30 - 06 - 2024

جائزة الدولة التقديرية وأعمال الفنان مصطفى الفقي

جائزة الدولة التقديرية وأعمال الفنان مصطفى الفقي

حتى فى هذه اللحظة التى أتناول فيها أعمال الفنان القدير مصطفى الفقى، أجد نفسى عاجزا عن الوصول الى سر تعلقى بتلك الأعمال، وأن تحليلاتى مجرد إفتراضات أشعر أنها لم تقنعنى بالسبب الحقيقى وراء هذا التعلق، وأنها جزء يسير من الأسرار التى لم أكتشفها بعد.

اختيار الموضوعات تقترب من حياتنا ولكن كيف جعلنى أقف أمامها عاشقا مستسلما لهذه الدرجة. هل هو اللون بتوزيعاته، والضوء بإيقاعاته؟. حقيقة مازلت فى حيرة من هذه الحالة التى تنتابنى كل مرة أشاهد فيها أعمال هذا الفنان الذى لم يأخذ حقه من الدراسات النقدية الكاشفة لهذا الغموض الذى أتحدث عنه.

لايمكن للفنانين الرسم بدون ضوء جيد – وليس فقط أي ضوء، ولكن ضوء الشمس. وقد قام بعض الفنانين الأوربيين، أخرهمالرسام الإسباني الشاب اللامع جوزيبي دي ريبيرا بعمل نوافذ بسقف مساكنه للتمكن من الرسم فى ظروف جيدة، فلا يمكنك الحكم على لوحة بدون إضاءة جيدة. الضوء الطبيعي الذي يسقط بالتساوي على سطح اللوحة يمتلك طيف الألوان كلها.

   ولا ينتهى دور الضوء بالإنتهاء من العمل الفني، ولكن أهمية الضوء المثالى تستمر في عرض الأعمال الفنية لتحقيق الإهتمام البصرى الجيد بها. وقد شاهدت العديد من الأعمال الفنية لفنانى أوروبا فى أزمنة مختلفة، وكنت مهموما بفكرة الضوء ودوره فى تلك الأعمال بدءا من تحقيق التفاصيل الدقيقة، ومرورا بأدواره المختلفة وإنتهاء بفعل الضوء كعنصر أساسى فى العمل الفنى. شاهدت الضوء عند الإنطباعين فى أوقات متفرقة من اليوم. فرسم المنظر الواحد فى الصباح والظهيرة والمساء كان الهدف منه هو البحث عن تأثيرات الضوء على المنظر الواحد. فالضوء يختلف إدراكه وفقًا للوقت، وهذه نتيجة إبداعية تجذب الإنتباه وتغازل بصيرة المشاهد بحس فنى جميل مرتبط بالنتائج الطبيعية للجو. فالضوء فى الظهيرة على سبيل المثال يكون أزرق وشفافا وأكثر بياضا وكثافة، وظلاله تكون أغمق. بخلاف ضوء الغسق الأكثر إصفرارا ونعومة ودفئا، ويكون ضوء غروب الشمس برتقاليا أو أحمر ذو تباين مع ظلال بها زرقة كثيفة. وهذا البحث الذى بدأ سنة 1870 للوقوف على الرؤية الزمنية للضوء ومدى تأثيره على الكائنات. كان بالنسبة لهم اكتشافا وتمردا على الرسم فى الأماكن المغلقة بقيادة مونيه، ورينوار الفرنسيين.

لكن حيوية الضوء وتفاعلاته تختلف عند الفنان مصطفى الفقي، فهو حالة تفاعلية بها روح. أنظر الى بقع الضوء التى تغازل ريش الحمامات وتداعب الدراويش وهم يدورون حول الأضرحة والذين يقضون الفرائض الدينية. إنه ضوء مختلف عن هؤلاء الذين يبحثون عنه. ضوء يبحث فى معناه ويضيف فى قيمته ويعجنه مع اللون فيأتينا كاشفا للمعنى، ومحركا للسكون. ضوء مستخلص من تجارب هؤلاء العظام مونيه ورينوار، ولكن بروح مصطفى الفقى، وصوفيته وتأملاته الروحانية لإيجاد معنى جديد وإحساس مختلف ليصبح لغة جديدة فى الحمامتين الجالستين فى حوار. واحدة يسقط على جزء من رأسها وصدرها والمكان الذى تجلس عليه الضوء، والأخرى تقف فى الظل وخلفها يوجد ضوء بين جدارين. هذه العلاقة المركبة بين الحمامتين وبين النور والظل، لتكون القراءة مركبة أيضا تحرك مشاعدك فى اتجاهين مترابطين فى الشراكة صفة الحمام وصفة الضوء والظلال. إنها من اللوحات التى تشبه الحلم عن الفقى.

