26 - 06 - 2024

أعلامٌ منَ الغربيَّة(2) | النَّبيلُ محمد المنسِي قِنْدِيل .. عبقريَّةُ التَّأليفِ في زمن النَّسْخِ

أعلامٌ منَ الغربيَّة(2) | النَّبيلُ محمد المنسِي قِنْدِيل .. عبقريَّةُ التَّأليفِ في زمن النَّسْخِ

لعلَّ ذِكرَ أيّ روائيّ يستحضِرُ مشروعَهُ ولُغتهُ، وما أُثيرَ حَولهُ من أيقُوناتٍ، وجوائزَ، ومعاركَ، وكتاباتٍ في نقدهِ، أو نقضِهِ، كما تستحضِرُ أولئكَ الذين يمدحُونَ كُلَّ من يكتبونَ عنهُم إن حقًّا وإنْ زورًا وبهتانًا، أو المهاجمين الذين لا يتورّعون عن خَلْطِ الذّاتيّ بالموضُوعيّ، والشَّخصِيّ  بالأَدَبيّ والنّقديّ، كما قد يُستحضَرُ عملُهُ المهنيّ، وما أضافهُ إليهِ، أو نالَ من مَوهبتِهِ...!

 ولكنَّنا أمامَ مَشرُوعِ المنسِيّ قِنديل مُضْطَرُّون أنْ نفارقَ كلَّ ما تعارفنا عليهِ في هذهِ الكِتابَاتِ النَّقديَّةِ؛ فالمنسيُّ منَ النَّاحيةِ الشّخصيَّةِ مَعروفٌ باستقرارهِ الأُسَرِيّ، و تفوُّقهِ العِلمِيّ منذُ نشَأَ في مدارِسِ المحلَّةِ الكُبرى، والتحَاقِهِ بكُليَّةِ الطِّبّ في المنصُورةِ، واشتغَالِهِ طبيبًا بالأريافِ، حتَّى اعتزلَ الطِّبَّ وتفرَّغَ للأدبِ تفرُّغًا يليقُ بهما، وسجَّل أَطيافًا من حيَاتهِ الشّخصِيَّةِ ورُوحِها، وخلاصَةِ تجربتهِ في سَردهِ في روايتهِ المراوغةِ (انكسار الرُّوحِ)، ووروايتِهِ السّيريَّةِ (طبيب أريافٍ) التي جمعَ فيها بين مشاعِرهِ وعواطفهِ الخاصَّةِ، وأفكَارهِ السّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ، ونضالهِ السّياسيّ الذي يلخّصُ من خِلالهِ ما يدُورُ في مصر من أَحداثٍ في أواخِرِ السّبعينيَّاتِ وأوائلِ الثمانينيَّاتِ، وهي المرحلةُ المهضُومةُ في الكِتابةِ،مع كونِها الأكثرَ تأثيرًا في واقعِنا المعاصِرِ...!

ولقنديل مغامراتٌ روائيَّةٌ غيرُ مسبوقةٍ، يخترقُ فيها حُصُرَ السَّردِ ليصلَ إلى المسكوتِ عنهُ في العَلاقةِ بين المسلمينَ والمسيحيّين في تارِيخ مصرَ الحديثِ، وتهريب الآثار المصريَّةِ، والخياناتِ بأنواعِها المختلِفَةِ، وتجارب الحُبِّ المستحيلةِ، والنَّظَر إلى منطقِ الحلالِ والحرام وَفقَ تغيُّر زاويةِ النَّظرِ، والبحث وراء ما فيه الحفاظِ على بقاءِ الإنسانِ وحقوقِهِ التي جاءت الدّياناتُ لتحفظَها لهُ، وتضمنَ له سعادتَهُ؛ وهو ما نجِدُهُ في بحثِهِ عن تجربةِ الحُريَّةِ الإنسانيَّةِ بمعناها الواسعِ في مواجهةِ كُلِّ صُورِ العُبُوديَّةِ في روايتهِ الأيقونيَّةِ ( كَتيبَة سَوْدَاء)...

وهذه الجرأةُ في اختراقِ المحظُورِ في روايتِهِ (أنا عَشِقتُ) التي اُتُّهِم فيها، بسببِ القِراءاتِ السّطحيَّة، بالصِّدَامِ مع القيمِ المجتمعيَّةِ في نقدٍ أخلاقيٍّ سطحيٍّ، ناقشَ الرّوايةَ بعيدًا عن سِياقاتِها، وبمَعْزِلٍ عن مشروعهِ الرّوائيِّ...!

حاولَ المنسيّ قنديل أنْ يسدّ الفجواتِ السّرديَّةَ لخريطةِ مشروعهِ المكتملِ في وعيهِ بمعالجة التِّيماتِ الصّعبةِ في تاريخنا القديمِ والمعاصر بطريقتينِ؛ هما: السَّرُد القصصيُّ فيما كتبهُ من مجموعاتٍ قَصَصيَّةٍ استطاعَ فيها أن يعالجَ قضَايا دقيقَةً، لم تسبق معالجتها لدى غيره من السَّاردين، والجانب الثّاني، وهو الأهمُّ فيما أعتقدُ، َّ ما كتبهُ من اختياراتٍ من كتبِ التّاريخ العربيِّ السّياسِيّ وَالأدبيّ؛  فمن الأوَّلِ ما  نجدُهُ  في كتابهِ ( تفاصيل الشّجن في وقائع الزّمن)، وهو كتابٌ فريدٌ في مخطَّطهِ السَّرديّ، ومُراوغتِهِ في الجمعِ بين قصصٍ مِفصليَّةٍ واقعيَّةٍ من تاريخنا السّياسيّ في بغدادَ، ودمشقَ، والكوفةِ، والبصْرة، والموصِلِ، والجزيرة، ومصر، والمغرِب، ينطلقُ فيهِ من دوائرِ المكيدةِ والجمالِ، والحبِّ المحفوفِ بالمخاطرِ والدّماء في عوالمِ النّسَاء الأَميراتِ والشّاعراتِ والأديباتِ والخادماتِ والدّواهِي إلى عالمِ المؤْنِسَات الملائكيَّاتِ، وما صنعْنَهُ بهذا التّاريخِ الذُّكوري في ظاهِرهِ، وما أحدثْنَهُ من بساتينِ ورودٍ، وخطَّطْنَهُ من برك دِماءٍ من قتلِ الآباءِ والأَبناءِ، واستخلاص العِبرِ من تاريخِ البَشَرِ فيمَا يعِزُّ علينا في كُتبِ السَّابقينَ والمعاصِرينَ...!

