26 - 06 - 2024

الأمل واللا أمل يتصارعان عند عتبة تضامن الشعوب الغربية مع غزة!

الأمل واللا أمل يتصارعان عند عتبة تضامن الشعوب الغربية مع غزة!

* أسباب التضامن.. وهل سيؤدي إلى إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني؟

في عالم يحكمه القوي ويفرض مخططاته على الضعفاء، يبقى التعويل على صحوة الضمير العالمي هو الأمل الذي يتعلق به المضطهَد، فليس هناك اقوى من الضمير، يصحو لكي يهز أعتى معاقل المتجبرين، كما شهده شعب جنوب افريقيا ومن قبله شعب فيتنام في تاريخنا المعاصر. ولكن هل لهذا الأمل أن يؤدي إلى فرض واقع يتيح للمضطَهد أن ينال حقوقه؟

التظاهرات الأسبوعية التي لا تتوقف في العواصم الأوروبية، جمع التواقيع وتقديمها للبرلمانات الأوروبية من اجل وقف الحرب ومن أجل إدانة إسرائيل، الاعتصام في معظم الجامعات الأمريكية وما تعرض له الطلبة من ملاحقات واعتقالات والذي تبعته اعتصامات مشابهة في الجامعات الأوروبية وفي كثير من جامعات العالم.. كل ذلك يمثل حملة تضامنية غير مسبوقة لم تعتد أن تراها شوارع المدن الأوروبية وشوارع مدن الغرب بشكل عام. وفي طبيعة الحال فإن التظاهرات والاعتصامات وحملات الإدانة وغيرها ليست جديدة على الشعوب الغربية، بل إن ذلك ما تتبجح به هذه الدول بما تسميه حرية الرأي والتعبير. أما أن تكون هذه الحملة موجهة ضد اسرائيل، فهذا لم تشهده من قبل وبالتأكيد ليس بهذه الشدة، ولو ان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982 صاحبته حملة اعتراض واسعة من قبل الشعوب الأوروبية، إلا أن الحكومة الأميركية برئاسة رونالد ريغان آنذاك ارتأت، على عكس الإدارة الأمريكية الحالية، أن تتدخل وتفرض على حكومة بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وشارون وزير الدفاع وصاحب خطة الاجتياح التوقف عن حملتهما الوحشية وخطة شارون الذي أقنع حكومته ببنودها التي نصت على القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، إيقاف نفوذ الجيش السوري في لبنان، وتنصيب بشير الجميل رئيسا للبنان، وبالتالي ضم لبنان إلى مشروع التطبيع مع العرب، مثل مصر. وبعد موافقة الحكومة الإسرائيلية على خطة شارون، قاد بنفسه الاجتياح وساعد في المجازر التي ارتكبت آنذاك في مخيمات الفلسطينيين، حتى جاء الاعتراض الأمريكي، وبدأ التفاوض على خطة مستقبلية، أدت الى نقل مقر منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، وتأمين ممر آمن لأعضاء المنظمة للخروج من لبنان. وبذلك استطاعت أمريكا أن تسكت الشارع الأوروبي. ولقصر فترة الاجتياح وتدبره من قبل العم سام، المخلّص، استأثرت إسرائيل بالنصر وأطلقت العنان لدعايتها الصهيونية لكي تمحو آثار مجازرها في بيروت، وبالذات في مخيمي صبرا وشاتيلا.


