26 - 06 - 2024

وَحْشِيَّةُ الغَرْبِ

وَحْشِيَّةُ الغَرْبِ

لم تكنِ الحربُ الدَّمويَّةُ الضَّروسُ -التي تدورُ رَحاها في غَزَّةَ العزَّةِ حتَّى السَّاعةِ- كاشفةً القناعَ عن الهمجيَّةِ الصُّهيونيَّةِ، فاضحةً أخسَّ وأحطَّ، وأنجسَ وأخبثَ، وأحقرَ وأصغرَ مَنْ يمشي على قدمٍ في عالَمِنا المُعاصرِ فحسبُ، ولكنَّها أماطتْ لثامًا من الزَّيفِ والتَّدليسِ طالما تقنَّعَتْ به الدُّولُ الغربيَّةُ، مُدَّعِيَةً في الوقتِ نفسِهِ أنَّها النَّموذجُ الأرقى للسُّموِّ الحضاريِّ، وأنَّها المثلُ الأعلى الذي ينبغِي أنْ يَحتذِيَهُ مَنْ شاءَ أنْ يترقَّى في مَدارجِ الإنسانيَّةِ، مُسْدِلَةً ستارًا زائفًا على تاريخٍ أسودَ من الهمجيَّةِ والوحشيَّةِ.

وقد هَمَمْتُ أنْ أخُصَّ كلَّ دولةٍ من أكابرِ المُجرمينَ بخاطرةٍ، تكشفُ القِناعَ عن وجهِها القبيحِ، وتضعُ الأحداثَ في مِيزانِها الصَّحيحِ، وتُصحِّحُ تلكَ الصُّورةَ الزَّائفةَ التي تُروِّجُها الآلةُ الإعلاميَّةُ الغربيَّةُ، وتعزفُ على قيثارَتِها بينَ ظَهرانَيْنا أفواهٌ وأقلامٌ خسيسةٌ مُستأجرةٌ، ولكنِّي وجدتُ الحديثَ ذا شُجونٍ طويلَةِ الذُّيولِ، ويقيني أنَّ الإسفارَ عنها يحتاجُ إلى أسفارٍ، وأنَّ الإمعانَ في تفاصيلِها يَستغرقُ الأعمارَ، فقلتُ: حسبُكَ من القلادةِ ما أحاطَ بالعُنُقِ، وطَفِقْتُ ألخِّصَ بعضَ ما في جَعْبَتِي في هذهِ الخاطرةِ، التي لا بُدَّ أنْ أقدِّمَ بينَ يديْها ثلاثَة أمورٍ:

الأوَّلُ: ليسوا سواءً: فليسَ من الإنصافِ أنْ نضعَ جميعَ الغَربيِّينَ في سَلَّةٍ واحدةٍ، ففيهمْ نماذجُ أزْكَى نفسًا، وأسْمَى خلقًا، وأتمَّ مروءةً منْ كثيرٍ من الأعرابِ المُعاصرينَ، وما تلكَ الهَبَّةُ العاصفةُ من المظاهراتِ العارمةِ التي تشهدُها الجامعاتُ الغربيَّةُ الآن إلَّا دليلٌ على ذلكَ التَّبايُنَ الملحوظِ، وهل ثمَّة عاقلٌ يُسوِّي بينَ أبي جَهْلٍ، وعبدِ الله بنِ جدعانَ، أو بين عُقْبةَ بن أبي مُعْيْطٍ، والمُطْعِمِ بن عديٍّ؟!

الثاني: لنْ أخوضَ في لُجَجِ التاريخِ القديمِ، الذي يَكتنِفُهُ كثيرٌ من الغموضِ، كما تَشوبُهُ مُبالغاتٌ وادعاءاتٌ جمَّةٌ، ابتداءً من دمويَّةِ الحضارةِ الرُّومانيَّةِ، ومرورًا بغاراتِ (الفايكنج) الهمجيَّةِ، وانتهاءً بفظائعِ الحروبِ الصليبيَّةِ، حيثُ لم تكنِ الحدودُ بينَ الدُّولِ الغربيَّةِ كما هي الآنَ، وإنَّما أركِّزُ على إجرامِ الدُّولِ الغربيَّةِ أثناءَ ما يُعرفُ بالحقبةِ الاستعماريَّةِ، مع التَّسليمِ بأنَّهم وَرثةُ ذلك الإجرامِ القديمِ صاغرًا عن صاغرٍ.

