26 - 06 - 2024

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟

بصدور القرار رقم 2735، عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة  ليل الاثنين (فجر الثلاثاء بتوقيت منطقة الشرق الأوسط)، يتشكل مسار جديد لسير الحرب في غزة. فمشروع القرار الذي طرحته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للتصويت في مجلس الأمن بعد أن حشدت تأييداُ دولياً يضمن تمريره من خلال المجلس، يحدد ملامح المرحلة المقبلة رغم رفض حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل س الوزراء، خصوصاً بعد إعلان حركة حماس تأييدها له، رغم زعم الولايات المتحدة أن مشروع القرار الذي قدمته هو بالأساس مشروع إسرائيلي يضع تصوراً لإنهاء الحرب في غزة، تمهيدا للشروع في المرحلة التالية لدفع الجهود الرامية إلى إيجاد تسوية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بما يهيئ الساحة لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وفتح صفحة جديدة للعلاقات بين دول المنطقة، لاسيما دول الخليج العربية وإسرائيل، بما يسهل إعادة تشكيل البيئة الأمريكية بما يتماشى مع التصورات الأمريكية ويخدم مصالحها.

بتحليل نص مشروع القرار الأمريكي الذي حظي بتأييد أعضاء المجلس ليصبح قراراً، يُلاحظ استناده إلى أحدث ما تم التوصل إليه من خلال جهود الوساطة المصرية – القطرية - الاًمريكية لإنهاء الحرب في غزة. ويُشير تمرير القرار بتأييد 14 عضوا من أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر وامتناع روسيا عن التصويت، إلى تبلور إرادة دولية ضد نهج الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي تصر على مواصلة الحرب في غزة حتى القضاء على حركة حماس وتدمير بنيتها التحتية، وتبدي استعدادها لاستمرار الحرب لعامين آخرين من أجل فرض الرؤية الإسرائيلية لمستقبل الوضع في غزة بعد انتهاء الحرب، ومواصلة مشروعها الاستيطاني لتصفية القضية الفلسطينية بما يقطع الطريق على إمكانية تنفيذ حل الدولتين بشكل نهائي. والأرجح أن الحكومة الإسرائيلية تراهن على حدوث تغير في الإدارة الأمريكية بعد الانتخابات، وهو رهان في غير محله، حتى لو عاد الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ذلك لأن عودة واشنطن إلى تقديم دعم مطلق لإسرائيل في حربها لا يضمن دعم الحلفاء الأوروبيين الآخرين، مثلما كان عليه الوضع في الأشهر الأولى من الحرب التي استمرت ثمانية أشهر.

إن ترحيب حركتي حماس والجهاد الإسلامي بما تضمنه قرار مجلس الأمن وأكد عليه وتأكيد حماس استعدادها للتعاون مع الوسطاء للدخول في مفاوضات غير مباشرة لتطبيق المبادئ التي تضمنها القرار والتي تتماشى مع مطالب الشعب الفلسطيني والمقاومة، من شأنه أن يزيد من الضغوط على الحكومة الإسرائيلية، لتعديل موقفها في ضوء المتغيرات الجديدة التي يفرضها صدور القرار والتجاوب مع الضغوط الأمريكية والدولية للحفاظ على ما حققته من مكاسب في الحرب الحالية بدلاً من المخاطرة بالتعرض لمزيد من الخسائر التي تلحق أضراراً بمصالح إسرائيل على المدى البعيد، ولا شك أن عناد الحكومة اليمينية المتطرفة يصب في مصلحة حماس، لاسيما أنها قادرة إلى الآن على تحمل المزيد من الخسائر في المواجهات العسكرية، وإدراكها أن انهيارها الكامل حلم إسرائيلي بعيد المنال. والحركة بهذا بددت المزاعم الأمريكية بأن حماس هي من يقوض جهود الوساطة لتبادل الأسرى والهدنة.

