21 - 06 - 2024

ألمانيا وإسرائيل.. متى يستفيق الألمان من "تأنيب الضمير" الذي زرعته الصهيونية فيهم؟

ألمانيا وإسرائيل.. متى يستفيق الألمان من

كان الكاردينال الكاثوليكي الفرنسي ”أرماند جان دو بلاسيس دو ريشيليو“ رجل دين ودولة ونبيل فرنسي، وكان وزيرا للملك لويس الثالث عشر، ومن ثم أصبح رئيسا للوزراء. ولذا يعتبر أول رئيس وزراء في العالم، ومن دهاة السياسة في زمانه، حيث أقنع الملك وحكومته بأن مصلحة البلاد يجب أن تتقدم مصلحة الكنيسة. ففي أثناء اشتعال حرب الثلاثين عاماً ( (1618-1648 في أوروبا، والتي كانت الكنيسة وراءها، بعد أن أخذت البروتستانتية تنمو في معظم الدول الأوروبية، صرح هذا الوزير بأن على فرنسا القتال إلى جانب البروتستانتيين بدلا من الدفاع عن ”المجمع الكاثوليكي“، رغم أنه كان كاثوليكيا ورجل دين، الأمر الذي لم يجلب له شعبية بين الفرنسيين الكاثوليك عموما، ولكنه أبعد بسياسته هذه الخراب عن فرنسا، وجعلها أقوى قوة في أوروبا بعد نهاية هذه الحرب. 

أما دو ريشيليو فقد بقي ملتزما بكاثوليكيته ولم يحد عنها. ودوره لا يزال معتمدا في السياسة الخارجية لمعظم دول الغرب، ويدلل عليه بمصطلح ”مصلحة الأمة أو المصلحة الوطنية“، المصطلح الذي جاء به ولأول مرة السياسي الإيطالي الشهير ميكافيللي، بعد أن كانت المصلحة الوطنية تعتبر عنصرا ثانويا في السياسة بعد الدين والكنيسة، وينص، كما كتبه ميكافيللي: ”على الدولة أن تتصرف في الأزمات تبعاً للمصلحة الوطنية“، وهذا ما أقرته الحكومة الإيطالية لسياستها في نهاية القرن السادس عشر، ولكن دو ريشيليو كان أول من طبقه على أرض الواقع.

وهذا المبدأ أو الفقرة الدستورية، سمها ما شئت، يمكن أن تكون مقنعة جدا، فمن لا يرغب أن تكون المصلحة الوطنية فوق كل المصالح، بما فيها مصلحة الدولة / الحكومة. غير أنها لا تنص على ماهية هذه المصلحة، أو الحدود التي يمكن تجاوزها من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، أو أن ما تعنيه المصلحة الوطنية هو مصلحة الدولة أم الشعب؟ وما هو الثمن الذي يمكن تحمله من أجل ممارسة كهذه، أو كيف على أية حكومة ألا تستغل أو تبتز ممارساتها باسم المصلحة الوطنية. 

الغريب أن العديد من الدول تطلق على ممارساتها ”المصلحة الوطنية“ عندما تستدعي الضرورة مخالفة الدستور او الانحراف عن مبادئها الاساسية، خاصة عندما تجد نفسها في مواجهة أزمات كبيرة كالحروب والخلافات الداخلية. ولكننا نجد أن هذا المبدأ يمارس في الكثير من الحالات من أجل بقاء الحكومة وقمع المعارضين، كما شهدناه في ”الحرب على الارهاب“ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقبلها في حرب العراق على إيران، واليوم في اجتياح روسيا لأوكرانيا وفي حرب الغرب ضد روسيا… وأوضح دليل نراه يوميا منذ سبعة شهور هو ما يمارسه الكيان الصهيوني وحكومته الفاشية ضد الشعب الفلسطيني من أجل ”المصلحة والأمان الوطني“. أما في حقيقة الامر، وهذا ما يشهد عليه معظم المحللين السياسيين، بمن فيهم الاسرائيليين، أن هذه الحرب، وبالذات إطالتها هي من أجل بقاء الحكومة وتحقيق الهدف الصهيوني في إخلاء البلاد (فلسطين) من الفلسطينيين، إبعادا أو قتلا!

بداية العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تحظ ألمانيا بمغفرة الأوروبيين واستعادة مكانتها بينهم، بعد الجرائم التي ارتكبتها حكومتها النازية، ولذا بقيت تحت الإدارة الاميركية لعدة سنوات، ومنعت من أن يكون لها جيش مستقل خوفا من عودة النازيين، حتى عام 1951 عندما انتخب أول مستشار ”كونراد اديناور“ لأول حكومة ألمانية بعد الحرب. وفي تلك الأثناء كان قد سبق ذلك الاعتراف بتقسيم فلسطين إلى دولتين عام 1947، وإعلان قيام دولة اسرائيل عام 1948، دولة ليهود العالم بعد ما تعرضوا له من مجازر في أوروبا. ورغم أن اعتراف الأمم المتحدة كان مشروطا بإنشاء دولة فلسطينية ودولة يهودية، إلا أن ذلك لم يتحقق ليومنا هذا. ومباشرة بعد قيام الدولة الإسرائيلية، أخذت العصابات الصهيونية في حملة تهجير قسري أدى إلى نزوح معظم الفلسطينيين إلى دول الجوار، مصر والأردن ولبنان وسوريا، وكذلك إلى مناطق كانت خاضعة لهذه الدول، مثل غزة التابعة لمصر وإلى الضفة الغربية التابعة للأردن. 