   وهذه لوحة الحارة الضيقة ومبانيها المرتفعة ويظهر بمقدمة اللوحة عربة كارو تحمل قدرة الفول ويحيطها البسطاء. وهنا قام الفنان بتوزيع الضوء على جدران البنايات وعلى رؤوس وأجسام البسطاء بأسلوب رقيق، وكأن الضوء يطبطب عليهم، ويتدرج بحنو حتى يصل الى مصدره فى آخر الحارة بالنصف الأعلى من اللوحة. هنا لا يتعامل الفنان مع الضوء بشكل مادى أو فيزيائى، ولكنه فكرة مرتبطة بحالته الروحانية والوجدانية والمعاني الإنسانية التى لها علاقة بالحب والهدوء والطبطبة والحنو.

   وفى لوحة حوار الأحبة، يتصدر اللوحة شخصان جالسان يحتسيان الشاى على قصعة نار وخلفهما زير ويقف على السور فى الخلفية أربع حمامات كل أثنتين فى حوار، ولا تستطيع فى هذا العمل أن تحدد موعد هذا اللقاء بالضوء فقد خفت وانتشرت الظلال الناعمة فى أرجاء المكان الرطب، ولا أعرف كيف أشعرنى الفنان برطوبة المكان ودفء المشاعر إلا أننى وكما قلت سابقا أراه يتعامل مع الضوء كفكرة. ومصدر الضوء هنا تلك النار المشتعلة التى أضفت على المكان الدفء بتلك الألوان الوردية وبمزيج من الضوء والظل إهتم فى توزيعهما لتأكيد تلك الحالة الرطبة التى تلقتها عينى، فجاذبية الضوء فى هذه اللوحة تجاوزت الوظيفة العملية لكشف المكان، ولكنه يحمل سحرا خاصا يستنطق الملامس لتقول ما بداخلها من معان.

إنحاز الفنان في غالبية أعماله للبسطاء وتفاعل مع قضاياهم فصور ركاب الدرجة الثالثة، وبائع البطاطا، والفول، وغيرهم من الشغيلة، كما استلهم من القصص التاريخي والدينى، وكان الضوء رفيقا حقيقيا يولد تأثيرات درامية ورمزية ومفاهيمية ليعزز رسالة الفنان المتصوف فى تناوله لعناصره وألوانه. فقد تميزت شخوصه بروح البساطة مع عمق المضمون وما يلفه من غموض تؤكده الحالة الدرامية التي أنشأها من هذا الجو الضبابي الموحي بأسرار خلف هذه الغمامات التي تفاعلت معها الشخوص والمفردات بتأثيرات دراماتيكية ولدها الضوء ليمنح اللوحة جوا عاطفيا يحاور حالتك البصرية ويضيف معاني فنية وجمالية جديدة.

تميزت ألوان المرحلة الأولى بالسماكة، وكان البنى بدرجاته لونا رئيسيا مع قليل من الأزرق، ليلعب الفنان على فكرة التباين بين نغمتين متفاعلتين لا تستبعد إحداهما الأخرى. فالتباين هنا بمستويات مختلفة الشدة والنعومة لتحقيق التعبير المناسب لرؤية الفنان، وينتقل هذا التباين بين الظل والضوء ليعتمد على تعبير نغمى آخر يريد الفنان أن يمنحه لعمله، والذى يتراوح من النعومة الى الصلابة، مما يعطى درجات مختلفة من الدراما التى يربطها الفنان مع دراما الألوان حتى يتحقق التأثير المطلوب بين مجموعات الألوان الدافئة والباردة بالإضافة الى اللون الأبيض الذى يحقق الدرجة المناسبة للضوء، والألوان الداكنة ذات الصلة حتى يتم صناعة الضوء والظل عن طريق مزج الألوان فترتبط جميع عناصر اللوحة بإحساس عميق من داخل الفنان الذى لا يتوقف تدفقه لتأكيد الملامس المتناغمة أيضا، والتى نجح الضوء والظل فى تأكيدها، وبالتبعية تأكيد الكتلة، وماتحمله من معاني فنية وجمالية. وحرص الفنان على تأكيد العلاقات المتناغمة بين الأشكال الكبيرة والصغيرة. كما اهتم الفقي بالأحداث التاريخية، وتناولها واستلهم منها وانتقل للتعبير بأسلوبه فاهتم بالرمزية في ملامح الشخوص على سبيل المثال، كما اهتم بالإيقاعات المتناغمة وتأكيد العمق.