الثَّالثُ: ليستِ الهمجيَّةُ الغربيَّةُ مُجرَّدَ تَصرُّفاتٍ فَرديَّةٍ، ولكنَّها ثقافةٌ راسخةٌ، تجري منهم مَجرى الدَّمِ في العُروقِ، فتحمِلُها تلك الجيناتُ الوراثيَّةُ المُلوَّثةِ بكلِّ النقائصِ الخُلُقيَّةِ، وحسبُكَ أنْ تسمعَ الأديبَ الفرنسيَّ الشهيرَ فيكتور هوجو (1802-1885م)، الذي قد تبكي من فرطِ إنسانيَّتِهِ، وأنت تقرأُ له رِوايةَ: (البُؤساء)، ولكنَّه كان يُردِّد أيامَ الاحتلالِ الفرنسيِّ للجزائرِ: (اذْبَحُوا الأمَّةَ الملعونةَ)! تشجيعًا للجُنْدِ على الإمعانِ في سفكِ الدِّماءِ، ولذلك ليس من المقبولِ وصفُ الغربِ بالحضارةِ، وإنَّما هي مَدَنِيَّةٌ ماديَّةٌ، تخطفُ الأبصارَ بالتقدُّمِ العلميِّ، والتطوُّرِ الصِّناعيِّ، ولكنَّها قامتْ على العُنصريَّةِ العمياءِ، وسفكِ دِماءِ الأبرياءِ، وسلبِ ثرواتِ المستضعفينَ الفقراءِ، كما تجرَّدتْ من سموِّ الجانبِ الرُّوحِيِّ الإنسانيّ، الذي هو قسيمُ الجانبِ الماديِّ، في التحليقِ بالحضارةِ الصَّادقةِ إلى مَعارجِ الخُلودِ.

وسبيلي أنْ أذكرَ سَبعًا من الدُّولِ الغربيَّةِ، تُمثِّلُ أكابرَ المُجرمينَ، مُشيرًا إلى غيضٍ من فيضِ إجرامِهمْ، الذي يُذهلُ الجَنانَ، ويَعقدُ اللِّسانَ، وهذه الدُّولُ هي:

(1) إسبانيا: وإنَّما بدأتُ بها؛ لأنَّها أوَّلُ مَنْ بدأَ ما يُعرفُ بالكشوفِ الجغرافيَّةِ، وما كانتْ إلَّا حركةً صليبيَّةً لِتطويقِ العالمِ الإسلاميِّ من أطرافِهِ، بعدما عجزوا عن اختراقِه من القلبِ، وقد بدأتْ إثرَ طردِ المسلمينَ من الأندلسِ، وارتكابِ أعظمِ المجازرِ وحشيَّةً في تاريخِ البشريَّةِ، فيما عُرِفَ بِمحاكمِ التفتيشِ، التي لا تزالُ بعضُ وسائلِ التَّعذيبِ فيها باقيةً حتَّى اليومِ في المتاحفِ؛ لِتكونَ شاهدًا على إجرامِهم وتوحُّشِهمْ. وبعدَ اقترافِ تلكَ المجازرِ المروِّعةِ انطلقوا في آفاقِ العالمِ، فارتكبوا فظائعَ في الفلبِّينِ التي رزحتْ تحتَ احتلالِهم قُرابةَ أربعةِ قرونٍ، وقد غيَّروا اسمَها؛ ليكونَ مأخوذًا من اسم مَلِكِهم آنذاكَ (فيليب الثاني)، كما غيَّروا اسمَ العاصِمةِ من (أمان الله) إلى (مانيلا)، فضلًا عن إجبارِهم أهلَها على اعتناقِ المسيحيَّةِ على المذهبِ الكاثوليكيِّ، وقد كانَ معظمُهم من المسلمينَ، وقد مارسوا أبشعَ أنواعِ الإرهابِ هناكَ خلالَ تلك القرونِ، وزادتْ جرائِمُهمْ بعدَ اشتعالِ الثورةِ ضِدَّهم، ولم يكنْ إعدامُهم للزَّعيمِ الشَّابِّ (خوزيه ريزال) عام 1896م إلَّا وَقودًا زادها اشتعالًا؛ حتَّى خرجَ آخرُ جنودِهمْ عام 1899م، ومن يومِها بدأ نجمُ إسبانيا يأفلُ، بعدما كانتْ إمبراطوريَّةً عُظْمَى.