ما الذي تغير؟

قد يكون من الصعب استشراف المستقبل، بعد صدور قرار مجلس الأمن في ظل الأوضاع المعقدة على الساحة الداخلية الإسرائيلية، وفي ظل غياب معلومات أساسية عن حقائق الوضع على الأرض في القطاع، رغم التركيز الإعلامي الشديد الذي ينقل مشاهد وروايات من القطاع على مدار الساعة، وكأن ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعاً ويعيش فيه نحو 2.3 مليون نسمة، أصبح بؤرة اهتمام للعالم كله، لكن من المؤكد أن هناك ثلاثة أطراف توجه دفة الأحداث وإن يكن بنسب متفاوتة، وتتسابق على تعظيم قدرتها على تسيير الأحداث، وتتنافس لتوسيع هامش المناورة الخاصة بها، لكنها أيضاً محكومة بتصورات حول تأثير أي تحرك على موقفها وعلى قدرتها على إدارة الصراع في المستقبل. الأطراف الثلاثة، هي: الحكومة الإسرائيلية، وحركة حماس، والولايات المتحدة. ولكل طرف من هذه الأطراف الثلاثة حسابات معقدة، وهي محكومة بتصوراتها للأولويات في الوقت الراهن وفي المستقبل وتخضع لضغوط داخلية وخارجية، كذلك أدت التطورات الميدانية إلى إدخال تعديلات على الأهداف التي يسعى كل طرف إلى تحقيقها فعلياً، بما لا يؤثر على تصوره أو رؤيته لترتيبات الوضع النهائي، الذي يشمل مستقبل فلسطين كلها.

لقد أدت الخطوة الأمريكية بإحالة خطتها لإنهاء الحرب في غزة إلى مجلس الأمن الدولي والحصول على دعم دولي لمشروع القرار الذي اعتمد فكرة المراحل الثلاثة للوصول إلى هدنة دائمة في غزة، والتي اقترحتها مصر، إلى تهيئة البيئة لتمرير خطة قابلة للتنفيذ لإنهاء الحرب من خلال تصعيد الضغط على الحكومة الإسرائيلية للقبول بالخطة أو مواجهة احتمال أن تصبح دولة مارقة ومنبوذة ومهددة بفرض عقوبات دولية. وبات على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الاختيار بين الإذعان لشركائه الأكثر تطرفاً في الحكومة ومواصلة الحرب على نحو يعرض إسرائيل لمزيد من الضغوط والحصار، وبين الامتثال لقرار مجلس الأمن وتفكك الحكومة الحالية والذهاب إلى انتخابات مبكرة قد تضمن له مواصلة الحرب في غزة لأسابيع، وهو خيار صعب في ضوء المعطيات على الأرض والتي تشير إلى أن التصورات الإسرائيلية لمستقبل غزة ليست سوى أمنيات غير قابلة للتحقق على الرغم من الاختلال الشديد في موازين القوى بين إسرائيل والفلسطينيين، وأن إسرائيل ليس لديها حل للمعضلة الأمنية التي تتمثل في ثغرة تتعلق بالمساحة الجغرافية، والتي كشفها هجوم طوفان الأقصى وسلط الضوء عليها، مع تمكن مقاتلي الحركة من التقدم نحو مدينة الخليل في جنوب الضفة الغربية، التي لم يفصلهم عنها سوى نحو 10 كيلومترات، الأمر الذي يشكل خطورة شديدة على أمن إسرائيل، تتمثل في وجود اتصال بري بين الضفة والقطاع مما يعني عزل وسط إسرائيل وجنوبها عن باقي الأراضي، وإجبار القوات الإسرائيلية على العمل في ظروف صعبة للغاية وجرها لقتالٍ دامٍ داخل المدن المكتظة على الأراضي التي قامت عليها إسرائيل في عام 1948.

