26 - 06 - 2024

حَجُ البيت .. ويُسر الإسلام ! (1)

حَجُ البيت .. ويُسر الإسلام ! (1)

أُثرَ عن سفيانَ الثوري أنّ التشدد والأخذ بالعزيمة يُجيدُه كلُّ واحد من أهل العلم، ولكن الفقه الحقيقي هو الرخصة من عالم ! فالله يُحب أن تُؤتي رخصُه، كما تُؤتي عزائمُه .

والأخذ بالرخص هو من سماحة ديننا، وحرصه علي التيسير، أحد بل أهم مقاصد الشريعة الغراء، فليس بغريب علينا القواعدُ الخمس : (الأمور بمقاصدها، المشقة تجلب التيسير، الضرر يزال، اليقين لا يزول بالشك، والعادة محكمة)، فجميع هذه القواعد تدعو للتيسير، وتُحارب التشدد والغلو، فهو والتفريط صنوان، فالتشدد، يُلزِم المسلم بما لا يلزم، والتفريط، يدفع صاحبه إلي ترك ما هو مأمور بإتيانه، فكلاهما تضييع للدين، وفك لعري الإسلام، إما بالزيادة، أو الترك ! برغم أنه أُثر أنه لا إفراط ولا تفريط .

ومن صور يسر الدين، ما ورد في مرويات الحج، ذلك الركن الدامغ بعالمية الإسلام أكثر من بقية أركانه من صلاة وصيام وزكاة، إذ جاء الخطاب في هذه الأركان مُوجها للمؤمنين، فيقول الله تعالي : (قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ۝١ ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ ۝٢ وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ۝٣ وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ ۝٤) .

كذلك الصيام، نادي الله المؤمنين بفرضيته، وبيّن أن الغاية منه هي التقوي، فقال سبحانه : ( يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون )، ولكنّ الأمرَ في الحج مختلفٌ، فجاء الخطاب للناس جميعا، حيث يقول سبحانه : ( وأذن في الناس بالحج، يأتوك رجالا، وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق)، ويقول : (ولله علي الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلا). فنداء الناس جميعا دليلٌ علي عالمية الإسلام .

أقول : ما أُثر عن النبي خلال حجة الوداع بقوله لمن سأله عن تقديم نُسك أو تأخيره : افعل ولا حرج دليلٌ علي يُسر الإسلام، ورفضه للغلو، الذي لا يصل بصاحبه إلي غاية، أو كثيرِ أجر، فقد صحّ عن النبي :  (إن المُنبتّ .. أي المتشدد لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقي) !

ومظاهر التيسير في الحج كثيرة، أذكر بعضها علي وعدٍ بذكر بقية المظاهر في مقال آخر؛ تجنبا لملل القارئ .

أول تلك المظاهر أنّ الله جعل من شروط الحج الاستطاعة، سواء بدنية أو مادية، أما الاستخفافُ بتشريعات الدول وتنظيماتها، والتحايل علي القوانين بحجة أن النفس مشتاقة، فهو افتئات وتنطع منهي عنه؛ لما ينتج عنه من مزاحمة لمن سلك السبلَ الشرعية، وبذل من أجلها الغالي والنفيس، كما أنه يُعرض الأنفس للهلاك، كما حدث خلال مناسك حج هذا العام، إذ إن كثيرا من الحجاج راح ضحية جشع شركات السياحة، وخلّف هؤلاء المفقودون وراءهم آلاما وجراحات لا تندمل.

ومن مظاهر التيسير - حماكم الله - أنّ النبي حج راكبا، وهذا يرد علي قائلي أن : ( الأجر علي قدر المشقة)، فالمشقة بلا ضرورة تكلف لا أجر عليه، وهذا ما أكده النبي لعروة بن مضرس، لما أخبره أنه ماترك جبلا إلا صعده، ولا واديا إلا نزله، فقال ﷺ : (من شهد صلاتنا هذه، ووقفَ معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد أتمّ حجه وقضى تفثه) . 

فجاءت كلمات النبي بردا وسلاما، وبرهانا علي يسر الإسلام، الذي سنكملُه في مقال قادم بإذن الله .
-------------------------------------
بقلم: صبري الموجي *
*مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

من وراء شُهداء منى؟





اعلان