(2) بريطانيا: وهي أمُّ الخَبائثِ بلا مثنويَّةٍ، فما من مُشكلةٍ حدوديَّةٍ إلَّا ووراءَها أيادِيها الخبيثةُ، وسَرْدُ جرائمِ الإنجليزِ في البلادِ التي احتلوها يحتاجُ إلى مُجلَّداتٍ، فقد كانتْ تلك الجُزرُ الصَّغيرةُ النائيةُ تحتلُّ قُرابَةَ نصفِ العالمِ المعمورِ، وكانتْ تُسمَّى الإمبراطوريَّةَ التي لا تَغيبُ عنها الشَّمسُ، ولكنَّها في بدايةِ توسُّعِها ارتكبتْ جريمتَيْنِ من أشنعِ جرائمِ الإبادةِ الجماعيَّةِ في التاريخِ، الأولى: إبادةُ الهنودِ الحُمْرِ في أمريكا، حيثُ كانوا يَروْنَهم من الوحوشِ ومَصَّاصي الدِّماءِ، وقد قُدِّرَ عددُ الهنودِ الحُمرِ عام 1500م بما بينَ 10-100 مليونِ إنسان، لكنَّ المحتلَّ الأبيضَ قضى على 95% منهم، ولم يبقَ منهم اليومَ إلَّا أربعةُ ملايينَ! والثانية: إبادةُ السُّكانِ الأصليِينَ في أستراليا، والذينَ يُعرفونَ بالأبورجيني (Aborigine)، حيثُ كانوا يَستعبِدُونهم، ويستخدمونَهم في جرِّ العَرباتِ مثلَ الحيواناتِ، كما تركوهم فريسةً للأمراضِ المُعدِيَةِ، حتَّى تمَّ القضاءُ على 90% منهم، والباقونَ منهم اليومَ لا يَتجاوزونَ 3% من جملة السُّكانِ، على نحوِ ما شرحَ الكاتُب الأستراليُّ (كليف ترونبل) في كتابِهِ: الحربُ السَّوداءُ (Blak war)، عِلمًا بأنَّ أغلبَ أولئكَ القتلةِ كانوا من عُتاةِ المُجرمينَ، وقد اختارتْ بريطانيا تلكَ البقعةَ القصيَّةَ؛ لتكونَ سجنًا لهم، أو منفًى أبديًّا لا يَستطيعونَ الإيابَ منه.