ولعلَّ هذه السَّرديَّة تأتي بمَذَاقٍ روائيٍّ مختلفٍ في روايتيهِ ( يوم غائب في البّرّ  الغربيّ)، و(قمر على سمرقند)، وغيرهما.

ويبدُو أنَّ هذه الأُحبولَةَ المحكمَةَ الصُّنعِ قد أعجبَهُ صيدُها؛ فأَعملَها في ثلاثينَ حكايةً من حكاياتِ التَّاريخِ؛ فتوسَّعَ فيها في كتابِهِ ( لَحْظَة تارِيخٍ)، وواضِحٌ أنَّهُ آثر الإفرادَ في التَّعبير عن الجَمعِ ترميزًا للحكاياتِ التي تعيدُ نفسَها، واللَّحَظاتِ التي تُعِيدُ لحظةً مُعيَّنةً منَ التّاريخِ.

وللمنسِيِّ في هذا الصّددِ كتابٌ أرى أن يكونَ مُقرَّرًا من مقرَّرات التَّربيةِ والتَّعليم، إن أردنا إصلَاحًا، يستدعيهِ من بطونِ أشهرِ كتبِ الأدبِ العربيّ طُرًّا؛ أعني كتابَهُ ( شَخصِيَّات حَيَّة من كتابِ الأَغاني) الذي يختارُ فيه أيضًا ثلاثينَ حكايةً أُخرى من حكاياتهِ، تمتدُّ من العصر الجاهليّ إلى نهايةِ العبّاسيّ؛ ليستخرجَ لنا خلاصَةَ التّاريخِ الأدبيّ؛ كما استخلصَ لَنا خُلَاصَةَ التّاريخَ السّياسيّ في مختاراتهِ السّياسيَّةِ والتَّاريخيَّةِ.

 ومع كلِّ ما تقدَّمَ  من هذه العبقريَّةِ في التَّأْليفِ المتفَرِّدِ الذي لا يعتمدُ على نسخِ تجاربِ الآخرينَ، أو مَسخِها فلم يحظَ المنسي قنديل إلا على جائزة الدّولة التَّشجيعيَّة سنة 1988م عن مجموعته القصصيَّة (من قتل مريم الصَّافي) التي تضم أربع عشرة قصَّة مختلفة اختلافًا بيّنًا...!

لم ينسَ  قنديل قضيَّة النّاشئة واليافعين فكتبَ لهم كتبًا من أهمّ الكتبِ التي يجبُ أن نكتبَ عنها، ونعيدَها لصَدارة المؤلّفاتِ الأعلَى قراءةً لنُدرة هذا النَّوع من الكتابةِ؛ كما في كتابهِ (عظماء في طفولتهم) الذي نشر ، في سلسلة اقرأ التي تُصدرها دارُ المعارفِ، منذُ فترةٍ طويلةٍ تزيد عن ثلاثين عامًا، تناول فيها  عبقريَّات مختلفةٍ من التّاريخ العربي القديمِ؛ كالجاحظِ والبيرونيّ، وابن الهيثم، والفارابيّ، وابن خلدون، والتّاريخ المصري الحديث؛ كالعقَّاد، وطه حسين، وعبدالنّاصر، والتّاريخ العالميّ؛ كنابليون، وغانديّ، وتولستوي، وأديسون، ومدام كوري وغيرهم؛ مما يزيدُ عن عشرين عبقريَّةً...!

لعلَّ هذا التّفرُّد في التَّأليفِ، والنُّضْج الكامل لمشروع المنسي قنديل، وتنوُّعه، وثرائِه، هو ما يجعلنا نَصِفُ مشروعَهُ  بــ(عبقريَّةُ التَّأليفِ في زمن النَّسْخِ)، ونَصِفُهُ بالنُّبلِ الإنسانيّ عزيزِ التَّكرارِ؛ فالرّجلُ بعيدٌ عن تسويقِ نصُوصهِ التَّسْويق الرَّخيص المبتذَل، وبعيدٌ عن المطالبةِ بحقّهِ في التَّكريمِ المستّحقّ على كلّ المستوياتِ والأصعِدةِ...!

تحيَّةُ إعزازٍ وتكريمٍ ومحبَّةٍ لهذا الأديبِ الكبيرِ النَّبيلِ في زمَنِ تربَّعَ فيهِ أقزامٌ كثيرونَ على منصَّاتِ التَّتويجِ والتَّكْريمِ والاحتفاءِ والجوائزِ...!
----------------------------------
بقلم: أ.د. محمد سيد علي عبدالعال ( محمد عمر)
* وكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش

محمد المنسي قنديل (1948 - .... )

مقالات اخرى للكاتب

أعلامٌ منَ الغربيَّة(2) | النَّبيلُ محمد المنسِي قِنْدِيل .. عبقريَّةُ التَّأليفِ في زمن النَّسْخِ





اعلان