والتصور الإسرائيلي الخاص بالقضاء على حماس وإعلانه كهدف نهائي للحرب أمر غير واقعي، إذ أن الأمر لا يتعلق بحماس بقدر ما يتعلق بشعب واقع تحت الاحتلال وقادر على الصمود على الأرض وعلى ابتكار أشكال للمقاومة التي تطمح في دحر الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 كحد أدني ومواصلة المقاومة حتى تحرير فلسطين بالكامل وإقامة دولة ديمقراطية تتسع لمواطنيها على كامل أرض فلسطين. ولن يسهم "تقليص مساحة غزة" كهدف معلن لمسؤولين إسرائيليين من بينهم وزير الخارجية إيلي كوهين، أو "خلق واقع أمني جديد" في القطاع، حسبما أكد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت في حل المعضلة الأمنية التي تواجهها إسرائيل، حتى لو تمكنت حكومتها من الصمود في مواجهة الضغوط الدولية المتصاعدة وأيضا في مواجهة الضغوط الداخلية من أجل القبول بصفقة للإفراج عن الأسرى والضغوط التي تفرضها استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني جانتس ورئيس الأركان الأسبق جادي أيزنكوت، زعيمي حزب الوسط المعارض من مجلس الحرب الذي تشكل بعد هجوم السابع من أكتوبر، على الرغم من تباين الآراء بخصوص تأثير هذه الاستقالة على وضع الائتلاف الذي يحظى بتأييد 62 عضواً في الكنيست. بل من المرجح أن تعزز الاستقالة من سطوة الوزراء الأشد تطرفا في الحكومة، لاسيما إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين عرضا الانضمام إلى مجلس الحرب، لكن نتنياهو يدرك في ظل العقوبات الدولية التي فرضت على أعضاء في الحكومة أن ذلك سيزيد من عزلة إسرائيل دولياً. 

لا يزال من المبكر معرفة قدرة أحزاب اليمين في إسرائيل على الصمود في مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة والتي من المرجح أن يزيدها الموقف الأمريكي الجديد باللجوء إلى استصدار قرار بوقف الحرب من مجلس الأمن الدولي، خصوصاً في ضوء التحذيرات المتكررة من المعارضة ومن الوزيرين جانتس وأيزنكوت بخطورة استمرار سياسة حكومة نتنياهو على العلاقات مع الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لإسرائيل. وهو ما تأكد من خلال التحرك الأمريكي وكذلك كلمة المندوبة الأمريكية أمام جلسة مجلس الأمن قبل التصويت على القرار، والتي ركزت على تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة وطالبت إسرائيل باتخاذ كل التدابير لحمايتهم، مؤكدة تأييد كل الدول أعضاء المجلس لوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن وأن الصفقة المطروحة على المجلس تلبي مطالب إسرائيل وتتيح إدخال المساعدات وتمهد لتسوية سياسية، ودعت حماس إلى قبول الصفقة وحث الطرفين على تطبيقها دون شروط.

لقد جاء قرار مجلس الأمن ليضيف إلى سلسلة من القرارات الدولية التي تضع إسرائيل على مسار النظام العنصري في جنوب أفريقيا، فالقرار جاء بعد قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان توجيه الاتهام لكل من نتنياهو وجالانت بارتكاب جرائم الحرب، وطلب إصدار مذكرة اعتقال ضدهما، وإعلان عدد من الدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل أنها ستلتزم بالتنفيذ حال صدور هذه المذكرة، وقرارات محكمة العدل الدولية التي قالت أنها تحقق في مزاعم بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية استنادا إلى دعوى أقامتها جنوب أفريقيا امام المحكمة وانضمت إليها دول أوروبية ومن أمريكا الجنوبية، وأخيراً الأمر الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بوقف الحرب على رفح وطلب إدخال المساعدات الإنسانية وضرورة سماح إسرائيل للجنة التحقيق في جريمة الإبادة الجماعية بالعمل، وهي قرارات تمهّد لشبكة عالمية واسعة لاستدعاء فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل. ويشير التحول في الموقف الأمريكي إلى أن الولايات المتحدة لن توفر الحماية الدبلوماسية التي وفرتها من قبل إذا استمرت الحكومة الإسرائيلية في نهجها.