مخطط بايدن للشرق الأوسط

واليوم، رغم اتساع رقعة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي لتشمل، إضافة إلى مصر والأردن، الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، ورغم أن السعودية كانت على وشك الانضمام إلى صف التطبيع، كما جاء على لسان ولي عهدها في مقابلة له مع قناة الـ CNN، بأن مشروع التطبيع مع إسرائيل على الطاولة، إلا أن أحداث السابع من أكتوبر لم تعرقل المشروع فحسب، وإنما وضعت إيجاد حل للقضية الفلسطينية على أولويات الضرورة الجيوسياسية في المنطقة، بما في ذلك مستقبل شكل دولة إسرائيل التي كانت تسعى، بل متأكدة من أنها ستغّيب دور الفلسطينيين في هذه القضية، وستحقق حلمها في إنشاء إسرائيل الكبرى، التي تمتد من نهر الأردن إلى البحر المتوسط. وهذا ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتنياهو في اجتماع هيئة الأمم المتحدة قبل أشهر قليلة من أحداث السابع من أكتوبر. بذلك توقف الحلم الإسرائيلي، وتعطلت خطة بايدن في إنشاء شرق أوسط جديد، تندمج فيه إسرائيل اقتصاديا وسياسيا وعسكريا بإنشاء خط بري مباشر بين شرق الجزيرة العربية إلى إسرائيل، مارا في الأردن. كذلك في إنشاء قواعد عسكرية في الخليج وشمال البحر الأحمر، كما كشف عنه العديد من المحللين السياسيين الأمريكيين ونشرته صحيفة الفورين بوليسي بعنوان ”صفقة بايدن الكبرى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط". وتهدف هذه الخطة من خلال الطريق الإستراتيجي البري ومد خطوط نقل الطاقة بريا وإنشاء القواعد العسكرية إلى إضعاف الموقع الإستراتيجي لليمن ومصر، وإضعاف العراق ليصبح أكثر اعتمادا على ممرات نقل الطاقة في الخليج. ولكن كل ذلك تعرقل بعد السابع من أكتوبر.


تضامن شعوب الغرب مع الفلسطينيين

ما أعقب ذلك اليوم من شن حرب على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية لم يكن جديدا على العالم، وإنما الوحشية العارمة التي تم بها، وتصريحات القادة الإسرائيليين بما ينوون فعله بالفلسطينيين أصاب العالم بصدمة كبيرة، أدت إلى فقدان الشعوب الغربية قدرتها على التعبير في البداية، لا سيما وأن أبواق الدعاية الإسرائيلية انفتحت على كل المنصات الإعلامية لبث سردية جديدة لجرائم المقاومة الفلسطينية وتمثيلها بمحرقة هتلر! غير أن إمعان الجيش الإسرائيلي في جرائمه والدمار الذي ألحقه في غزة وعدد القتلى من الشعب الفلسطيني كان كفيلا بتحريك ضمائر الشعوب الغربية التي اندفعت إلى الشوارع للتعبير عن معارضتها لمثل هذا العدوان، الذي بات هدفه معلنا، ألا وهو إبادة ما يمكن إبادته من الفلسطينيين وإبعاد الباقي من الشعب عن أرضهم. ولنا أن نوجز الأسباب المجتمعة لمثل هذا الحراك في المجتمعات الأوروبية وإعلانها التضامن مع الفلسطينيين على النحو التالي:    

- أولا .. موقف الحكومات الأوروبية، علينا أن نُذَكّر أن معظم الحكومات الأوروبية قد ابتعدت عن شعوبها في السنين الأخيرة، وأصبحت لا تمثلها كما كان يهيأ للشعوب نفسها. وقد انعكس ذلك في انتعاش اليمين المتطرف واليسار المتطرف في البرلمانات الأوروبية حتى وصل إلى البرلمان الأوروبي. فقد شهدت الانتخابات الأخيرة في التاسع من الشهر الجاري، صعودا غير مسبوق لليمين، الذي حصل على أكثر من ثلث الأعضاء، 34% ، في البرلمان، متجاوزا بذلك كل من الديمقراطيين الاشتراكيين والمحافظين. كما اتسع التذمر الشعبي من الحكومات الأوروبية بعد اتضاح ولاء هذه الحكومات غير المشروط لأمريكا، بدءًا بحرب أوكرانيا وتزايده غير المبرر في حرب إسرائيل على غزة، التي كشفت عن دور اللوبي الإسرائيلي وتأثيره على الحكومات الأوروبية، أمرا لم يدركه المواطن الأوروبي قبل هذه الحرب، عندما كان يظن في السابق أن وجود اللوبي الإسرائيلي وتأثيره يقتصر على الولايات المتحدة فقط. كذلك ازدادت المخاوف أثناء هذه الحرب من فقدان أوروبا الواضح لاستقلاليتها على الساحة السياسية العالمية، مما سيؤثر بالضرورة على علاقاتها الاقتصادية مع شعوب العالم، لا سيما ما يسمى بالجنوب العالمي. 

