26 - 06 - 2024

عادل عصمت من القاهرة المحفوظيَّة إلى طنطا العادليَّة

عادل عصمت من القاهرة المحفوظيَّة إلى طنطا العادليَّة

تُعَدُّ " طنطا" مدينَةً ثقافيَّةً نموذجيَّةً؛ ففيها فرعٌ لاتّحادِ الكُتَّابِ، وقَصرٌ للثَّقافَةِ، ومكتبَةُ السيّد البدويّ، ومخطوطات لدار الكتبِ، وفرع لهيئة الكتابِ، ودار المعارف، ودار الهلالِ، وأهمّ من ذلك كله توجد به شوارع ممتدَّة لباعة الكتب القديمةِ، والمكتبات الكثيرة لبيع الكتب الحديثةِ.

عرفتُ الرّوائي والمؤلّف والكاتب والمؤرّخ السوسيوثقافيّ عادل عصمت منذ خمسة عشر عامًا تقريبًا، كان يلقي محاضرة بديعة متفرّدة عن الكاتب العالمي جابرييل جارثيا ماركيز، وما أضافهُ لفنّ السّرد، وقد أهداني روايته" أيام النوافذ الزرقاء" سنة 2009م التي فاز بها بجائزة الدولة التَّشجيعيَّة، ومرَّت السُّنون إلى أن قرأت له رواية" الوصايا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للقائمة النهائية " المعروفة باسم جائزة بوكر العربية" لعام 2019م، وقد أصدر بين العامين 2009-2019م رواياته: حياة مستقرّة، وحكايات يوسف تادرس، وهاجس موت، والرجل العاري، ومجموعته سيرة نهاية العمر، وسرديَّته صوت الغراب التي يسردُ فيها سيرة عائلته على ألسنة نسائها، وغيرها فضلًا عن كتابهِ النّادر " ناس وأماكن"عن المكان المعاصر في طنطا، وما يتّصل به من نماذج بشريَّة؛ فوجدتهُ يستكملُ خارطةَ المكانِ السَّرديّ الذي رسم فيه كل معالم المكانِ الحميمة لطنطا والمدن والقرى الملاصقة لها التي لا ترصدها الجغرافيا ولا الطبوغرافيا، بل يصورها المخيال السّردِيّ خير تصوير بما تمتلكهُ لغتهُ السّرديَّة الخاصَّة التي تحمل بصمته وروحه بما يشحذها من مفردات دقيقة تذكّرنا بكتب الفروق اللغويَّة العربيَّة، كما تقفنا على الجهد الجهيد الذي يبذله في اختيار مفرداته اللغويَّة؛ أعني، بالقطع، في مشاهدهِ الوصفيَّة التي تحملُ روح السّاردَ عادةً، في حين يتركُ لشخصيّاتهِ أن تتحدّث بلغتها وفق مكوّناتها الوجدانيَّة والفكريَّة والثّقافيَّة لتخترق حصر السّرد، ووسائلهِ القامعة، ليدلف إلى عوالم مسكوت عنها سياسيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ليشحن سردهُ بفلسفتهِ التي يمرّرها مرورًا حريريًّا.

ولعلَّ أهمّ ما يميز كتابة عادل عصمت النوستالجيا في أرقّ حالاتها الإنسانيَّة التي تنقلنا إلى عوالم الحنين الشّعريّ للمكانِ بأناسِهِ وشخصيَّاتهِ ومحلّاتهِ وميادينهِ وحاراتهِ وأزقّتهِ ونواصيه، والباعة الجائلين، والحرف المنقرضة، بكلّ ما يتّصل بها من أدواتٍ وعملاء ليدخل من خلالها إلى العوالم الدَّاخليَّة للشّخصيَّاتِ، التي يجعلها مرآة عاكسةً لحال البنية المجتمعيَّة كلّها.

تُوازنُ سرديَّات عادل عصمت بين الشّخصيَّاتِ النّسائِيَّة والذُّكوريَّة، وتسبر نفسيَّة النّساء بخبرة نادرةٍ، وإحساس مرهفٍ مدرّب، وكذلك نفسيّات المرضى أمراضًا مختلفة؛ كالمعاقين جسديًّا، ونفسيًّا، وعقليًّا، كما تُوازن بين طبقات المجتمع؛ فنجد العائلات الكبيرة التي صارت أصلًا لطنطا ومدنها، والمهمّشين والوافدينَ من خارج طنطا، بل من خارج مصر وبلاد العربِ.

ويظلّ المكان الطَّنطاويّ بعبقهِ وإنسانيّته هو البطل الرّئيس الذي يشكّل محورًا تدورُ حوله البنية السّرديّة لكلّ أعمال عادل عصمت الروائيَة والقصصيَّة والمقاليَّة والوصفيَّة..إلخ.

ولعلَّ أهمّ ما سيبقى من عادل عصمت هو جسارته وروحه المستقلَّة، وصبره ودأبه، وقدرته الماكرة في نسج حيله السّردية، في الوقت الذي يبعد فيه عن تكرار التّجارب السّابقة للرواية العربيَّة، ويبتكر تجاربه التي تشبه مشروع محفوظ الرّوائيّ في تشبيهِ إجرائيّ نظَريّ فحسب، دون المطابقَة والمشابهة؛ فكما رسم محفوظ معالم القاهرة؛ حتى صار قولنا القاهرة المحفوظيّة من المسكوكات اللغويَّة الحديثة؛ فإنَّه يمكننا بكلّ ثقةٍ أنْ نقول: إنَّنا صرنا أمام مسكوكةٍ لغويَّة جديدةٍ هي : طنطا العادليَّة.

تحيَّة تقدير واحتفاء واعتزاز وفخر بالكاتب الكبير عادل عصمت الذي يمثّلُ  لبنة مصريَّة وعربيَّة مهمة في المشهد السّردي المعاصر .
--------------------------------
د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)

وكيل كلية الآداب للدراسات العليا – جامعة العريش

مقالات اخرى للكاتب

أعلامٌ منَ الغربيَّة(2) | النَّبيلُ محمد المنسِي قِنْدِيل .. عبقريَّةُ التَّأليفِ في زمن النَّسْخِ





اعلان