29 - 06 - 2024

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :"صابر" "المصري"

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :

  من البدهي أن يتساءل من يطالع عنوان هذا المقال عن الهدف من استخدام علامات التنصيص فيه ، بل استخدامها بطريقة خاطئة ؛ بالنظر إلى القاعدة التي تحكم استخدامها كعلامة من علامات الترقيم في اللغة العربية . والإجابة أن هذا الاستخدام مطلوب منه أن يثير خيال القارئ العادي الذي قد يحمل العنوان على أنه إشارة إلى أن " المصري صابر " ؛ على المعاناة الهائلة التي يكابدها على مدار عقود ممتدة ، و تبررها دائما التقنية السلطوية التي يسمونها " المرحلة " ، و التي لها أصول عتيدة في الفكر السياسي الحديث . بيد أن القارئ المنتمي إلى شريحة المتقاعدين في ماسبيرو ، أو المنتسب بطريقة أو بأخرى إلى الهيئة الوطنية للإعلام ؛ سيفهم مباشرة أن المقصود هو الأستاذ صابر عباس - و شهرته صابر " المصري " - الذي رحل عن عالمنا التعيس قبل أيام معدودات !! 

يعتبره الجميع " عمدة " معاشات ماسبيرو ! و لا يأتيه مقام العمودية هذا من فراغ . فالحاج صابر المصري واحد من قلائل ضمن شريحة المتقاعدين في ماسبيرو يفهمون قضيتهم العادلة على نحو صحيح و متكامل ، و من مختلف جوانبها : المالية و الإدارية و الأمنية و السياسية . و هو يرتبط بعلاقات وثيقة مع مختلف أطراف القضية ، و تجمع بينه و بين رئيس الهيئة صداقة قوية و حميمة ، و جميع الإداريين و المسؤولين في الهيئة يعرفونه جيدا ، و يفتحون له أبوابهم على مصاريعها ، و هو يدير عددا من مجموعات التواصل الاجتماعي التي تربط بين أصحاب القضية و الموصولين بها - بمن فيهم الراصدون و المراقبون - و التي تعد الأكبر عددا و الأكثر تاثيرا في تفاعلات القضية و تطوراتها . 

على النحو الذي فهمته منه ؛ تنقل " العمدة " بين مواقع كثيرة للعمل في داخل الهيئة الوطنية للإعلام ؛ على امتداد مدة خدمته ، و انتهى به المطاف في قطاع الأمانة العامة . و عمل في القطاع الاقتصادي ، و ضمن الدائرة المحيطة بوزير الإعلام قبل إلغاء وزارة الإعلام ؛ بموجب الدستور الذي أفرزته لجنة الخمسين .

بين وقت و آخر ، و في أوقات غير تقليدية ؛ يرن هاتفي المحمول ؛ فيبهجني صوته الدافيء دائما على الطرف الآخر متحدثا في ودّ و احترام و استبشار . أفهم سريعا أن الأمر يتعلق بالإفضاء المحبب الذي ربما كان يخصني به و بعض الآخرين الذين يرتاح إليهم ، و يستأنس بهم . يظل يتحدث ، و أبقى مستمعا ؛ أحيانا لِمَا يقرب من الساعتين ! عن زوجته التي كان يحبها و يهتم بها و يعايدها في مرضها ، عن مدى عشقه و ولعه بالبحر و الطبيعة الوادعة ، عن مسيرته المهنية الممتدة التي ربح منها الكثير بعرق جبينه ، و أضاعه الوزير معيط بتجاوزه عن تطبيق القانون ، عن خدمات جليلة قدمها إلى وطنه الذي يقدسه ؛ بدون أن يغفل التأكيد على مسامعي الإبقاء عليها سرّا أبديا ، و عن ابنته التي رحل عنا قبل أن يفرح بها مثلما فرح رئيس الوزراء بابنته في يوم عرس أسطوري ! 

لم يكن " العمدة " راضيا أبدا عن الطريقة التي يدافع بها المتقاعدون عن حقوقهم . كان قائدا مقداما يتصدر فعاليات الاحتجاج الأولى ؛ مع تخوفه على أمن و استقرار البلد ، و غضبه من كون المسئولين لا يشعرون بما يشعر به من منطلق المسئولية الوطنية . و كان يحلم باليوم الذي يتوحد فيه جميع المتقاعدين على رأي واحد ؛ فتمثلهم مجموعة واحدة في المطالبة بحقوقهم ، و ليس مهمّا أن يكون هو ضمن هذه المجموعة ، و باليوم الذي يجتمعون فيه ضمن رابطة واحدة على وسائط التواصل الاجتماعي ، و من دون تجاوزات بحق المسئولين الذين قصروا طويلا بحقهم ! كان مقاتلا و دبلوماسيا في آن ! 

أقول له : يا عم صابر الناس تعبت جدا ! يجيبني من الفور : نتقابل بكرة نحاول نعمل حاجة . ألف و أدور من حوله ؛ لأتبين أنه فعل ما فعل للكثيرين في صمت و بدون ضجيج ، و قد كان يعاني من ضائقات مالية متتابعة ؛ لكنه كان ينهض على نحو مفاجئ و ينتعش ! أستفسر منه ، و لا يتأخر في الإجابة التي لا يمكنني ذكرها احتراما لخصوصياته ! 