(3) فرنسا: وهي أعظمُ الدُّولِ إجرامًا، وبخاصَّةٍ في القارَّةِ الأفريقيَّةِ، حيثَ ارتكبتْ جرائمَ ضدَّ الإنسانيَّةِ في كلِّ مكانٍ نزلتْ فيه، وَبَنَتْ تلك الحضارةَ المَزعومةَ على كُثبانٍ من جماجمِ الضَّحايا الأبرياءِ، ولعلَّ أعظمَ أوزارِهمْ ما اقترفُوهُ في الجزائِرِ، التي رزحتْ تحتَ نيرِ احتلالهمْ أكثرَ من 130 عامًا، وقد استفتحوها عام 1830م بمجزرةِ مسجدِ (كشتاوة)، الذي أرادوا أنْ يُحوِّلوهَ إلى كنيسةٍ، فرفضَ السُّكانُ، واعْتَصَمُوا بالمسجدِ، فَقصفُوهُ، وهَدَمُوهُ على رُؤوسِ المُعتصمينَ، فَقُتلَ في هذهِ المَذبحةِ المُروِّعة أربعةُ آلافِ مُصَلٍّ في دقائقَ معدودةٍ، ولمَّا اشتعلتِ الثورةُ الجزائريَّةُ الخالدةُ أمعنَ المجرمونَ في ارتكابِ مجازرِ جماعيَّةٍ، ارتقى فيها قرابةُ سِتَّةِ مَلايينِ شهيدٍ، لم يتركْ فيها أولئك المجرمونَ سبيلًا إلَّا سَلكُوهُ، ولعلَّكَ سَمعْتَ عن إذابةِ أجسادِ رموزِ المُقاومةِ، على نحو ما فعلوا بالشيخِ العربي التّبسيّ، الذي ألقَوْهُ حيًّا في قِدْرٍ من الزَّيتِ المَغليّ، وقد فعلوا مثلَ هذا في تونس والمغرب وسوريا، بالإضافةِ إلى مالي وتشاد ومدغشقر. وأغلبُ التقاريرِ تُشيرُ إلى تورُّطِ فرنسا في مذابحِ (الهوتو والتوتسي)، التي وقعتْ في رُواندا وبُوروندي عام 1994م، والتي راحَ ضِحيَّتَها قرابةُ مليونِ إنسانٍ في بضعةِ أسابيعَ فقط! وإن شئْتَ دليلًا على تأصُّلِ الإجرامِ فيهم، فاذهبْ إلى ما يُسمُّونَهُ (متحف الإنسانِ) في باريس، والذي أُسِّسَ عام 1937م، ويَضمُّ آلافَ الجماجمِ من الضَّحايا، الذين قاموا بِمقاومةِ احتلالِهم، منها جُمجمةُ البطلِ السُّوريِّ الطَّالبِ الأزهريِّ سُليمانَ الحلبيِّ الذي قَتَلَ السَّفَّاحَ (كليبر) في القاهرِة عام 1800م، وقد أعدمُوهُ على الخازوقِ بطريقةٍ وحشيَّةٍ، ثمَّ حملوا رأسَه إلى فرنسا، ولا تزالُ باقيةً في ذلكَ المتحفِ إلى اليومِ، وقد كتبوا تحتَها (المُجرم)!

(4) أمريكا: وهي الشَّيطانُ الأكبرُ بلا مُنازعٍ، فبعدَ تَعافِيها من وَيْلاتِ الحربِ الأهليَّةِ الأمريكيَّةِ (1861-1865م) شرعتْ تَعيثُ فسادًا في دولِ الجِوارِ، وبخاصَّةِ دُولُ أمريكا الوُسطى والجنوبيَّة، فاستولتْ على ولايةِ (تكساس) من المكسيكِ، كما قامتْ بغزوِ نيكاراجوا وكوبا وتشيلي وبيرو وغيرِها، وفي الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ، انفردتْ حتَّى الآنَ بجريمةِ استخدامِ القنابلِ الذريَّةِ في قصفِ مدينتيْ: هيروشيما ونجازاكي اليابانيَّتيْنِ، وقد قُتلَ فيهما أكثرُ من 200 ألفِ إنسانٍ، ناهيكَ عن عشراتِ الآلافِ سواهمْ ممَّنْ كانتْ تُسوَّى مُدُنُهمْ بالترابِ. وبعدَ انتصارِها مع الحلفاءِ في الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ، تحولتْ إلى قوَّةٍ عُظمى، فانبعثَ أشقياؤُهم كالمجانينِ يُفسدُونَ في الأرضِ يَمنةً ويَسرةً، إذ انخرطُوا في حربٍ مديدةٍ في فيتنام، وهناكَ قتلوا ما يزيدُ على ثلاثةِ ملايينِ إنسانٍ، مُستعملينَ النابالم والأسلحةَ الكيماويَّةَ. وعلى أعيُنِنا وقعَ غزوُ العراقِ، الذي راحَ ضَحيَّتَهُ قرابةُ نصفُ مليونِ قتيلٍ، ثم غزوُ أفغانستانِ في احتلالٍ دام عشرينَ عامًا، راح ضحيَّته قرابةُ ربعِ مليونِ قتيلٍ، ناهيكَ عن الذينَ قَضَوْا بسببِ الجُوعِ والأمراضِ وغيرهما. وقد كانتْ أمريكا -ولا تزالُ- الدَّاعمَ الأكبرَ للصَّهاينةِ منذُ زَرْعِ هذا السَّرطانِ الخبيثِ في المنطقةِ، وما الجسرُ الجويُّ المُتواصلُ الآنَ لِدعمِ الكيانِ الغاصبِ إلَّا فصلٌ من فصولِ هذا السِّفرِ الأسودِ في موسوعةِ الإجرامِ.

