26 - 06 - 2024

ما من مشكلة إلا وسعد الموجي لها !

ما من مشكلة إلا وسعد الموجي لها !

شاءتْ الظروف أن يجلس بجانبي في أحد سُرادقات العزاء، فانتهزَ فترة الفاصل بين التلاوات، وخاطبني في أن أكتب بعضا من سيرة عمي المغفور له بإذن الله الأستاذ محمد سعد الدين الموجي أمين عام جامعة المنوفية الأسبق، فاحتججت بأني فكرتُ في ذلك أكثر من مرة، وتراجعت لكيلا يُظن أن هناك شبهة محاباة لآصرة الدم بيننا، وناشدتُه في أن يكتب عنه هو؛ اعترافا ببراعة قلمه، وروعة أسلوبه، وعلمه - بحُكم سنه - بمناقب الفقيد - رحمه الله - فأبي بحُجة أنني واحدٌ من أهل الصنعة، وصاحبُ مشروع يهدفُ إلي تعريفِ الأجيال اللاحقة بنجوم قريتنا الزاهرة ممن انتقلوا إلي فيضِ الكريم، أو مازالوا يعيشون، ولكن لا تعرفهم البراعمُ الشابة لتقاعدهم عن العمل منذ زمن طويل .

هذا ما دار بيني وبين الطبيب الأديب د. ناصف الشبراوي، الذي أنحني له ولرفيق دربه د. عادل القطان الجراح الأديب احتراما وتقديرا .

وأعود إلي الأستاذ الكبير محمد سعد الدين الموجي، فأقول إنه أحد زهور قريتنا الفواحة، أو هو قارورةُ عطر (مُعتّق) يفوح شذاها مع الزمن، ويغلو ثمنها مع الوقت، وكيف لا وأثره علي قريتنا كأثر الشمس علي أيام الشتاء، وكأثر القمر في الليالي الظلماء، وهو ما يؤكده كلّ من قصده في مصلحة سُدت أمامه أبوابُها، فكان مفتاحها بيده، وعاد صاحبُها من عنده مجبورَ الخاطر، حتي إنه شاع بين الناس أنه (ما من مشكلة إلا وسعدٌ لها) !

لا أعرفُ كثيرا من سيرته، إذ عرفتُه في آخر أيامه بعدما انحني منه العود، واحدودبَ الظهر، ولكن ولو .. فـ(تذبل الوردة وريحتها  فيها)، كما قال أسلافُنا .

في شقته بإحدي الفيلل العريقة بميدان الجامع بمصر الجديدة، سكن صفوة المجتمع آنئذ، التقيتُه قبلَ أن أبلغَ الحُلم، فألفيتُ وجها باسما، يفترُ عن ثنايا كأنها اللؤلؤ، تكسو الوجه ابتسامة تُدخل الأنس إلي النفس، والطمأنينة إلي القلب .

كانت كلماتُه معدودة، ولكنها تخرج من فمه مُرصعة بالحكمة وفصل الخطاب، يَزينُه صمتُ فكر لا صمتَ شرود .

أما عن كرمه، فلا تنطفئ في بيته نار، ولا ينقطع عن التردد عليه الزوار، فينعمون بطيب مجلسه، وحلو حديثه أثناء تناول الشاي مع ( الباتون ساليه، وكعب الغزال)، والبونبون، الذي كنا - ونحن صغار - نخبئه في جيوبنا خلال حديثه مع آبائنا، ويرانا فيضحك، ويزيدنا عطاء، ويربت علي أكتافنا .

والفقيد هو واحدٌ من ثلة المتعلمين القلائل بقريتنا، ورثَ العلم كابرا عن كابر، فأبوه هو  توفيق بك الموجي مدير عام التعليم الثانوي بالوجه البحري، وهي مكانة رفيعة في عصر ندر فيه من كان ( يفك الخط) .

اعتني الأب بابنه سعد، فحرص علي تعليمه، ورباه علي حُسن الخلق، وحببَ إليه فعل الخير، فصار ذلك فيه سجية وطبعا .

التحق سعد بكبري المدارس، وتخرج في كلية الزراعة، وحصل علي درجة الماجستير، ثم اتجه إلي الحياة العملية، فبزغ نجمه في حقول التربية والتعليم، وحقق نجاحا كبيرا في الجانب التربوي، اختير علي أثره مستشارا تعليميا في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأسندت إليه أمانة جامعة المنوفية، فكان ذا كلمة مسموعة بحقل التعليم العالي، يعمل له العمداء، بل ورؤساء الجامعات ألف حساب، وهو ما جنتْ قريتُنا، والقري المحيطة ثمرته، فأفاد من علاقاته الواسعة القاصي والداني، وأسهم في تقليل اغتراب كثيرٍ من الجامعيين، الذين شتتهم مكتب التنسيق، فشاهدوا بأعينهم كم كانت تُحترَم خطابات توصيته، وتُحمل علي الرءوس !

يمضي العمر، وبعدما التقيتُه طفلا، ألتقيه صحفيا بجريدة الأهرام، تُنشر باسمه المذيل بلقب العائلة (الموجي)حواراتٌ وتحقيقات، ومقالات رأي، فتملأ الفرحة جوانحه، ويشجعني علي التميز، ويحيلني لأسماء لامعة في عالم الصحافة لأقرأ وأتعلم .

صاهر الفقيدُ - رحمه الله - عائلة النحاس، فجمع بيتُه بين العلم وعراقة الأصل، ورافقته زوجة كانت للجميع أما وكرما وعطاء، تري أن برّ أقارب زوجها برُّ به، رحمها الله رحمة واسعة .

كانت زياراتُ الفقيد للقرية أيام عُرس، فتُفرش له البُسط، وتُصف من أجله النمارق بدوار حضرة العمدة السيد أفندي عصر - رحمه الله - إذ كانت بينهما صداقة وأخوة شاركهما فيها شيخ البلد الحاج قاسم جبر - طيب الله ثراه - .

خرج من صُلب الفقيد اللواء طارق الموجي، أحد رموز الداخلية الكبار، وأ.د أماني الموجي الأستاذ بجامعة القاهرة .

خدماتُ الفقيد لأسخاص بأعينهم لا حصر لها، أمّا خدماته العامة فعلي رأسها إسهاماتُه الجبّارة في إنشاء مدرسة إمياي الثانوية، التي ينعم أبناء القرية بالتعلم فيها، ويدعون له بالرحمة والمغفرة آناء الليل وأطراف النهار .
-------------------------------
بقلم: صبري الموجي *
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

من وراء شُهداء منى؟





اعلان