26 - 06 - 2024

متى يعتذر هؤلاء عن كل جرائمهم طوعا؟ ويفضوها سيرة

متى يعتذر هؤلاء عن كل جرائمهم طوعا؟ ويفضوها سيرة

-  هل طار فيلم المومياء أم تبخر؟ وهل وجوده سر حربي مثلا؟ ماذا ومن وراء هذا الغموض؟ 
كان محمد كامل القليوبي حزينا بالفعل على ما جرى لتراثنا وتاريخنا من تجريف وانتهاك،  لكنه عاش سعيدا وفخورا بنفسه وبكل من يشبهه 

حقا .. اللي اختشوا ماتوا

ما إن نشر الأستاذ أشرف عبد الشافي على موقعه الأرشيفي الجديد والمهم والقيم (فودكا)  بعض عناوين المعارك الصحفية التي خاضها الدكتور محمد كامل القليوبي منذ تسعينيات القرن الماضي ولفترة طويلة، ضد صفقات بيع النيجاتيف المصري، حتى انتفض السيد وزير السينما وبطانته، وكأنهم وجدوا ضالتهم في أن يحيلوا القضايا الكارثية الراهنة برمتها إلى ساحات الماضي، في مراوغة واضحة لا تنطلي على أحد، لإبعاد أية مسؤولية مباشرة عن مسؤول، قضى قرابة العقدين في أروقة الوزارة كأن فترة وجوده الطويلة الشائهة والتي لم يحظ بها مسؤول في وزارة الثقافة غيره، سقطت من التاريخ على حياة أعيننا، في وجود وظيفي معقد وغريب وصل الأمر فيه، أنه كان يوجه خطابات لنفسه من مكتب لآخر، كما لو كانت عزبة أو أبعدية يديرها، من المركز القومي للسينما للرقابة ومن شركة السينما للمركز والعكس ومن لجنة المهرجانات وكل ماسبقلوضعه كمستشار وزارة الثقافة لشؤون السينما، لكي يطمئن على ما يديره هو بنفسه، فيشيد بنفسه لنفسه، في وضع عبثي وهزلى بالكامل، كوميديا سوداء، وقد بدت هذه الادعاءات والتملص من المسؤولية وطي ما يقرب من عشرين عاما من التجريف، تحت ما بدأه آخرون منذ تسعينيات القرن الماضي، معيب، وحق لكن مراده فاسد وباطل.

ولقد كان أول من تلقف ما نشره الأستاذ أشرف على موقعه من أيام قلائل، هو أحد رؤساء المركز السابقين، والذي تم استعادة منشورات قديمة له، كان قد كتبها على صفحته في نهاية رئاسته للمركز، إثر خلاف نشب بينه وبين خالد عبد الجليل، وتحدث فيها صراحة عن اختفاء عدد كبير من أفلامنا، كما ألمح للغز التعتيم الحاصل حول فيلم المومياء واختفائه، وفيلم الفلاح الفصيح، وكلاهما للمخرج الكبير شادي عبد السلام،  ولا يهمني لماذا تراجع الأستاذ محمد الباسوسي، ولا ما الذي أسكت السادة الصحفيين الذين فتحوا تلك الموضوعات التي وصفوها بأنها تمس مصالح الوطن وقتها ثم أغلقوها فجأة، سواء كانت الأسباب تخصهم، أم ربما علموا أن مصالح الوطن (كما وصفوها حينها)، قد قضيت، وتراثه الثمين المنهوب عاد دون أن نعلم، لا يهم على أية حال، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولكن الأهم، أن من قرر الصمت عليه أن يصمت للأبد، وهذا أضعف الإيمان،

ولكن من باب التذكرة سوف أسرد بعض الأمور الذي يظنها البعض معروفة بالضرورة، فيما اكتشفت مع الوقت أن حالة المخمضة التي نحياها في ظل هذه الأوضاع الرمادية اللون، من شأنها أن تمسخ الحقائق وتبلبل العقول وهو أخطر ما يحدث الآن.

