30 - 06 - 2024

عبد الوهاب دياب .. و(بصلةُ المُحبّ خروف) !

عبد الوهاب دياب .. و(بصلةُ المُحبّ خروف) !

لم أعرفْه مُعلما، رغمَ نبوغه في هذا الميدان، وحصوله فيه علي قَصب السبق، إذ كان من الرعيل الأول في حقل التربية والتعليم، وتخرجتْ علي يديه أعدادٌ غفيرة من نوابغ القرية، ومثقفيها ممن ولَّوا وجوههم شطرَ كل الأصقاع، وتفرقوا في كلِ الأمصار ففرضوا ريادتهم، وأثبتوا جدارتهم بفضل تأهيل وتربية مُعلمٍ كان لهم بجانب التعليم أبا بمعني الكلمة، ولكني عرفتُه جارا قلما يجودُ الزمانُ بمثله .. بشاشةُ وجه، ولين جانب، وبحةُ صوت، تُشعر الضيفَ بدفء اللقاء وحفاوة الاستقبال .

لم يكن الفقيدُ ذا صوت زاعق أبدا، بل كان صوتُه حادبا حانيا، حتي في أشد نوبات غضبه، وقلما كان يغضب !

لم يبعُد بيتُنا القديم عن بيتِ الأب والمعلم أ. عبد الوهاب دياب سوي أمتار، وربطتني بأحد أبنائه، وحمل هو الآخر راية التدريسِ عن والده، صداقةٌ وأخوة، جعلتْ من بيته ملاذا لي وملجأ، أهرع إليه؛ لأجالسَ أخا وصديقا، لا نظير له نُبلا وحسن خلق، وكيف لا، وهو من أُترع في حِلم أبيه، وتربي في مدرسته، وتخلق بأخلاقه، وصدقَ فيه ما قاله رُؤبةُ بن العجاج في وصف عدي بن حاتم : بأبه اقتدى عديُ في الكـــــــــرم … ومن يشابه أبه فما ظلــــــــم .

ورغم خِلال صديقي النبيلة، إلا أن الحَسنة الأكبر من ترددي عليه، كانت مُجالسةَ والده - طيب الله ثراه - فكنا ننعم بحسن حديثه، ومداومة توجيهه وإرشاده؛ ليستقيمَ سلُوكنا، ولا يحيد أبدا عن الجادة .

وكانت من محاسن هذا البيت، ومحاسنُه جمة، سخاءُ ربةِ البيت زوجة الفقيد، وكريمُ عطائها، إذا كانت تُخرج لنا - رحمها الله - (المَخْفِي)، ولا تُفرّق أبدا بيني وبين أبنائها في طعامٍ أو شراب، ومن قبل هذا، لم تُفرق بيني وبين أبنائها في نصحها المُخلص، ودعائها المتواصل لنا بالاستقامة وصلاح الحال .

كان بيتُ الفقيد مَقصدَ كلِّ ذي حاجة، وملجأ كل من كانت له مُناسبة سعيدة أو حزينة، وضاق عليه بيته، فتري الرجل مُتهللا بالوافدين، يستقبلهم في (بَراح) بيته الواسع، مُقدّما كلّ سبل العون والمساعدة، ولا عجب إن قلتُ : إن الضيف من حفاوة الرجل، وحُسنِ استقباله، يخال نفسه صاحبَ بيت، بيد أن لسان حال الفقيد معه ما قاله زهيرُ بن أبي سلمي في كرم هَرمِ بن سنان : تراه إذا ما جئـــــــته مُتهللا ... كأنك تُعطــــــيه الذي أنت سائله .

كانت مُعظمُ بيوت الناحية فقيرة، لا تعرف من وسائل الترفيه سوي الإذاعة، أما (التليفزيون) فلم يكن إلا في بيوت لا يتجاوز عددها أصابعَ اليد الواحدة، منها بيتُ الفقيد، فكان أطفالُ الناحية يُسابقون الريح لمشاهدة فوازير (عمو فؤاد)، أو (جدو عبده)، فتمتلئ بهم (فراندة) البيت، دون تضجر أصحابه أو تململهم، والحقيقة أنّ الرجل ما عَبسَ يوما في وجه وافد، أو تقطب جبينُه أمام قادم، فالكلّ أبناؤه، لا يبخل عليهم بطعام أو شراب، فكانت في بيته ( بصلةُ المُحبِ خروف ) .

وحيث إن أرضية (فراندة) بيت الفقيد من بلاط (الموزايكو)، فكنا نتسابق إليها؛ لترطيب أجسامنا، والتغلب علي حرارة الجو في نهار الصيف القائظ .

كان الفقيدُ (شيخَ) حارة بحق، تنتهي إليه كلُّ مشكلة فتجد حلا، بفضل ما أوتي الرجلُ من الحكمة وفصل الخطاب .

رحلَ الرجلُ عن دنيا الناس، وترك ذرية طيبة رأسمالها سمعةُ أبيهم الطيبة، وبياضُ يده علي كلّ من عَرفه وتعامل معه .. فدعاؤنا له أن يُكرم اللهُ نُزله، ويَجزيَه علي ما قدَّم خير الجزاء .
-------------------------------
بقلم: صبرى الموجي *
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

إبراهيم عطا الله .. الحكمةُ ضالة المؤمن !





اعلان