(5) روسيا: ذلك الدُّبُّ المتوحِّشُ، الذي نشأَ على عقيدةِ الإبادةِ دُونَ رَحمةٍ، فقد ابتلعتْ دُولًا إسلاميَّةً كاملةً، صارتِ اليوم نَسْيًا مَنْسيًّا، منها: القرم والقوقاز، وتُركسان الغربيَّة (أمَّا تركستان الشَّرقيَّة، فإنَّ الصينَ تستولي عليها حتَّى اليوم)، وإبَّانَ حُكمِ الرَّجُلِ الحديديِّ (ستالين) تمَّ القضاءُ على 11 مليونِ مُسلمٍ في دول آسيا الوسطى، ومعظمها دولٌ إسلاميَّةٌ اغتصبَها الاتحادُ السُّوفيتيُّ، وفرضَ عليها أشنعَ سياساتِ الإجرام والتَّنكيلِ، وعلى أعيُنِنا رأيْنا الغزوَ الرُّوسيَّ لأفغانستانِ، الذي استمرَّ قرابةَ عشرِ سَنواتٍ (1979-1989م)، والذي قُتِلَ فيه أكثرُ من مليونَيْ مُسلمٍ، نِصفُهم كانَ في مطلع الغزوِ عام 1980م، كما رأينا طَرفًا من جَرائِمِهمْ في (الشِّيشانِ) في حربيْنِ عاميْ 1994م، 2006م، ولا تزالُ جِرائِمُهم تُسجَّلُ بالصَّوتِ والصورةِ في الحربِ الدائرةِ حتَّى السَّاعةِ في (أوكرانيا)، وقد هبَّ العالمُ بأسْرِهِ؛ ليفرضَ عليهم عقوباتٍ غير مسبوقةٍ؛ لأنَّ الضَّحايا من الأوربِيِّينَ البيضِ، أمَّا المسلمونَ فلا بَواكِيَ لهمْ!

(6) إيطاليا: يظنُّ بعضُ الناسِ أنَّ الإيطاليينَ أقلُّ إجرامًا من غيرهِم، مُنخدِعينَ بأسطورةِ (المُستعمرِ الطَّيِّب)، التي روَّجوا لها، حتَّى زَعمَ أحدُ كُتَّابهم أنَّ إيطاليا "لَمْ تقمْ سِوى بِمُهمَّةٍ لِنشرِ الحضارةِ، وجَلبتْ قِيَمَها من دونِ إراقةِ دِماءٍ، أو الاستيلاءِ على ثَرواتِ الشُّعوبِ الخاضعةِ لها". وهذا كلُّهُ إفكٌ مُفترًى، فكلُّهم سفَّاحونَ دَمَويُّونَ عُنصريُّونَ، وخيرُ مثال على ذلكَ ما ارتكبوه في ليبيا، حيثُ قام السَّفاحُ (موسوليني) بقتلِ ما يزيدُ على 150 ألفِ ليبيٍّ، وستبقى جريمةُ إعدامِ الشَّيخِ الجليلِ (عمر المختار) لعنةً تُلاحِقُ أولئكَ المُجرمينَ، وشاهدًا على ثباتِ الشَّيخِ وصُمودِهِ المتينِ. ويُضافُ إلى ذلكَ السِّجِلِّ الإجراميِّ قَتلُهمْ ما يزيدُ على 20 ألفِ مَدنيٍّ في إثيوبيا، مُستخدمينَ الأسلحةَ الكيماويَّةَ، وعلى رأسِها غازُ الخردَلِ في مُجزرةٍ مُروِّعةٍ عام 1936م، ولم يَسلمْ ما كانوا يُسمُّونَهُ بالصومالِ الإيطاليِّ من أعمالٍ إجراميَّةٍ، على رأسِها تِجارةُ الرَّقيقِ.