إن قبول حماس لقرار مجلس الأمن، رغم أن البيان الأمريكي حملها المسؤولية عن تعريض المدنيين في غزة للقتل، قام بتعرية موقف الحكومة الإسرائيلية أمام المجتمع الدولي. وأعطى تعزيز الصفقة المعروضة ببيان صادر بأغلبية كاسحة من أعضاء مجلس الأمن، حماس فرصة للخروج من الحرب بمكاسب تعوض الخسائر الكبيرة التي تكبدها الشعب الفلسطيني في الحرب الأخيرة والتي تكبدها في مواجهات سابقة، ذلك أن البيان الذي وضع خطة متعدد المراحل تفتح الباب أمام هدنة دائمة في غزة يمهد لها انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة بالسكان في القطاع، وعودة المدنيين إلى ديارهم وأحيائهم في جميع مناطق غزة بما في ذلك الشمال، فضلا عن التوزيع الآمن والفعال للمساعدات الإنسانية على نطاق واسع في جميع أنحاء القطاع وإعادة الإعمار ويمهد في الوقت نفسه لمفاوضات لاستكمال تبادل الأسرى مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية الكامل من القطاع ويمهد الطريق لحل للقضية على أساس حل الدولتين الذي كرر المجلس في القرار تأكيد التزامه الثابت بهذا الحل الذي تعيش بموجبه دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين جنبا إلى جنب في سلام وضمن حدود آمنة ومعترف بها بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ويشدد في هذا الصدد على أهمية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية.

ربط مستقبل غزة بمستقبل فلسطين

النقطة المهمة في بيان مجلس الأمن هي تأكيده أنه لا يمكن الحديث عن مستقبل لقطاع غزة بمعزل عن بحث مستقبل فلسطين كلها، وهو تطور مهم مقارنة بالجولات العسكرية الثماني السابقة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، لكن لا شك أن هذا الأمر لا ينسجم مع التوجه العام للأحزاب الرئيسية الآن في إسرائيل والتي ترفض حل الدولتين وتسعى إلى ضم المستوطنات، ويتحدث بعض قادة هذه الأحزاب عن إعادة احتلال غزة ومواصلة الضغوط على القوى الدولية والقوى الإقليمية لتهجير الفلسطينيين إلى دول أخرى. ومن يتابع التطورات على الساحة السياسية الإسرائيلية، خصوصا ومع تزايد الضغوط الخارجية والداخلية على حكومة نتنياهو لقبول صفقة لتبادل الأسرى مع حركة حماس، سيلاحظ أن السؤال الرئيسي الذي يشغل النخبة السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل، والذي كان مطروحاً منذ اليوم الأول للحرب، هو مستقبل الوضع في القطاع بعد انتهاء الحرب، أو ما يعرف بسيناريوهات اليوم التالي للحرب، والخلاف حول دور حماس في حكم القطاع بعد انتهاء الحرب وحدود هذا الدور. وعلى الرغم من عدم قدرة أي من الطرفين على حسم الموقف عسكرياً، إلى الآن، إلا أنه لا يوجد في الأفق ما يشير إلى قرب انتهاء القتال رغم الخسائر المتزايدة الذي يتكبدها الطرفان، ولا يعلم أحد كيف ستكون النتائج، التي سيتوقف عليها أي ترتيبات مستقبلية في غزة.

إن التحول في موقف الولايات المتحدة باعتبارها أحد الأطراف الثلاث القادرة على إنهاء الحرب في غزة، مرهون بقدرة الولايات المتحدة على تصحيح كثير من الافتراضات السيئة بشأن الوضع في الشرق الأوسط والتي تتجاوز نهج واشنطن تجاه إسرائيل، إلى التأثير على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بشكل عام، وبداية تحركها لتجاوز الفشل الذي عانت منه في الشرق الأوسط، بسبب انطلاقها من ستة أفكار سيئة لخصها الباحث الأمريكي ستيفن كوك في افتراض ارتباط السلام بطبيعة النظم السياسية في المنطقة، وهناك برز توجه يرى أن السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين من شأنه أن يؤدي إلى تحول الأنظمة السياسية الاستبدادية في المنطقة، وهو الافتراض الذي ساعد في توجيه سياسة إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لسنوات، بينما رأت إدارة جورج بوش الابن أن إصلاح الأنظمة الاستبدادية من شأنه أن يؤدي إلى السلام، ولا يزال الخلاف قائما.الافتراض الخاطئ الثالث هو أن الديمقراطية يمكن أن تزدهر بدون ديمقراطيين. والرابع هو أن الثقافة والهوية لا يهمان وعكسهما – الهوية والثقافة يفسران كل شيء. والاقتراض الخامس، الذي يرى أن الناس في كل مكان يريدون الأشياء نفسها وبالتالي يمكن المساومة على ما يريدون. لكن ربما كان الأهم والأخطر هو الافتراض السادس والأخير الذي يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بالقوة، وأن مسؤوليها يمتلكون البصيرة والحكمة اللازمة لصياغة التحول السياسي الإقليمي، وهو افتراض أثبتت الحرب الحالية أن الولايات المتحدة ليست سوى طرف من الأطراف التي يتعين عليها المناورة من أجل تمرير سياساتها، وإقناع الأطراف الأخرى بقبول تصوراتها للحل. 