كان شادي عبد السلام لديه رغبة أن يتم حفظ الفيلم خارج مصر لخوفه من اهترائه بسبب حالة المعامل المتردية لدينا، اقترح أن يتم حفظ الفيلم بإيطاليا، لكنه توفى واستقر الفيلم لفترة بألمانيا.

توفي شادي، في أكتوبر 1986، وتحمل زوجة الفنان أنسي أبو سيف مهندس الديكور المرموق وأحد تلاميذ شادي ومساعديه بالفيلم، على عاتقها مهمة عودة الفيلم لمصر في غيرة واضحة على تراثنا السينمائي وعلى مصريتها التي تعتز بها أيما اعتزاز.

وبالفعل عادت السيدة العظيمة بالفيلم، وهى بالمناسبة من تلاميذ شادي وأصدقائه المقربين أيضا،عادت سعيدة وفخورة بما فعلت من إنجاز، بالرغم مما نالها من اتهامات غريبة ومضحكة حول انها اقتطعت دقائق من الفيلم، وهو لغط سرعان ما خبا، وانكسف من أطلقه على دمه، وفرض عملها الوطني الهام نفسه على الجميع وأخرس الألسنة المغرضة، وعاد الفيلم لحاضنة الوطن.

إلا أن ما توقعه شادي لفيلمه حدث بكل أسف، فقد بدأ الفيلم يتعرض للتلف، لينتفض الأستاذان الكبيران اللذان أوكل لهما شادي عبد السلام الحفاظ على تراثه، مهندس الديكورالراحل صلاح مرعي مساعده وتلميذه، وأستاذ التصوير وخبير الترميم والمعامل المرموق الدكتور مجدي عبد الرحمن.

وسرعان ما شرعا في تدشين مشروع متحف شادي عبد السلام، وهو أول متحف سينمائي في مصر، والذي أغلب الظن لو سارت الأمور كما هي عليه الآن من عوار سيكون أول وآخر متحف للسينما في مصر، وبدأ الأستاذان بمعاونة الخلصاء من السينمائيين في جمع مقتنيات شادي وأفلامه حتى التي لم ينتهي منها في حياته. 

وفى عام 2010 تقريبا تم الاتفاق مع مؤسسة اسكورسيزي (مؤسسة الفيلم) وهي مؤسسة غير ربحية أسسها المخرج الكبير، وغيره من السينمائيين الكبار في العالم، لإنقاذ مئات الأفلام المهددة بالضياع، وقد تواصل معهم الناقد الكبير الراحل سمير فريد إبان تأسيس مكتبة الإسكندرية لكي يسهموا في ترميم أفلامنا الأيقونية المعرضة للتلف، فتم الاتفاق معه عبر المركز القومي للسينما على ترميم فيلم المومياء إخراج شادي عبد السلام، الذي أنتج عام 1969، وأحد أهم مائة فيلم على مستوى العالم، وقد قام بالاتصال والمتابعة مع مؤسسة الفيلم (اسكورسيزي) الدكتور مجدي عبد الرحمن والذي قضى شهورا في العمل وفحص حالة الفيلم وكتابة تقرير مفصل عنه، وتمسك بقوة بأن يتم ترميمه بتقنية فصل الألوان (تكنوكلور) لقيمة الفيلم التشكيلية العالية، وهي تقنية ذات تكلفة مرتفعة للغاية مقارنة بعمل مؤسسة اسكورسيزي على أغلب الأفلام وهي استصدار نسخ رقمية جيدة للحفظ، ووقتها دفعت وزارة الثقافة المصرية ممثلة في وزيرها السابق فاروق حسني مبلغا كبيرا وقتها، قيمته خمسين ألف يورو، إسهاما من الدولة المصرية مع المؤسسة في ترميم الفيلم، الذي تم بالفعل، ولكنه اختفى تماما وأصبح أثرا بعد عين، بل واختفى الفيلم القصير القيم الفلاح الفصيح لنفس المخرج أيضا.