من يكون " صابر " " المصري " هذا الذي تركنا و آلمنا و قطع بنا مثلما نقول في العامية ؟ إنه المثال الذي سيبقى حيّا للكثيرين من الصابرين الذين أشقاهم الدكتور مدبولي و وزيره معيط بإخفاقاته المشهودة المريرة . هو " المصري " الذي صبر حتى يعلم الصبر أنه صبر على شيء أمرّ من الصبر ؛ مثلما نُقل عن الإمام علي ، و الذي صبر على طريقة أيوب في الموروث الديني و الملاحم و الغنائيات و المواويل التي جعلت من الصبر دواء و شفاء و مرضا و علة ؛ في الوقت نفسه ! 

كان " عمّ " صابر نموذجا للصابرين من المتقاعدين المستضعفين في ماسبيرو . دائما ما يقول لي : بعد الصبر جبر ! هانت خلاص ... أنا واحد واحد عشرين عشرين ! ( في إشارة إلى تاريخ تقاعده ) ؛ ليتقاعد من الحياة الدنيا بكاملها في عشرة ستة عشرين أربعة و عشرين ؛ بدون أن يكمل ملحمته التي خبرها الكثيرون من المصريين في الصبر و المثابرة و العناء ! 

الكل يدعونه " عمّ " صابر ؛ بمن فيهم الأستاذ حسين زين رئيس الهيئة . و ربما يكفي هذا لندرك مدى الاحترام و التقدير و التوقير الذي كان ينعم به ، و ما نرجوه له من نعيم في دار البقاء و الخلود . و لقد كان نبينا الكريم يقول " عمّتكمُ النخلة " ؛ لأنها تمنح الناس كل ما يحتاجون إليه من أسباب الحياة و ضروراتها من المأكل و الملبس و المأوى ، و غير ذلك الكثير . و لهذا ؛ كان " عمّنا " صابر المصري عمنّا بحق ؛ فهو يمثل سياجا لحماية الجميع ، و دعما لهم بكل ما يملك من قدرة ، و بدون أن يحصل على أي شيء باستثناء حب الجميع . 

أذكر أنه كان يمر بأزمة صحية من الأزمات التي توالت عليه خلال العامين الأخيرين ، و كان يحادثني على الهاتف ، و يتوقف عن الكلام كثيرا ؛ حيث لا يسعفه هواء ربنا ليتنفس ! و إذا به فجأة يسألني عن أبنائي ؛ فأخبره بأنني قمت بنقلهم إلى مدارس عامة ؛ لعدم قدرتي على تحمل مصروفات التعليم الخاص . قبل ظهيرة اليوم التالي يوقظني باتصال هاتفي ، و يخبرني بكلمات متقطعة أنه يتحدث معي من مكتب مسؤول كبير ؛ يسمعني صوته و هو يؤكد لي أنه سيصرف لي جانبا محدودا من مستحقاتي لإنقاذ الموقف . 

كم كنت جميلا و معطاء يا " عم صابر " ! كم كنت إنسانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى ! كم كنت رجلا شهما خلوقا مهذبا خدوما متعاطفا ! لقد افتقدناك جميعا يا عمدة ! و لن يكون لنا من بعدك لا عمدة و لا عمّ ! لكننا مدينين لك بأن نستمرعلى دربك نناضل و نقاتل من أجل حقوقنا ؛ نتوحد و نتكاتف لنحقق حلمك الذي لم يتحقق في حياتك .

و هل يفيد العويل بعد الرحيل؟! 

" عم " صابر " المصري " الصابر مات يا معالي دولة رئيس الوزراء 

يا دكتور معيط ... عم " صابر " مات 

مات " عم " صابر يا ... سيادة المستشار الحمصاني الذي يتابع و يتجاوب !

و الله العظيم مات ... يا حكومة الدكتور مدبولي المستقيلة و التي قد تجيء ... عم صابر  

" عم " صابر مات يا منشور رقم 9 لسنة 2013  

عم صابر ماااااات يا حساب الأغراض الاجتماعية  

عم صابر المصري مات يا مكافأة نهاية الخدمة و يا رصيد الإجازات ، و إياكم أن تبكوا عليه ! فأنتم أكبر " طظ " في حياة المتقاعدين البؤساء المقهورين في ماسبيرو !    

و ما دمنا على قيد الحياة ؛ فإننا سنستمرعلى درب عم صابر " المصري " الصابر الذي يناضل حتى الرمق الأخير لنيل حقوقه المشروعة . 

رحل عم صابر ، و ترك وراءه خمسة آلاف صابر و صابرة على استخفاف و استهانة وزير مالية معالي دولة رئيس الوزراء المكلف بحيوات الناس ؛ على حساب أرقام و معادلات اقتصادية و مالية ؛ تبين أنه آخر من يفهم فيها ، و على حساب مناشير إخوانية سفيهة قصد منها إظهار طهارة اليد ؛ لم يكلف نفسه النظر فيها ؛ حتى يلتزم القانون و الدستور .

رحل عم صابر يا حماة الاستقرار و القانون و يا جهابذة الاقتصاد و يا ببغاوات الإعلام 

و كلما رحل صابر مصري جديد أو صابرة سنقوم بإبلاغكم من الفور ؛ حتى تطمئنوا و ترتاحوا 

لك الجنة يا عم صابر يا مصري بما صبرت !

" و بشر الصابرين "    
---------------------------
بقلم: عبدالمجيد إبراهيم
 [email protected]   

      

مقالات اخرى للكاتب

في مناسبة عيد الإعلاميين ( 5 ) :





اعلان