(7) بلجيكا: تلكَ الدَّولةُ التي لا تَكادُ تُرى على الخريطةِ بالعينِ المُجرَّدةِ، ومع ذلكَ احتلَّتْ دولةً تزيدُ عليها في المساحةِ بثمانينَ ضعفًا، وهي جمهوريَّةُ (الكونغو)، التي لم تكنْ مُجرَّدَ أرضٍ مُحتلَّةٍ، بل مِلكيَّةً خاصَّةً للملك (ليوبولد الثاني)، وهناكَ حوَّلوا الدَّولةَ إلى أرضٍ للأيادي المقطوعةِ؛ لأنَّ المُجرمينَ كانوا يُجبرونَ السُّكانَ على جمعِ حِصَّةٍ مُعيَّنةٍ من المطَّاطِ الطبيعيِّ، وتسليمِها بالمجَّانِ، فإنْ لم يفعلْ أحدُهمْ عُوقِبَ بقطعِ يَدِهِ، وإذا تمرَّدَتْ قريةٌ بكامِلِها على ذلك الأمرِ، فإنَّها تُبَادُ عن بَكْرَةِ أبيها، ويُقَدَّرُ عددُ مَنْ قتلهم المحتلُّونَ البلجيكُ من أهل الكونغو بما بين 10-15 مليونَ إنسانٍ، بما يُفوقُ عددَ ضحايا (الهولوكوست) عِدَّةَ مرَّاتٍ، ويُدرجُها ضمنَ أشنعِ المَجازرِ في تاريخِ الإنسانيَّةِ، وقد كتبتُ منذ أشهرٍ خاطرةً عن جريمةِ قتل الزَّعيمِ الكُونغوليِّ الشَّابِّ (بياتريس لومومبا)، وإذابَةِ جَسدِه في الحامضِ، حتَّى لم يبقَ منه إلَّا ضِرْسُه، الذي عاد إلى البلادِ منذ نحو سنتيْنِ، ووُضِعَ في ضَريحٍ مهيبٍ، فكتبتُ عن ذلك خاطرةً بعنوانِ: (ضِرْسُ لومومبا).

وختامًا، فما أكثرَ ما تلوكُ ألسنةُ الغربيِّينَ والمُستغربينَ وصفَ المسلمينَ بالإرهابِ، ولو أنصفوا لأدركوا أنَّهُ صِناعَتُهم منذُ أقدمِ العُصورِ، وأنَّ مَنْ يَرفعونَ رَاياتِ التحضُّرِ والإنسانيَّةِ هم أبعدُ الناسِ عنها قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، وأنَّ ما تَقومُ به العِصاباتُ الصُّهيونيَّةُ اليومَ هو كِفلٌ من ذلكَ الميراثِ النَّجسِ، الذي توارثُوهُ صاغرًا عن صاغرٍ، فلا جرمَ أنْ تُدافِعَ الدُّولُ الغربيَّةُ عن تلكِ الجرائمِ الوحشيَّةِ، فالشيءُ من مَعْدِنِه لا يُستغرَبُ، وما أمرُهم في ذلك الدِّفاعِ إلَّا كمَا قال الأوَّلُ:

ذَهَبَ الرِّجَالُ المُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ   *   وَالمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ

وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ يُزَكِّي بَعْضُهُمْ   *   بَعْضًا؛ لِيَدْفَعَ مُعْوِرٌ عَنْ مُعْوِرِ

*       *       *
-----------------------------
بقلم: د. مصطفىٰ مُحمد رِزق السّواحليّ*
* الأستاذ بجامعة: السّلطان الشّريف عليّ الإسلاميّة بسَلطنة بروناي دارِ السّلام

مقالات اخرى للكاتب

شُوَاظٌ وَأَخَوَاتُهَا





اعلان