ومن الجدير بالذكر، أنه في ذلك الوقت، وخاصة عند الحديث عن حرب الـ 48 والنكبة التي أدت اليها، لم تكن هناك أية دولة عربية مستقلة! بل كانت جميعها تخضع تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي. غير أن هذه الحرب تركت إسرائيل في وضع اقتصادي صعب جدا، مما جعل الحكومة الإسرائيلية الأولى بقيادة بن غوريون اتباع سياسة التقشف التي تعدت المواد الغذائية إلى الملابس والأثاث والأدوات المنزلية وتعويم العملة وبيع المستندات الحكومية إلى آخره من الإجراءات التي تركت الدولة الحديثة في وضع لا تحسد عليه. الأمر الذي استوجب البحث عن مصادر خارجية لإنعاش الاقتصاد الذي تتطلبه الدولة للنهوض من أزمتها الاقتصادية التي سببتها الحرب من جانب وهجرة (وتهجير) اليهود إلى إسرائيل من جميع بقاع العالم. وهذا ما دعا السياسي المحنك بن غوريون للاتصال بالعدو اللدود، بألمانيا، وعرض مشروعه الذي سيخدم اسرائيل اقتصاديا وفي نفس الوقت ينتشل ألمانيا من عزلتها في العالم. وقد شرع في مباحثاته مع نظيره الألماني اديناور، ووقع معه ”معاهدة لوكسمبورغ“ عام 1952. وقد ألزمت هذه المعاهدة ألمانيا بدفع مبلغ يعادل اليوم 84 مليار (بليون) يورو لبناء إسرائيل وما يقارب الاثنين مليار (بليون) يورو سنويا لمتضرري الحرب. وهنا استخدم المستشار الألماني ”المصلحة الوطنية“ ذريعة للمعاهدة رغم أن المعاهدة لم تحظ بتأييد من قبل الشعب الالماني يزيد عن 11 بالمائة. ومع ذلك مررت هذه المعاهدة وبمباركة من الدول الاوروبية الأخرى. وقد كان على ألمانيا انتظار دام لأكثر من ثلاثة عشر عاما كي يرضى الشارع الإسرائيلي باستقبال المستشار الألماني في تل ابيب لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ومنذ معاهدة لوكسمبورغ وليومنا هذا، لم يفت أي من مستشاري ألمانيا، بغض النظر عن انتمائهم لحزب المسيحيين الديمقراطيين أو المسيحيين المحافظين أو الديمقراطيين الاشتراكيين، أن يكرروا أن أمن اسرائيل هو من المصلحة الوطنية الألمانية. وكما ذكرته المستشارة الألمانية السابقة إنجيلا ميركل في خطابها أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2008، بقولها ”أن أمن اسرائيل هو من أمن المانيا والعكس صحيح“، وهذا ما أعاده المستشار الحالي أولوف شولتز أيضا في خطاباته، إن كانت أمام البرلمان الألماني أو أمام الكنيست الاسرائيلي، والذي ضاعف هذا العام المساعدات لإسرائيل لنحو عشرة اضعاف وإدراجها ضمن ميزانية ألمانيا العسكرية. ولم تكتف ألمانيا بالدعم العسكري والمادي، وإنما كالولايات المتحدة، وإنما أضافت إليه الدعم السياسي عندما دخلت المعركة القانونية كمحام للدفاع عن إسرائيل في قضية جرائم الحرب المقدمة من قبل جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. كما وأضافت عبارة ”أمن اسرائيل من أمن المانيا“ في خطة إعادة بناء القوة العسكرية الألمانية. وهذه التصريحات لا تقتصر على المستشارين الألمان فقط، وإنما كررها الرئيس الألماني فرانك شتاينماير ”أن حماية اسرائيل وامنها هو حماية جميع اليهود في العالم“ في زيارته لإسرائيل نهاية العام الماضي.