- ثانيا .. دور الناشط العربي.. وهذا ما له أهمية قصوى متمثلا في نجاح العرب في العديد من الدول الأوروبية، في التحدث بأسلوب غير عربي، أي غير عاطفي، بل منطقي كما يقبله المواطن الأوروبي، معتمدا على الدلائل والإحصائيات المدعومة بالمنطق والتاريخ والوثائق المتفق عليها من قبل المجتمع الدولي في هيئة الأمم المتحدة. إضافة إلى أن المتحدثين طرحوا الأمر كقضية أرض وحقوق شعب، وابتعدوا عن حصرها في حركة حماس فقط، وواكبوا على التذكير بأفعال إسرائيل منذ تأسيسها. وصاحب ذلك نشاط سكان غزة في توصيل الصور الحية للدمار والاضطهاد وعدد القتلى المتزايد كل يوم، خاصة في التركيز على الأطفال والنساء، مما دفع الأوروبيين وأولئك من الأصول غير أوروبية لنشرها بالرغم من مضايقات مالكي منصات التواصل الاجتماعي.  

- ثالثا.. تعثر المتحدثين والموالين لاسرائيل في تبرير بشاعة العدوان الإسرائيلي الذي خرج هذه المرة عن كل الأعراف المتبعة عالميا، وإصرارهم على مقولة ”حق الدفاع عن النفس“ غير المشروعة لدولة احتلال  كما هو مقر من قبل هيئة الأمم المتحدة. 

- رابعا.. طول مدة الحرب على غزة.. فقد اعتادت إسرائيل في حروبها السابقة على الحسم العسكري السريع وارتكاب أكبر المجازر في وقت قصير جدا قبل الذهاب إلى التفاوض والتوصل الى هدنة تتيح لها محو جرائمها. غير أنه في هذا العدوان لم تتمكن من حسم الصراع مبكرا، مما جعلها تغوص في مستنقع جرائم جعل سكرتير العام للامم المتحدة، انطونيو غوتيرش، يعلن، دون تردد أو مخاوف، موقفه من العدوان منذ بدايته بمقولته الشهيرة ”إن السابع من أكتوبر لم يأت من الفراغ!"، واستمر في الثبات على موقفه رغم اتهامه بالانحياز للفلسطينيين من قبل إسرائيل، وادعاء ممثليها بأنه يمارس سياسة ”شيوعية!" هدفها معاداة السامية والصهيونية. كذلك لم يتوان ممثلو الهيئات الانسانية التابعة لهيئة الأمم المتحدة في فضح جرائم إسرائيل في الأرض المحتلة يوميا. ومثل هذا الدور لم نشهده من قبل، حيث كانت الأمم المتحدة برؤسائها وممثليها تتحاشى التصادم مع إسرائيل وأمريكا. أما موقف محكمة العدل الدولية التي سمحت بمناقشة وثيقة جمهورية جنوب أفريقيا، وخروجها ببيان ينص على أن مزاعم جنوب أفريقيا موضوعية، وتشير إلى إمكانية حدوث إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، أعقبه مطالبة المدعي العام قضاة محكمة الجنايات الدولية بالتصديق على أمر ملاحقة واعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، فقد أوضح للجميع أن هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها المهنية والإنسانية تقوم بدورها الذي تأسست من أجله، مما كشف عن فشل الضغوطات الإسرائيلية هذه المرة، لأنها اختارت طريقا كانت تتوقع فيه وقوف العالم في جانبها، وخططت لاستغلال هذا التضامن من أجل تصفية القضية الفلسطينية كما تشاء هي، مما يتيح لها تصفية الفلسطينيين بعد ذلك. 