الحقيقة التي أظهرها العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، منذ عملية طوفان الأقصى، للجميع هو التحول الذي يحدثه سيطرة المتشددين والمتطرفين على مقاليد السلطة والقرار بالنسبة لنمط الصراعات، بشكل عام، والصراعات الممتدة مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بأبعاده الإقليمية والدولية على وجه التحديد. ففي ظل حكومات يسيطر عليها المتطرفون والمتشددون الذين يُحكّمون تصوراتهم عن الواقع، ويغلّبونها على مسارات التطور الفعلية، يتحول الصراع من مباراة غير صفرية تقبل المساومات والحلول الوسط ويحسب تطورها بالنقاط مما يفتح الباب لإمكانية تسويتها، إلى صراعات صفرية لا مجال للتفاوض فيها ولا مجال للتسوية، وإنما فقط مواصلة القتال إلى أن يتمكن أحد طرفي الصراع من القضاء على الطرف الآخر، أو أن يصل الطرفان معاً إلى حد من الإنهاك يجعلهم غير قادرين على مواصلة القتال. إن استمرار الحرب في غزة والتي دخلت شهرها التاسع، مؤشر على هذا التحول، خصوصاً أن الأمل في إنهاء الجولة الراهنة من القتل مرهون بضعف قدرة الطرفين معا على القتال، أو حدوث تغيرات في البيئة الداخلية تفسح المجال لتبني نهج آخر لمواصلة الصراع، غير الحرب أو حسم الصراع بالوسائل العسكرية. 

وبالرغم من صدور قرار مجلس الأمن إلا أنه لا تلوح في الأفق أي فرصة لهدنة دائمة، وإنما قد يتم التوصل إلى هدنة مؤقتة، وبذل جهود مضنية لإقناع المتشددين بقبولها، فالقرار يرسم مساراً لإنهاء الحرب لكنه ترك آلية تنفيذه للتفاوض غير المباشر بين الطرفين، ولم يتضمن آلية محددة لمعاقبة الطرف الذي يعرقل التوصل للتسوية ويهدد بتصعيد الحرب إلى جبهات أخرى مثل الجبهة اللبنانية والسورية. إن القوى المؤثرة لم تمتلك الجرأة بعد للوقوف في وجه نتنياهو رغم إدراك الجميع أن أحد الأسباب الرئيسية لمواصلة الحرب هو تجنب المحاكمة والسجن.

وختاماً، لا شك فيه أن الطريقة التي تنتهي بها الحرب الراهنة سترسم ملامح الصراع في المستقبل القريب والبعيد، والمرجح أنه حتى لو تم التوصل إلى هدنة أكثر استدامة فإنها لن تمنع اندلاع مواجهات عسكرية أخرى طالما ظلت القضية الفلسطينية بلا حل وأن هذا وضع يمنح أفضلية للقوى الأكثر تشدداً في استطلاعات الرأي وفي الانتخابات، ففي مارس الماضي، أفاد المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن نسبة التأييد لهجمات أكتوبر التي شنتها حماس وفصائل المقاومة بين الفلسطينيين بلغت 71%، وأظهر الاستطلاع نفسه أن 70% من الفلسطينيين راضون عن حماس وأن ثلثيهم تقريباً يفضلون حكم حماس في غزة بعد الحرب. 

وفي ظل وضع كهذا سيكون من الصعب على الوسطاء إيجاد صيغة للخروج من المأزق الراهن ما لم تتوافر إرادة دولية حازمة تفرض حلا عادلا للصراع يلبي جانبا من تطلعات وطموحات طرفيه ويتضمن آلية لإلزام جميع الأطراف بالامتثال. وفي النهاية، لا يمكن الحديث عن مستقبل لغزة دون أن يكون هناك تصور للمستقبل في فلسطين..
--------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان