29 - 06 - 2024

كوم شفيقة .. قصة قصيرة يكتبها: محمد فيض خالد

كوم شفيقة .. قصة قصيرة يكتبها: محمد فيض خالد

رُبَّما لم يخطر بباِل " شفيقة " المُعدمة أنَّها ستصبح بمرورِ الوقت أشهر سيدات القرية، أشهر من امرأة العمدة ابنة محضر المحكمة "عبدالبديع أفندي العِتر" ، فالأيام حُبلى بالمفاجآت ، أمام غرفتها التي أكلتها الرطوبة ساحة كبيرة، يلقي الناس بكناستهم ، ولأنَّها فقيرة لاذت بالصَّمتِ ، اكتفت أن ترعى عنزاتها بقايا ما يُلقى ، لم أعرف متى اتخذ أطفال القرية كوم " شفيقة " مكانا للعب ، وناديا يجتمعون إليه في ليالي سهرهم ، وساعاتهم الطوال التي تَسبق السَّحور، تعتمد رأسها بيدها كالصغار تنتظر مثلهم مرور "أبو السعود المسحراتي" ، كي يُدفئ جلد طبلته السَّميك ، تهم متطوعة تجمع القش من فوقِ الكوم في حماسٍ تشعله ، تُمرّر يدها في أُنسٍ فوق وجهها ، وهي تُحوقل وتُبسمل داعية الله أن يجعلها أيام خير وبركة ، وأن يقدر لابنها "عبدالغني" الإعفاء من العسكرية. تَظل في انجذابٍ لقصصِ الصِّبيان إلى أن يتفرقوا في أعقابِ ضارب الطَّبل ، يُرددون خلفه أسماء أصحاب البيوت، " شفيقة " مَهيضة الجناح ، بلا عزوة ولا عشيرة ، بيد أنَّها ترى في ناس القرية أهلها ، لم تَتأفف يوما وهي ترى الرُّكام يتزايد من أمامها ، تُشيّعه بعيٍن مُنكسرة ، قائلة وهي تَهشّ على عَنزاتها وتحجِّز على فراخ الدجاج المبعثر فوق الكوم :"فضاء الله متسع للجميع". تَجرّأت يوما فأقامت جِدرانا من الّطينِ ، عرّشتها بحصيرٍ قديم ، وغرست إلى جوارها شجرة نبق، اتخذته مَوقدا وفُرنا للخَبيزِ ،ومن خَلفهِ غرفة كبيرة للتِّبنِ ومَربطا لبقرتها العَجفاء، مع الوقت تغافلت عن كلامها القديم ، يتَهلّل وجهها مع كُلِّ جدار تُقيمه حتى استولت على المكان ، لم يمهلها القدر، حين استيقظت ذاتَ صَباحٍ على جَلبٍة كبيرة ، رجالٌ غرباء في سياراتٍ رسمية ، جَاءَ بهم العمدة ومن خَلفهِ الخَفر، فردوا على عَجلٍ أدوات المساحة ، خَطَّطوا المكان بالجير، وثبتوا فوق الجُدران علامات حَمراء ، امتدت بعد أيام شهية الفؤوس لتلتهم جدرانها ، حتى ساوتها بالأرضِ ، نبشوا التراب وزرعوا أعمدتهم الخرسانية التي ملأت المكان، لازمت الصمت ، تَربَّعت أمام عتبها بوجٍه مُحتقن ، تَلعن أيام المدرسة والتعليم ، وتَسبّ العمدة ، انتهى العمل وبرز المبنى يَتلألأ في زَهوٍ تحت الشمس ، فاضت الفصول بصياحِ التلاميذ ، ورنين جرس نحاسي كبير لا يتوقف. رَجعتُ قريتنا بعد سَفرٍ طويل، لم أجدها ، سألت من أجابني بأنَّها مَاتت منذ عامين ، وجدوها مُلقاة تحتَ جدارِ المدرسة ، تَعلّقت بالُمحالِ ، أن يتركوا لها الكوم ، ترعى عنزاتها وتهش دجاجاتها ، لكن خَابَ ظنَّها ومات معها الأمل.
---------------------------
بقلم: محمد فيض خالد






اعلان