26 - 06 - 2024

رِيادةُ التَّنويرِ بين الطَّهطاويِّ والطَّنطاويِّ

رِيادةُ التَّنويرِ بين الطَّهطاويِّ والطَّنطاويِّ

ما أغربَ الحياةَ الإنسانيَّةَ! وما أكثرَ ما تُخفيه عنَّا!

يُعدُّ محمد عيَّاد الطنطاويّ صِنو الشيخ رِفاعة رافع الطَّهطَاوِيّ (1801-1873م)، وبينما لاقى  الطَّهطَاوِيّ اهتماما فائقًا ظلَّ الطَّنْطَاوِيّ يتعرَّضُ لغُبنٍ شَديدٍ، معَ عِظَم قَدرهِ الذي عَرَفه له الأوربيُّون والمستشرقونَ؛  الذين أفاضُوا في تكريمه، والثَّناءِ عليه، ولعلَّ فيهذا البحثِ نَزرًا يسيرًا يردُّ بعضَ حقِّ الطَّنْطَاوِيّ ورحلتهِ.

تتلمذَ الشيخانِ: الطَّهطاويُّ، والطَّنطاويُّ، على الشّيخ حسن العطَّار(1766-1835م)، واتّجهَ الطَّهطَاوِيُّ بفضلِ وساطتِه، وتوجيهِه إلى فَرنسا، وكوَّن صُورُولوجيا(Imagologie) لافتةً في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وحفرَ اسمهُ في صدارة أُدباء النّهضة الحديثةِ التي عدّه الكثيرون أبرزَ مؤسِّسيها، ليس في الأدب وحدَه، بل في كثيرٍ من العلوم، والمعارفِ، وصار أبًا لليقظة المصريّة والعربيّة، ورائدًا للثّقافة العربيّة والإسلاميّةِ، ولكلّ الذين يعتزُّون بهذه النّهضة على هذا الوَجه، في حين ظلّ الطَّنْطَاوِيّ خاملَ الذِّكرِ، لم تَحظَ رحلتهُ الفريدةُ إلى رُوسيا المُسمَّاة "تُحفَة الأذكياء بأخبار بلاد الرُّوسيا1840-1850م" على عظيم أهميَّتها إلا بمجموعةِ مقالاتٍ متفرِّقة هنا وهناكَ حتَّى قُمتُ بتحقيقِها ونشرها مع دراسةٍ ضافيةٍ.

وهناك من ألقَى بالتَّبعةِ في هذه الغَفْلة وهذا الإِغفَالِ على الطَّنطاويِّ نفسه؛ لأنَّه  ألِفَ الرُّوسَ، وألِفوه إلى درجةٍ جَعلتْهُ يفقدُ فيها احتمالَ عودته إلى وطنه مِصر،وبالفِعل لم يعُدْ.

ويعزو المُستشرق الرُّوسيُّ كَراتشكُوفسكي(1883-1951م)؛ أعظمُ مَن التفت إلى تُراثه في نهايةِ النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، السَّببَ في هذا الإهمالِ إلى طبيعةِ الطّنطاويّ الانعزاليّة؛ فقد استغرقَه التّدريسُ، وشغلهُ عن الحياة الصّحفيّة، والاشتراك في ندواتِ المشاهير. 

كانت بين الطَّنطاويِّ والطَّهطَاوِيِّ مُراسلاتٌ عَديدةٌ يَظهَرُ فيها شَغفُهُ بالمقارنة بين حياةِ المصريّينَ والأُوربيّينَ في ترتيبهم، وحُسْنِ إدارتِهم، وجمالِ عِمارتِهم، وريفِهم،"وبيوتِهم.

  وبقيت رحلةُ الطَّنْطَاوِيّ غُفلًا مع كونهِ رائدًا أصيلًا للتَّنوير؛ كما يبدو من رحلتهِ إلى الشَّرقيَّة  لا يقلُّ دورهُ عن رفاعة الطَّهطَاوِيّ في رحلتهِ إلى أوروبا الغربيّة. 

