17 - 07 - 2024

"كائن رمادي" رواية لنشأت المصري تشير أن تعدد الزوجات لا يحقق الاستقرار

"كائن رمادي" هي الرواية الحادية عشر للمفكر والكاتب والشاعر نشأت المصري، الصادرة عن دار "ميتا بوك" بالقاهرة في 2023م، حيث يقع النص الأدبي في نحو  138 صفحة من القطع المتوسط، وسوف يتم تناول مكونات النص من خلال دلالات الزمن الروائي وعلاقته بالبناء الفني، مرورًا بالتأثيرات التي يحدثها على سلوكيات الشخصيات الروائية، وذلك من خلال تحليل الرؤية الفلسفية التي تتأرجح هبوطًا وصعودًا مع مرور الوقت، والتعامل مع النص وفقًا لهذا السياق النقدي؛ سوف يقود المُتلقي إلى تكوين وجهة نظر قائمة على تفاعلات الماضي، والحاضر، والمستقبل، في بناء الحدث، أملا في المساهمة في فك بعض شفرات النص، أو قراءة بعض المعاني والأفكار والدلالات المتفجرة بداخل الكتل السردية؛ التي وظفها المؤلف للتعبير عن رؤيته تجاه فكرة استحالة الخلود البشري،  أو حتمية فناء الكائن الحي، وأثر هذه المشاعر على تصرفات البطل المحوري بالرواية "وليد" والذي يمثل حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي، تشكلت معالمها عبر صياغة  الزمن الروائي متعدد الاتجاهات.

استنباط الزمن الروائي من الأحداث: يمكن استقراء زمن الرواية من خلال زمن صدورها في عام 2023م، وذلك لتحديد ما قبله وما بعده، فقد ورد بالرواية هذه الفقرة:" لم يتصور وليد أن رمزي شاب سهل مريح إلى هذه الدرجة، كلما طلب منه شيئا قال: نعم حاضر. فاعتبره ابنا له، ووافقه على اقتراحاته باستبدال نشاط العطور بالسلع الغذائية والبقالة، وأيد وليد رمزي بدعم كبير متواصل، قرب المسافة النفسية والجسدية بينه وبين إيمان، وظلا يحلمان بالملياردير رمزي، توالت الصفقات، ونجح فى استيراد سلع رابحة، واشتعلت الحرب الروسية الأكرانية " (ص 31)

من هذه الفقرة نستطيع تحديد زمن الرواية، وهو الزمن الذي يسبق نشوب هذه الحرب الروسية الأوكرانية  بفترة عام تقريبًا، أي أن زمن بداية نص الزمن الروائي هو فبراير عام 2021 تقريبًا أي قبل زمن الصدور بعامين. 

ويمكن تحديد امتدادات الزمن، بمتابعة سفر "وليد" وزوجته الثانية "إيمان" وابنتها عائشة إلى تركيا؛ للاستثمار بها، يتضح لنا دون تصريح زمن الرواية يدور في المستقبل، فقد وردت جملة:" كان فصلا الربيع والصيف محتدمين بالعواصف والعقوبات الفورية لعدة سنوات بيني وبين زوجي" (ص27) مما يعني مرور ثلاث سنوات على الأقل،ثم جملة: "بعد خمسة أعوام، فتحت عائشة ثلاثة أفرع جديدة لمحل الفول في أطراف المدينة"(ص45) وهذا يعنى أن الأحداث زمن الاستباق بعام 2031م.

أما زمن النهاية للرواية فهو بعد عودة "وليد" من تركيا وهروبه إلى المنصورة، ثم زواجه من فتاة أصغر منه لينجب منها طفلته صفاء، وقد أشارت إلى مولد ابنته بالمستشفى في الجملة التالية: " نقلت سريري إلى غرفة صفاء وأمها، شبكت يدي خلف رأسي" (ص 125) ومن هنا يتضح أن زمن النهاية هو عام 2032، بمعنى أن الرواية استشرافية تتحدث عن المستقبل لمدة ثمان سنوات. 

