولي يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها..والجسيمات التي يعتقد أنها السبب الرئيسي والأنقاض، التي تشكلت بعد الإنفجار الكبير والتى تحولت إلى النجوم والكواكب فهذا الجسيم هو المكون الأخير والحاسم من النموذج القياسي لسير عمل الكون في الجسيمات.

وعلى هذا يعتبر إكتشاف هذا الجسيم الذى ثبت أخيرا وجوده من أعظم الاكتشافات العلمية فى التاريخ، فى مفترق طرق مرحلة جديدة لمشاهدة هذا الجُسَيم الجديد حتى يتبين الطريق الذي يجب على العلماء تتبعه في المستقبل لفهم ما يشاهدونه  من معطيات نحو فهم الطبيعة أمام جهل الإنسان وهم يعتقدون الآن أنهم أقرب إلى هذا الهدف.. مما يفتح الآفاق لدراسات معمّقة لرفع النّقاب عن أسرار أخرى للعالم فى هذا الكون الذى لم يخلق بمحض الصدفة.. فى الوقت الذى برز فيه التساؤل عما إذا كان سوف يستغل هذا الجسيم الغريب يوما ما في تصميم أسلحة جديدة للتدمير الشامل، أم على العكس سوف يجلب للبشرية معرفة معمقة تساعد على إنقاذ العالم من مشكلاتها ومآسيها؟..

ولا شك أن الأبحاث الخاصة بفيزياء الجسيمات لن تتوقف عند بوزون هيغز، فثمة مسائل أخرى لا تزال عالقة كمسألة عدم التناسق أو التناظر بين المادة والمادة المضادة، فضلا عن أن العلماء يبحثون عن جسيمات أخرى مثل الجرافيتون المسؤول عن الجاذبية ويعتبر وجوده حتى الآن افتراضيا مثلما كان بوزون هيغز. وإيجاد هذا الجسيم لا يقل أهمية عن بوزون هيغز، بل يمكن أن يكون أكثر أهمية وإثارة لأنه سيساهم في التأكيد على نظرية الجاذبية الكمومية وخطوة نحو توحيد القوى الأربع الأساسية في الكون وهو حلم يتطلع علماء الفيزياء الفلكية إلى بلوغه لعلهم يعرفون ما حدث لحظة الانفجار العظيم. 

وهذا يعني أن النموذج الفيزيائي القياسي الحالى لا يمثل النظرية النهائية بل لا يفسر إلا الجزء المرئي البسيط من الكون فى ظل وجوب العودة قليلا للغوص في عالم جسيمات آينشتين Einstein والعالم الكوانتي أو الكمومي بغية إدراك حقيقة وأهمية مثل هذا البوزون. . وربما هذا هو السبب المباشر نحو السعى لنظرية علمية تفسر كل شئ Theory of Everything وهذا موضوع آخر بعيدا عن عالم ما زال ينظر تحت قدميه، لا يتخطى موضعها.. فكوكب الأرض وما يحدث فيها وعليها ببحارها وفيافيها ومحيطاتها وجبالها وأوديتها وسهولها وأناسيها ومخلوقاتها ودوابها.. كل ذلك فى ميزان الكون العظيم وخلق الله لاشئ.. فسبحان الذى أحاط بكل شئ علما.. يخلق ما لا نعلم .. القادر على كل شئ.. أقسم بما نبصر وما لانبصر وبمواقع النجوم.. سبحان الخلاق البديع.. فاطر السموات والأرض وما بينهما.. وسع كل شئ علما.
----------------------------
بقلم: خالد العرفي

مقالات اخرى للكاتب

مصر كنانة الله في أرضه





اعلان