وقد خاطب الدكتور مجدي عبد الرحمن على حد توضيحه للجميع، كل وزير ثقافة حل على الوزارة بعد تتابع الأسماء عليها منذ رحيل فارق حسني كوزير مخضرم وحتى الوزارة الحالية، والمومياء لا حس ولا خبر، ومن مفارقات الأمور أن أحد رؤساء المركز السابقين وهو مدير التصوير كمال عبد العزيز، رفض رفضا باتا اطلاع الدكتور مجدي على أي معلومة تخص الفيلم، داعيا الرجل أن يضع إصبعه في عينه ولا يشوف الفيلم.

ما معنى هذا؟ هل طار الفيلم؟ تبخر؟هل وجوده سر حربي مثلا؟ ماذا ومن وراء هذا الغموض؟ 

وعبر الوجود القلق لعدد من رؤساء المركز المحدودين  الذين تخللوا فترة رئاسة المركز لمسؤول السينما الخالد، خالد عبد الجليل، سواء من دفع بهم وتواطأوا معه على قصة اختفاء فيلم المومياء الغامض وفيلم شادي القصير الفلاح الفصيح، أو الأفلام والعهد المتحفية التي خرجت سرا من المركز، والتي أشرنا لها في مقال سابق، أو تلفت بفعل الإهمال العمدي أو غير العمدي، فالنتيجة واحدة، من جاءوا للمركز خارج حساباته أو داخل حساباته، لم يكشف أي منهم الحقيقة، بدا أن الجميع، المتواطيء وغير المتواطيء سواء، الكل ينتهي به الحال لنفس المصير، مؤامرات المسؤول وحساباته البعيدة كل البعد عن الصالح العام، تطيح بهم جميعا، إذ أن هيمنته بفعل المناصب التي تقلدها،  ومساراته الغامضة عبرها، لا تتحمل وجودا غيره، فالمصالح على ما يبدو كبيرة، واختراق أطرافها وأعصابها خطر بين، وتفتيت عوائدها على كثر لن تكون نافعة أبدا.

والحل السحري الدائم، هو ادعاء أن جل ما يفعله وراء الجدران، ويروح ويجيء فيه بأداء شبحي مريب، هو أوامر من الدولة المصرية العميقة والظاهرة، والأجهزة السيادية تحمي وجوده ومهامه العظمى والسرية، وقد كان هذا الضباب والدخان الخانق الزائف، كفيلا بأن يجعل الجميع يؤثر السلامة، أو يتسرب لذهنه برودة وبلبلة الخوف مما لا يعلم عنه شيئا.

ولعل هذه الأكاذيب هي التي حدت به أن يبرطع في مهرجان تابع للدولة المصرية ويتبع الجهة السينمائية الوحيدة الباقية من الكيانات القومية ذات الصلة بإنتاج الأفلام والتوثيق والأرشفة لتراثنا السينمائي، وهو مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية الذي ينظمه المركز القومي للسينما، فيكرم عبد الجليل رجل أعمال أميركي مصري متعطل عن العمل، مجهول السيرة الذاتية وهو هشام عشماوي والذي أحدث بلبلة كبيرة وقتها وما زال، حيث كتب عن هذا الحدث المشين عدد من السينمائيين والصحفيين، وآخرهم الكاتب الصحفي المحترم أيمن الحكيم في مقال له بالغ الأهمية، إذ تم الاحتفاء بهذا الرجل  ببساطة على منصة إحدى الندوات مدعيا شراكات وهمية تخصه في مجال التصوير الخارجي وخلافه، فيما نكتشف انه لا ناقة له ولا جمل في هذا الشأن، ويتم الكشف عن لقاءات له بالتليفزيون الإسرائيلي يتحدث عن علاقات ثقافية وسينمائية مع مصر، وكأنه صاحب بيت فيما نكتشف أن السيد وزير السينما هو من دعاه، بمبدأ من لا يملك يمكن ويعطي من لا يستحق.

