21 - 06 - 2024

معبد العلم!

معبد العلم!

في خضم تلك الأيام الساحرة التي كانت تعانق جمال كلية اللغة العربية في المنصورة، حيث تمتزج أرواح العلم والأدب في نسيج واحد، كنت أعيش حالة من الشوق العارم للقاء أحد عمالقة الأدب والتاريخ، الأستاذ المؤرخ الراوية محمد رجب البيومي (ت١٤٣٢هـ). 

كانت همساته الرقيقة التي تنبع من عمق تجربته ومعرفته في مقالاته الافتتاحية بــــ"مجلة الأزهر" ترتقي بروحي إلى آفاق أرحب وأعمق. كان يظهر في كلية اللغة العربية كالبرق الخاطف في مناقشات الرسائل العلمية أو في لحظات غير متوقعة، فكانت عيوني تسعى دومًا لالتقاط نظراته الرفيعة والعميقة. كانت رغبتي تتلخص في لمحة واحدة من وجهه النير، أو في مصافحة تجمع يدي بيده الطاهرة، تمنيتها بكلّ تواضع وشغف في حداثة سني. 

ورغم حماسي الكبير أبت الأقدار أن تمنحني لقاءه المباشر بسهولة. غير أن الإصرار كان دافعي، فبحثت عنه بلا كللٍ حتى قادتني الأقدام بفضل صدفة مباركة إلى داره الواقعة بشارع كلية الآداب في مدينة "المنصورة" الساحرة العامرة بالثقافة والفنون. لقاؤنا الأول كان مسرحًا لنغمات الاحترام والتقدير المتبادل، ولكنّه بكلّ لطفٍ اعتذر عن استقبالي ذلك الوقت بسبب انشغاله بكتابة مقالات وبحوث ملحة. أدركتُ صدق موقفه، فلعله ظن أني طالب غير مجد يضيع أوقات الأساتذة الثمينة. لكنني بروح لا تعرف اليأس، حاولتُ مرارًا وتكرارًا. وفي صباح مشرق بالأمل هالني إلهام عظيم بأن أرتدي عمامتي الأزهرية؛ معرفةً مني بعشق الأستاذ لها ولحملتها. ولما رآني بها كانت ردة فعله نابعة من احترام عميق، فدعاني إلى شقته بكل حفاوة وترحاب. 

بدأ حديثنا كنسيم صباح جديد، حيث طرح عليّ أسئلة بلطف عن دراستي وحياتي الأكاديمية وأساتذتي. وكلما تشاركنا الأسماء والقصص كانت ملامح الحب والتقدير تتضح على وجهه الكريم. وبعد ذلك انتقل لطرح أسئلة ذكية، محاولًا اختبار معرفتي بشكل غير مباشر، كأنه يسبر أغوار روحي بكلّ حنان ودقة. من هذا اللقاء الفارق نشأت بيننا رابطة المعرفة والتلمذة التي أعتز بها أيما اعتزاز. 

أفادني الأستاذ بنصائح جليلة حول فن الكتابة، وحثني على توسيع دائرة قراءاتي لتشمل ما هو أبعد من المحيط الأزهري، موجهًا إياي إلى آفاق أرحب في عالم الأدب والكتابة. كان الأستاذ محمد رجب البيومي يتخذ من مكتبته معبدًا للعلم ومنارة للفكر، حيث كان يعكف على القراءة والكتابة بشغف لا يعرف الكلل أو الملل. وفي هذا الفضاء المقدس لم يكن يعبأ بضجيج الدنيا أو يسعى خلف الأضواء الزائفة التي تتقافز في سماء الشهرة والمدح.  لقد كانت روحه متعلقة بجوهر الحياة الأسمى للكاتب، معتبرًا أن الكلمة هي عطاؤه الأبدي للإنسانية، وبهذا الإخلاص النابع من أعماق قلبه تمكن من خلق إرثٍ لا يُنسى من الأعمال العظيمة. 

هو من أعلام العصر المصلحين الذين يوضح الله بهم من قرن إلى قرن الأخلاق العلية وطرق الإنسانية، وخلاصة جيل النهضة الأدبية الحديثة بأسره الجامع بين الجامعتين الجامعة الأزهرية التراثية والجامعة الثقافية المعاصرة، وتطبيق صحيح لمدرسة "الرسالة الزياتية" الممتدة إلى المرصفي والرافعي، والمهتمة بالإنهاض باللغة العربية، والحفاظ على هويتها! 

كان أستاذنا البيومي متضلعاً في العلوم الشرعية والعربية كأكثر النابغين المتخرجين من الجامعة الأزهرية إلا أنني كنت أتعجب من سعة ثقافته، واتصاله بالحياة الثقافية العامة وأخذه مباشرة عن أولياء الثقافة بمصر، وتلخص لي أن تميزه عن غيره باعثه: القراءة الممتدة خارج المحيط الأزهري! ووجّه لي الأستاذ الأكبر نصيحة قيّمة بتوسيع دائرة قراءاتي والتواصل مع أهل العلم وأرباب الفكر المعاصرين؛ ليسهم ذلك في تعميق فهمي للحياة الثقافية، وتطوير رؤيتي نحوها. وبعيدًا عن الأضواء كان يحيا الأستاذ المرحوم بين طيات الكتب وصفحات المجلات، غير مبالٍ بالظروف التي قد تثني العزائم الأقل تصميمًا. لم يكن يرغب في مدح أو ثناء، لأن همه الأول والأخير كان ينصب على تأدية رسالته كمنارة هداية تنير طريق المعرفة. كان يرى أن الزمن الضائع في سعي الإنسان خلف المناصب والألقاب هو خسارة لا تعوض من رصيد حياته التي يمكن أن تثمر علمًا وأدبًا. 

وبفهمه العميق أن الإنسان يخلد بما يخطه قلمه رفض الأستاذ كل عروض المناصب والمكانة الاجتماعية التي قد تشتت تركيزه عن عالم الكتابة الذي اختاره لنفسه، فكان يدرك بحس فطري أن السلطان الحقيقي للإنسان هو ما يسطره من أفكار ومعانٍ، تتجاوز بها الحدود وتتخطى بها الأزمان. وقد تجلت حكمة موقفه بوضوح بعد رحيله، حيث ظهر الفارق الشاسع بينه وبين أولئك الذين طغت عليهم المناصب والألقاب، فنسوا أو تناسوا أن الحقيقة الأبدية للإنسان تكمن فيما يخلفه من آثار علمية وأدبية. وعبر حياته ومسيرته ترك أستاذي الأكبر البيومي بصمات وآثاراً لا تمحوها رياح النسيان، مؤكدًا على أن العظمة الحقيقية تكمن في الإسهام الفكريّ والروحيّ الذي يتركه الإنسان وراءه. طيب الله ذكرى أستاذي الأكبر، وأجزل له ثواب المخلصين المصلحين في جنات النعيم!
-------------------------
 
د. علي زين العابدين الحسيني 
* كاتب وأديب أزهري

مقالات اخرى للكاتب

البيومي ونقد عبد الفتاح أبو مدين





اعلان