ما يظنه الألماني

لو سألت أي ألماني عن سبب هذا الدعم غير المشروط واللا محدود لإسرائيل لقال لك انه ”تأنيب الضمير“ لما حدث لليهود إبان العهد النازي في ألمانيا. وعندما نذكرهم بمعاهدة لوكسمبورغ، فإنه من النادر أن تلتقي بمن قد سمع عنها، وذلك لأن الصهيونية دأبت على زرع ”تأنيب الضمير“ عند الألمان للاستفادة منه لأجل طويل. وهل يمكن تغيير هذه المعاهدة؟ بالطبع، فإنها كأي من المعاهدات الدولية خاضعة للنقاش والتغيير حسب الظروف المستجدة، ولكن ذلك يتطلب معرفة بنود المعاهدة وشروطها وزمن توقيعها والإفصاح عنها في المحافل الإعلامية والدراسية، الأمر الذي لم يتم لحد الآن في ألمانيا. ومن المؤكد أنه لا وجود لأي تعريف للـ ”المصلحة الوطنية“ الألمانية، والذي بموجبه تلتزم ألمانيا بالدعم غير المشروط لإسرائيل، وإلا لكان ما فعلته إسرائيل في فلسطين، وخاصة في الضفة الغربية وغزة منذ أكتوبر الماضي ولحد اليوم كفيلا بالمساءلة عن معنى الـ ”المصلحة الوطنية“ لألمانيا، خاصة وأن ألمانيا تدعم دولة محتل غاشم، مخالفة لدستورها وقوانينها التي تنص على حق الشعوب في تقرير المصير ومحاربة الاستعمار! وهل يدر هذا الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي لكيان محتل بأي نفع للمواطن الألماني؟ في نفس الوقت نرى ألمانيا لا تتحلى بنفس ”تأنيب الضمير“ عندما يتعلق الأمر بناميبيا، حيث ارتكبت الحكومة الالمانية مطلع القرن الماضي مجزرة إبادة جماعية هناك، ولليوم لم تعترف ألمانيا بهذه الإبادة، رغم أنها حاولت إرشاء حكومة ناميبيا بالمال، الذي لا يمكن بالطبع مقارنته بما تمنحه لإسرائيل، من أجل كسب سكوت حكومة ناميبيا عن تلك الإبادة.

لقد حان الأوان لكل ألماني أن يسأل حكومته، لماذا هذه التفرقة في التعامل مع إسرائيل ومع ناميبيا؟ وهل ما دفعته ألمانيا كافيا لتهدئة الضمير الألماني بصدد إسرائيل وناميبيا؟ وما الذي تجنيه ألمانيا في دعمها لكيان محتل، يخرق القوانين الدولية منذ قيامه وللآن؟ وإلى متى سيبقى الألماني حبيس هذا التأنيب عن جريمة لم يرتكبها هو ولا حكومته التي انتخبها ولا حتى والده أو جده، بل إنه من النادر اليوم أن تجد ألمانيا على قيد الحياة قد شارك في الحرب العالمية الثانية. لقد آن الأوان للألمان أن يطلعوا على حقيقة هذا الدعم وعن المعاهدة التي تعهد بها مستشار ألمانيا الأول لإسرائيل، وأن يعيدوا النظر في هذه المعاهدة لأنها تجعل ألمانيا شريكة في كل الجرائم التي تقترفها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني.

وما علينا، نحن الذين نعيش هنا في أوروبا ولنا صلات مع المجتمع الألماني إلا أن ننوه عن هذا الأمر، وأن نذكّر بحق الشعب الفلسطيني في أرضه وفي تقرير مصيره والعودة إلى وطنه أينما كان ومتى شاء، كحق أي يهودي في المواطنة في إسرائيل أينما كان ومتى شاء، حتى وإن كان مولودا في بلد آخر ويحمل جنسية أخرى، وحتى وإن لم تكن لديه أية صلة بالمجتمع الإسرائيلي أو إن كان يتحدث العبرية! وعلينا أيضا أن نذكر بأن الكيان الإسرائيلي هو كيان استيطاني، وهو الدولة الوحيدة في العالم التي لها ”وزارة استيطان“ تدير شؤون المستعمرات الاستيطانية وتدافع عن ”حقوقهم“ ضد الفلسطينيين. واستنادا إلى القانون الدولي وباعتراف معظم الدول الأوروبية بعدم شرعية هذه المستوطنات، نجد أن في حكومة الكيان الحالية وزراء، مثل بن غفير وسموترش، ولدوا في هذه المستوطنات ويعيشون اليوم في أراضي فلسطينية استولوا عليها بطريقة غير شرعية. علينا أن نذكر بأن المجتمع العالمي أجمع منذ سنوات على اعتبار إسرائيل دولة فصل عنصري، وأن العديد من المنظمات العالمية الإنسانية تعتبرها كذلك، مثل منظمة مراقبة الحقوق الانسانية، ومنظمة العفو الدولية، وحتى منظمات إسرائيلية، منها يش دين ومنظمة بتشيلم.

بعد تراكم جرائم إسرائيل خلال العقود السابقة، وانفضاح ادعاءاتها ونفاقها الذي أصبح محل تهكم، خاصة من جيل الشباب في أوروبا وأمريكا، هل تجد الدول الأوروبية ”عذرا“ للدفاع عن إسرائيل ومساندتها غير المشروطة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة، وهذا ما وضعته غزة على جميع الطاولات السياسية في العالم.
--------------------------------
بقلم: د. سليم العبدلي
شاعر ومترجم وعالم فيزيائي دنماركي


مقالات اخرى للكاتب

الأمل واللا أمل يتصارعان عند عتبة تضامن الشعوب الغربية مع غزة!





اعلان