الطامة الأكبر والتي تتجاوز هذا الرجل الذي بدا للجميع مجرد رجل أعمال تعطلت أعماله، فقرر ان يلعب عبر مساحات عبد الجليل القفر، ويقلب رزقه ومصالحه على حساب كرامة وطن.

الطامة الأكبر هذه، واقعة كارثية أقدم تاريخا من واقعة هشام عشماوي، وهو تكريم المخرج السويسرى سمير جمال الدين، والذي يمول أفلامه صندوق الدعم الإسرائيلي، ومعروف بعنصريته وبمعاداته للقضية الفلسطينية، فهو ليس مجرد سينمائي سويسرى من أصل عربي (عراقي) (يهودي) الديانة، ولكن أفلامه ومواقفه كيهودي متعصب ضد القضية الفلسطينية معروفة، تلك القضية  الوطنية الوحيدة التي لا زالت توحد البقاع العربية الشتيتة، ولا يختلف عليها إنسان سليم الطوية في العالم ، جرح المنطقة العربية النازف على الدوام منذ نكبة 1948، فيتم تكريم ذلك المخرج ويتم أيضا  التعامل مع هذا الأمر بهذا القدر من الوهن واللا مسؤولية، وقد جاء هذا التكريم في عام 2018 إثر تجديد وزيرة الثقافة السابقة إيناس عبد الدايم لخالد عبد الجليل كرئيس للمركز القومي للسينما مرة أخرى، وهى تلك الفترة التي كان يشعر فيها أن السينما وملفاتها السرية والمعلنة باتت خاتما حول بنصره.

وهنا يبرز سؤال برئ، لماذا لم يكرمه السيد انتشال التميمي في المهرجان الذي كان يتولى إدارته، وهو صديقه ومن تولى استقباله في المطار بنفسه وإيصاله لمقر مهرجان الإسماعيلية؟ فمهرجانه الخاص لا يحمل عبء صورة الدولة الرسمية ولا أي نبض شعبي بأي حال؟

سؤال آخر ليس بريئا هذه المرة، هل كان مقصودا أن يكرم هذا المخرج في مهرجان مصري رسمي؟ ونرى رئيس المهرجان الناقد عصام زكريا يجلس بجانبه على المنصة بكل أريحية و بلا أي قلق أو انزعاج مرحبا بتكريمه، وهو مخرج متواضع محدود الإنتاج على أي حال، إذ أن سمير جمال الدين معروف عنه كونه معني بقضاياه العنصرية عبر منتوجه الفيلمي المحدود هو وزوجته أكثر من وجوده السينمائي، وإذا كان هذا المخرج قد حصل في صباه على جائزة من نفس المهرجان قبل خمسة عشر عاما عن فيلمه المريب إنس بغداد، ألم يلفت نظركم حركته ومساره بعد ذلك،

ولماذا اكتفى المهرجان وقتها بتصريحات مقتضبة مبتسرة،عن تكريم المخرج السويسري العراقى الأصل، بسيرته الذاتية المتواضعة  والتي جاءت أغلب المعلومات المكتوبة عنه على الانترنت على قلتها مكتوبة باللغة الألمانية، والأكثر ريبة هو تواري اسم السيد رئيس المركز الذي ينظم المهرجان في كل الأخبار الخاصة بهذا التكريم، وبكل نرجسيته المعروفة عنه، فيما يتصدر اسم رئيس المهرجان فقط، بعد أن اخترع تقليدا جديدا، بفصل مهام  رئيس المركز القومي للسينما عن رئيس المهرجان، إذ أن رئيس المركز كان هو رئيس المهرجان منذ إنشائه وحتى اللحظة التي بدل فيها عبد الجليل هذا الأمر، وهو تصرف مريب وغير مبرر (قال يعني متجرد ويعطى صلاحيات) والقاصي والداني يعلم تمام العلم إنه مهندس كل صغيرة وكبيرة فيما يتم، وأن من يعملون معه، لا يفعلون أكثر من تنفيذ توجيهاته أو خططه أو مؤامراته، وهو ما تبدى واضحا وفسرته بجلاء مسيرته وآثاره المدمرة على المركز القومي للسينما، سواء وهو موجود فيه، أو خارجه عبر منصبه الجديد بإشرافه على شركة السينما، بجانب الرقابة والاستشارية وخلافه.