لقد كانت تراهن أيضا على ضعف المقاومة وعدم صمودها من ناحية وجهل العرب في إدارة المفاوضات من جهة ثانية. وهنا لنا أن نشير ان اسرائيل كانت دوما تؤكد وتراهن على خداع العرب والفلسطينيين أثناء المفاوضات التي تجيدها، وهناك قول شائع في إسرائيل وهو، "أن العرب، مهما كانت عزيمتهم في النضال، فإنهم جهلة في المفاوضات ومن السهل خداعهم"، ولها الحق في ذلك، فالتاريخ يشهد على ذلك منذ اتفاقيات الحرب العالمية الأولى مع المستعمرين الخادعين وما تبعها من اتفاقيات حتى اليوم. ولكنها اصطدمت هذه المرة بمفاوضين لم تعهدهم من قبل فهموا اللعبة الإسرائيلية في التفاوض. 

كما واصطدمت ايضا بتوحيد النضال بين معظم فصائل المقاومة، حيث نشهد حماس تقاتل مع الجهاد ومع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في غزة وحزب الله في لينان والحوثيين في اليمن وفصائل المقاومة في العراق، إضافة إلى الإصرار غير المسبوق من قبل المقاومة الشعبية التي تمثلت في صمود الغزاويين وسكان الضفة رغم سياسة القصف والتدمير والتجويع..الخ من الممارسات اللا إنسانية التي تمارسها إسرائيل اليوم.


هكذا نرى أن جميع الأسباب المذكورة أعلاه أدت إلى مثل هذه الصحوة الأوروبية لضرورة التضامن مع الفلسطينيين، ونشاهد يوميا الشباب الأوروبي وهم يرتدون الكوفية الفلسطينية وعلم فلسطين معلقا على قطعة من ملابسهم او حقائبهم او سلسلة أعناقهم، أما الفيسبوك، فان الحملة الإسرائيلية التي كشفتها مؤخرا صحيفة الجارديان، تؤكد على قيام إسرائيل بفتح حسابات مزورة لبث سردية الجيش الإسرائيلي من جهة، ولبث دعاية مشبوهة بانتحال أصحاب هذه الحسابات صفة الفلسطينيين يهللون للقتل والاغتصاب والوحشية، ويطلقون مقولات ضد السامية، وهو سلاح إسرائيل الوحيد. 

أما إن كان من الممكن لهذه الصحوة الشعبية في الغرب أن تحقق نتائج ايجابية، غير ما تريده الحكومات الغربية، فهذا ما ستثبته الأيام القادمة. أما الأمل فيستمد استمراريته من حملة التضامن هذه، واعلان ايرلندا والنرويج واسبانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية، ومقاطعات الدول هنا وهناك.

ان كل نحشاه اليوم نشاط التدخل الأمريكي المباشر. فبعد أن استطاعت الولايات المتحدة أن تعطل جميع مقترحات السلام في مجلس الأمن على مدى ثمانية شهور، توصلت إلى صيغة إسرائيلية تريد أن تفرضها الآن بإرسالها وزير خارجيتها، بلينكن، في جولة مكوكية إلى دول المنطقة، والذي لم يتوان في أي حديث صحفي عن إلقاء اللوم على حركة حماس، وأنها من يعرقل السلام في المنطقة، دون ذكر لأي من فصائل المقاومة الاخرى، وذلك لأن الإدارة الأمريكية، كما هي إسرائيل، تريد الترويج للصراع على أنه صراع سياسي أو ديني مع حماس فقط. وللاسف فالجميع يعلم أن الولايات المتحدة لا تزال الثقل المؤثر على أصحاب القرار في المنطقة.. جميعهم. ويمكن لهؤلاء أن يؤثروا على المقاومة التي ليس لها سوى اللجوء إلى غير العرب والمسلمين!! ولكن الأمل يبقى معلقا بمفاجآت إيجابية تقف الى جانب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
-----------------------------
بقلم: د. سليم العبدلي
شاعر ومترجم وعالم فيزيائي دنماركي

مقالات اخرى للكاتب

الأمل واللا أمل يتصارعان عند عتبة تضامن الشعوب الغربية مع غزة!





اعلان