وأرى أنه قد صدق في الطنطاويِّ ما قاله في مقدِّمتِه البديعةِ، أو خُطبتهِ لتُحفتهِ، وكأنَّنا باستنطاقِ خِطابهِ نجدُه يتحدَّثُ عن نفسه "وصَلَاةً وَسَلَامًا عَلَى سيِّدنا مُحمَّدٍ مَنْ جَفَاهُ أَهلُ بَلَدِه، وَودَّهُ الغُربَاءُ؛ فهَاجرَ هِجرَةً طيِّبةً إلى المدِينَةِ الغَرَّاءِ، وعَلَى آلِهِ المهَاجِرِينَ والأنْصَارِ، آناءَ اللَّيلِ وأَطرَافَ النّهارِ".

نعم؛ فقد جفاه هو أيضًا أهل بلده، وودَّهُ الغرباءُ، وكان مُعظّمًا عندَهم غاية التَّعظيمِ، مُحترمًا إلى نهايةِ الاحترامِ، حيًّا وميّتًا؛ يتحدَّثون عنه كأنَّهُ أحد أبطال السِّير الشَّعبيَّةِ، أو الأساطير القديمة بعبارات رومانتيكيَّةٍ، تفيضُ حبًّا وتقديرًا؛ فهذا يصفُه بالرَّجل المهيبِ في حُلَّتهِ الشَّرقيَّة ولباسهِ الأزهريّ، وعيونه التي تشعُّ منها آياتُ العبقريَّة، المسكونة بالنّار المقدَّسة، يختالُ كما يختال الأبطال الظّافرون؛ إذ ربط بين نهر النيل ونهر العربية بسلاستِها وعذُوبتِها بِمنطقهِ الشّفيف، ونبره الأخّاذ، وذاك يفخر بأنَّهُ يَخطُو في الشَّارع الذي كان يسيرُ فيهِ هذا الشَّيخ الجليلُ الذي علَّم الأجيالَ العربيَّةَ وآدابَها، وآخر يقف ليقرأ شاهد قبره في فولكوفو بين مقابر المسلمين، وقد كتب عليه قبر المستشار برتبة عقيد؛ نعم فقد كرَّمهُ القيصرُ، وقلّده أعلى الأوسمة، ورسم له الفنان المشهور مارتينوڤ تلك الصُّورة الملهمةَ التي عُرِف بها، وقد جمعت  في ملامحها هذا التَّنافُذ الحضَاريّ والثَّقافيّ ممثَّلًا في نياشينِ القيصرِ فوق زيِّهِ الأزهريّ في ابتسامةِ خلَّابةٍ.

 إنَّهُ الشَّخصيَّةُ الفريدة التي شغلتهم طويلًا حتى تفرّغ لقصِّ حكايتها أحد كبار المستشرقين الرُّوس وأعظمهم؛ أعني كراتشكوڤسكي خمسة عشر عامًا، ورأى  في جهده هذا أنَّه أقلُّ الوفاءِ لهذا النّبيل الذي أعطى ولم يأخذ، وعلّم وتركَ أسفارًا تعلّم، وأثرًا لا يُمحى في العلاقة بين الشرق الإسلامي، والثَّقافتين الشَّرقيَّة المسيحيَّة والغربيَّة؛ ولا غرو بعد ذلك أن يصف عمله بأنّه الأهم في كل مؤلفاته الكثيرة، وموسوعاته، وأن يفتخر بذلك ويرى غاية الشرفِ أن يمتلك من مخطوطات الشيخ ومسوداته التي بلغت مائة وخمسين مخطوطة بين تأليف وتعقيب وتحشية ما لايملكه بنو وطنه ، فضلًا عن أوراقه التي كان يحرِّك فيها قلمَه محاولًا الكتابة رغم الشَّلل الذي سيطر على جسده ، ورأى أن يوضع اسمه في الموسوعة العالمية المعروفة بدائرة المعارف الإسلامية بوصفه أحد الأفذاذ الذين شرفوا تاريخ الثقافة الإنسانية ، وأن تصويره الدقيق لروسيا في"تحفة الأذكياء" لايقدر بثمن؛ فالطنطاوي نموذجٌ فريدٌ للإرادة الصُّلبة التي لاتعرف التقهقر والاستسلام ؛ إنّهُ البطَلُ الأسطوريُّ الذي ماتَ بنارٍ شرّيرة،  ولكنّه مات واقفًا شامِخًا لم يلتفت إلى بريقٍ مزيَّفٍ.
---------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)

* وكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش


مقالات اخرى للكاتب

أعلامٌ منَ الغربيَّة(2) | النَّبيلُ محمد المنسِي قِنْدِيل .. عبقريَّةُ التَّأليفِ في زمن النَّسْخِ





اعلان