والأكثر غرابة وجنونا، أنه في نفس العام 2018 قامت الدنيا ولم تقعد على رئيس مهرجان القاهرة السيناريست محمد حفظي في دورته تلك، عن قراره بتكريم المخرج الفرنسي المعروف كلود ليلوش أحد رواد وعرابي المدرسة الجديدة في السينما بفرنسا، استجابة لمطالبة السينمائيين والمثقفين بعدم التكريم، نظرا لموقف ليلوش السياسي المناويء للقضية الفلسطينية اتساقا مع القيم الراسخة لمهرجان القاهرة العريق و الوحيد الذي يحمل صفة الدولية في المنطقة العربية، فضلا عن احترام مشاعر ووجدان المصريين، 

لماذا إذن ثار السينمائيون هنا ولم ينبسوا ببنت شفة هناك، أم أن هناك يدا كانت تشعل حريقا في مكان موجهة الشرر تجاه أصحابه، فيما يدفن جمر تحت الرماد في مكان آخر؟ هل يمكن اعتبار هذه المفارقة الملغزة بريئة؟ أم ان وراءها عقل لئيم لا أحد يتصور مدى شره؟

بقي أن أشير لعدة نقاط هامة: 

- أولها أننا في عصر لا يمكن فيه أن ينسخ شخص ما أو مسؤول مواقفه، أو يميعها، أو يطرمخ عليها، فبضغطة زر يتبدى تاريخ كل منا أمام أعين الجميع، أحترم بحق من يثبت على مواقفه حتى لو كان خصما عتيدا، وتسد أغلاطه عين الشمس، فيما يسقط من أعين الجميع من يتلونون، ويهادنون ويرقصون على كل حبل ودرج، وفيما يخص القضايا الوطنية، المصيبة تصبح أكبر واعظم.

- ثانيا، لن ينجو أحد أساء لموقعه وأمانة مسؤولياته تجاه الوطن من المساءلة، مهما طال الزمن ومهما حاول البعض بعثرة الأوراق، وبلبلة الناس وترويع أصحاب ألسن الحق، فمصر لم تعدم أبناءها المخلصين أبدا، والقضايا الوطنية الكبرى الجارحة لكل ماهو نبيل وعادل مهما غابت، لا تفتأ تفور وتطفو على السطح، وسيقض من يتبنوها مضاجع من ظنوا انهم ألقوا بها في غيابات الجب، وجلسوا على فوهته بكل ثقلهم.

الحقيقة كالبركان، تثور وتفور في لحظة غير متوقعة من الزمن، منذ متى اطمأن أحد لبركان خمد لفترة حتى لو كانت سنين طوالا، إن ما يجب أن نطمئن له دوما هو سلامة الطوية وتحري الطهر والشرف.