زمن المفاجأة: تفجرت المفاجأة في هذا الزمن الذي لم يحدده المؤلف بتاريخ تقليدي، عندما كان بطل الرواية "وليد" جالسًا مقسوما على ذاته، يتأمل فلسفة الموت الذي يشكل نهاية الإنسان، حيث صديقته "الفيس بوكية" تلك المرأة الليبية غريبة الأطوار، التي تظهر لتتحدث معه بود وحميمة، ثم تختفي لفترة غير معلومة بلا سبب منطقي، هذا الأمر جعله يشك في صدق المشاعر التي كانت تبديها له في رسائل الماسنجر، هذا الأمر جعله في حيرة من أمره، فقد عادت تطلب منه أن يرسل لها صور أوراقه الثبوتية وجواز سفره، فرغم تردده بسبب تكرار الظهور ثم الانقطاع عنه، أرسل لها في النهاية ما طلبته منه، وتحدث المفاجأة التي قلبت حياته رأسًا على عقب، عندما تلقى رسالة من محاميها يخبره بأنها قد ماتت، وكتبت له كل ثروتها، فذهب إلى ليبيا وعاد بالمال الذي غير مسار حياته ونقله إلى حياة الثراء، فقد عرف لاحقًا أن سبب الظهور المتقطع  لحبيبته الليبية أنها كانت دائمة التردد على المستشفى للعلاج من مرض خطير، ولكننا بالتوقف عند الإطار الرمزي لهذه اللقطة السردية، ربما تكون منطلقة كدلالة مندلالات اللا وعي التي تشكل جزءا منالمخزون الإبداعي في اللاشعور بالعقل الباطن للمؤلف، على اعتبار أن ليبيا العروبية صنو مصر ككل الدول العربية، وأن هذا المال الذي هبط عليه من السماء، ربما كان صورة من صور التكامل الاقتصادي المنشود، ويعزز هذا الاحتمال قيام "وليد" باستثماره لاحقًا في مشاريع تجارية داخل مصر وفي خارجها.

ومن هنا يكمن جوهر التساؤل المنطقي، ألا يمكن قراءة مرض المرأة الليبية بالنص الروائي، على أنه صرخة لاستنهاض الهمم لدعم الشقيقة ليبيا مما هي فيه من تشتت وتمزق؟ ألا يمكن أن يكون هذا المرض هو دلالة على العجز العربي ككل؟

التشتت الفردي وفقدان البوصلة: لقد تناول المؤلف هذا المعنى على المستوى الفردي في شخصية "وليد" الذي يعاني من التشتت الفكري والعاطفي، فبعد زواج ابنته لم يكن وفيًا لزوجته غادة التي أفنت شبابها من أجله، وبمجرد أن امتلك المال، تزوج من جارته إيمان، ولكن هذا الزواج أيضًا لم يحقق له الإشباع، فهرب إلى مكان آخر وتزوج بفتاة صغيرة من المنصورة، الدلالة من كل هذا التخبط الذي ضرب حياة البطل؛ إنما هو صورة واقعية  للخواء الداخلي، الذي يعاني منه الفرد العربي، المشكلة أن هذا الداء المطمور في الأرواح، يتضخم نتيجة  لفقدان البوصلة على المستوى الشخصي، بسبب الفشل التربوي في معظم المؤسسات المنوط بها الارتقاء بالبشر، وفي ظل اضطرابات الهوية على المستوى الشخصي؛ لا يمكن لأحضان النساء، أو ملايين الدولارات، أن تشبع الظمأ الروحي، وهكذا كان البطل، الذي عاد إليه الاستقرار؛ عندما لمس الأمل  بيده، وقد جسد المؤلف صورة هذا الأمل بمولد طفلته صفاء، التي تمثل أحلام البراءة في المستقبل. 

وقد تناولت الرواية العديد من القضايا الوطنية، ومنها حل مشكلة الجفاف وأزمة الغذاء، وإقرار أثيوبيا بحق مصر في مياه النيل، وغيرها من قضايا بالغة الأهمية.

التكثيف في عرض المحتوى: تتميز رواية كائن رمادي بالتكثيف؛ وهذا يتفق مع الدعوة التي تكررها مجموعة "نهر الأدب"؛ والتي تدعم فكرة التكثيف عند صياغة النص الروائي، تأييدًا لكل أنصار هذا الاتجاه، ورغم الإيمان بأنه من الأفضل؛ أن تتراوح كلمات الرواية ما بين 20 ألف و30ألف كلمة، إلا أنه لا إلزام لأحد بهذا الرأي، ولكل كاتب خياره الحر في هذا الشأن.

ويرجع  المبرر لترسيخ هذا الطرح، أن مقتضيات العصر؛ تتطلب عدم إغراق النص بالحشو، لأن الرواية تواجه صراعًا  حادًا مع كل من الإنترنت، والسموات المفتوحة؛ وتمثل السينما والمسلسلات بصفة خاصة؛ عالمًا للإغراء والجذب الثقافي، لأنهما يعرضان القصص والحكايات عبر الشخصيات الحية، أو الممثلين، علاوة على الإخراج والمؤثرات الصوتية والبصرية، وكل هذا يقلل  من المساحة  المتاحة أمام الأدب المقروء، بسبب التطور السريع لفن السيناريو، الذي أصبح أدب العصر الحالي، أضف على كل ما سبق تراجع معدلات القراءة المستمرة، وبالتالي، أصبحت مهمة المؤلف الروائي أكثر تعقيدًا عما ذي قبل؛ لأنه ينتزع جمهوره بصعوبة من بين كل هذه البدائل، وقد نجح نشأت المصري في إنجاز روايته "كائن رمادي" بطريقة سلسة، ورشيقة.
-----------------------------
دراسة بقلم: د. صلاح شعير