فى اللوحات التى تناول فيها الحمام وهي كثيرة قدم الفنان علاقة خاصة بين اللون والضوء. ومن الواضح حب الفنان للألوان الدافئة، وهذه الصفة طاغية فى معظم اللوحات، ويظل الضوء والظلال مؤكدا الإحساس بالحركة، وقد اهتم الفنان بالتفاصيل وتأكيدها بواسطة الخطوط المنحنية الناعمة التى تحقق شعورا مهدئا مرتبطا بطبيعة الحمام، ولم يغير الألوان التى تعامل بها فى مرحلته الأولى إلا بدرجة بسيطة، وحافظ على حالة التناغم والانسجام اللونى التى تميز بها من خلال اهتمامه الدقيق في بناء أعماله الفنية وحفاظه على المنظور، الذى يساعده على تأكيد العمق وخلق الوهم الفضائى داخل العمل الفني.

ويلجأ الفنان فى كثير من لوحاته إلى استخدام الضوء الصناعى لتحقيق نوع من التفاعل مع التكوينات داخل العمل، وفى بعض اللوحات يسلطه الفنان على بؤرة العمل لتبدأ المشاهدة منها. والضوء يسهم بشكل رئيسى فى تأكيد الكتلة التى تحولت وكأنها كتل نحتية فى لوحات الفقى.

انتقل الفقى من عالمه هذا إلى مساحات فنية جديدة فاستخدم سكين التلوين فى تحقيق علاقات وتناغمات خاصة. كما قام بتصوير بعض المناظر بأساليب جديدة تشبه التنقيطية، وتأخذ من الحس التأثيرى. كما ظهرت فى لوحاته ألوان جديدة غير البنى والأزرق، وتعامل مع الضوء الطبيعى. وهذه النقلة لم تضف جديدا فى تاريخ الفنان الذى عرف بأسلوبه الأول، وما جاء بعد ذلك لم يصل الى قوته الأولى التى لم تكشف أسرارها لي وتركتنى فى حيرة.

هذا العام تم ترشيح الفنان الكبير مصطفى الفقى لجائزة الدولة التقديرية. وأزعم أن معظم من فى لجنة الاختيار بالمجلس الأعلى للثقافة لا يعرفون الفنان ولم يطلعوا على أعماله، وأشك فى أن الأمر اختلط  لديهم بين مصطفى الفقى السياسى وبين مصطفى الفقى الفنان!!

   قامت مؤسسة العرب للثقافة والفنون بإقامة ندوة بحديقة ضي بالزمالك تكريما للفنان ودوره الرائد فى النهوض بالحركة الفنية والتوعوية على مستوى مصر والوطن العربى

ولد مصطفى الفقى عام 1937، وتخرج من كلية الفنون الجميلة 1964. يعتبر الفنان الفقي واحدًا من رواد الحركة التشكيلية المصرية، ومن أهم مساهماته مشاركته في بينالي القاهرة الدولي وبينالي الشارقة الدولي .كما عمل في كل من الكويت والسعودية ويعتبر من مؤسسي الحركة التشكيلية في البلدين وله تلاميذ بجميع الدول العربية يعترفون بريادته وفضله عليهم. حصل الفنان على العديد من الجوائز، وله مقتنيات بمتاحف الدولة، ومقتنيات برئاسة الجمهورية، وبوزارة الخارجية.
----------------------------------
بقلم: د. سامى البلشي






اعلان