وأخيرا، 

توضيح مهم إزاء ما جاء بعفوية وميلودرامية شديدة ونية طيبة مقدرة في المقال الذي نشره المحترم أشرف عبد الشافي المعنون بـ عنوان حزين فعلا (متى تعتذر إسعاد يونس لهذا الرجل؟) إذ جاء بالمقال "أنه مات وحيدا حزينا وأن الجميع انصرفوا عنه"، إذ أن هذا لم يحدث على الإطلاق، أوافقك بشدة  أستاذ أشرف على أن قلب القليوبي رحمه الله لم يبرأ أبدا من جرح بيع تاريخنا أمام عينيه، وأن محاولاته استصدار قوانين صارمة تحفظ ذاكرتنا السينمائية باءت بالفشل، وأن قرار فاروق حسني المعيب والمتخبط  وقتها بإقالته، والذي على حد تعبير الدكتور القليوبي، خلا من اللياقة إزاء سينمائي ومثقف ومناضل مصري عظيم كالقليوبي، هذا القرار لم يثنه لحظة عن مواصلة معاركه النبيلة للدفاع عن سينمانا المصرية وهويتنا الأصيلة، وأن رده عليه بأنه يكفيه عمله كأستاذ، عندما صرح الوزير، "أبحث للقليوبي عن مكان آخر"، هو دستورى الذي أنتهجه طوال الوقت في مواجهة أية مساومات، نعم (يكفيني عملي كأستاذ)

لقد كان القليوبي حزينا بالفعل على ما جرى لتراثنا وتاريخنا من تجريف وانتهاك،  لكنه عاش سعيدا وفخورا بنفسه وبكل من يشبهه من أصدقائه وتلاميذه، وعندما دفع ثمنا غاليا جراء تصديه لتلك الكيانات المتوحشة، والتي عطلت مسيرته كمخرج روائي له مشروع مختلف ومحلق وخارج أي قولبة أو تصنيف، كان راضيا، وسرعان ما أسس شركة للإنتاج وأنتج على حسابه عددا من الأفلام التسجيلية الطويلة البديعة كـ نجيب الريحاني في ستين ألف سلامة، واسمي مصطفى خميس، كما أخرج فيلمين بالغي القيمة لصالح مؤسسة الأهرام، أحدهما فيلم (قرن من الفن) والذي حوى في طياته مقتنيات الأهرام الفنية النفيسة، والتي لا تقدر بثمن، فضلا عن فيلم عظيم صنعه لصالح هيئة الرقابة الإدارية (ضد الفساد) وهو فيلم بديع عن جرائم كبرى ارتكبت في حق الوطن، وتصدى لها هذا الجهاز المحترم عبر تاريخه. 

القليوبى كان صديقا الحياة، لا يهدأ ولا يكف عن العمل والتفكير في كل ما هو وطني وإنساني وذي صلة بالقيم العليا، كان يكتب لآخر قطرة في صحته، ويحاضر لتلاميذه ولم يتغيب يوما عن محاضراته، إلا في فترة مرضه الشديدة، وكان بيته في كل المناسبات عامرا بالأصدقاء الخلصاء الذين يشبهونه في ثقافته ونبله ولطافة روحه، ومتونسا بدفءعائلته الصغيرة والكبيرة

كان لا يتهيب مطاردة الأشرار الحقيقيين في كل وقت وبلا أي حسابات، وأحسب أنني تعلمت منه ذلك هو ومن يماثلونه في الشرف والنزاهة.

إن كل كلمة حق تدخلنا في معركة مهما كانت شراستها، لا نتيجة لها سوى السعادة والرضا والاطمئنان، لأن الإنسان ما هو إلا كلمة.

ولا أدري.. كلما تطلعت حولي أنا ومن هم معي وبجانبي، هؤلاء الرائعون ممن أخذوا على عاتقهم فتح هذا الملف الشائك، ونستقبل من الناس وصفهم المندهش لما نفعل بالبطولة أو فرط الشجاعة، أتعجب بصدق من أننا صرنا نرى الواجب كذلك، وأتذكر تلك المقولة التي لا تغيب عن عقلي ولا تفتأ تحاصرني، لأحد جنرالات الحرب القدامى عندما قال: "سيذكر أولادنا بمزيد من الألم والمرارة، ذلك الزمن الرديء الذي كان الشرف البسيط فيه يسمى شجاعة".
----------------------------
بقلم: د. ثناء هاشم

مقالات اخرى للكاتب

ما الذي ننتظره من وزارة الثقافة بغض النظر عن اسم الوزير؟





اعلان