17 - 08 - 2024

أَعلامٌ مِصْريَّةٌ منَ الغربيَّة(3): الحُصريُّ قِيثارَةُ السَّماءِ وشَيخُ مشايخِ القُرَّاءِ

أَعلامٌ مِصْريَّةٌ منَ الغربيَّة(3): الحُصريُّ قِيثارَةُ السَّماءِ وشَيخُ مشايخِ القُرَّاءِ

(من شبرا النَّملَةِ والمَسجدِ الأحمديّ إلى المملكةِ المتَّحدةِ والكُونجرسِ الأَمريكيِّ)

ظَلَّتْ مِصرُ العظيمَةُ هيَ مركزُ العالمِ الإسلاميّ، وحاضِنَةَ الإسلَامِ وعلُومِهِ، ومَوطنَ المُفسّرينَ والأصُوليِّينَ والمحدّثينَ والقرَّاءِ والشّيوخِ، والفُقهَاءِ، والعُلماءِ...إلخ. وكان لِطَنطَا حَظٌّ عَظيمٌ في مملكةِ التّلاوةِ والتّفاسيرِ والعلُومِ القُرآنيَّةِ؛ فقد خرجَ من بين أبنائِها الشَّيخُ جمال الدِّينِ المَحلِّي، صاحبُ التّفسيرِ الشَّهيرِ، وشيخُ الإسلامِ سِراجُ الدِّينِ البلقينيّ، والشَّيخُ سُلَيمان العَبْد، والشَّيخ العلَّامة الكبيرُ عبدالفتَّاح الصَّعيديّ، والشَّيخ عبدالهادي الإبياريّ، والشَّيخ عبدالوهاب النَّجَّار، والشَّيخ عبدالوهاب خلَّاف صاحبُ المُعجم القرآنيّ الشَّهيرِ، وشيخ مشايخ الإسلامِ الإمامُ علي الشُّبراملِّسِيّ...إلخ.

ولاغَروَ؛ فقد ولعَ أهلُ الغربيَّةِ بحفظِ كتابِ اللهِ، معَ ما يتَّسِمُون بهِ من لُيُونةِ طبْعٍ، ولطَيفِ خُلقٍ، ورخيمِ صَوتٍ، ومِنهُم ، بل في مقدّمتهم قيثارة السَّماء وعميد القُرَّاءِ، شيخ مشايخ قرَّاءِ العالمِ الإسلاميّ الشَّيخ الحُصْريّ؛ لمَا حَبَاهُ الله بهِ من جَمالِ صَوتٍ، وإتقانِ مَخارجَ دفعَتِ الخُبراءَ أن ينتخبوهُ أحسنَ الأَصواتِ المتقدّمةِ للقِرَاءةِ في إذاعة القُرآنِ الكريمِ؛ حتَّى غَدَا القارئَ الرّسميَّ الوَحِيدَ لَهَا لِمُدَّةِ عشْرَةِ أَعْوامٍ كامِلَةٍ.

ومِن ثَمَّ؛ فقدْ أنبَتَ الله نباتَهُ الحسَنَ شَيخَ قُرَّاء العالَمِ الإسلاميّ، باتّفاقِ القُرَّاءِ طُرًّا، الشَّيخَ الجَليلَ محمود خليل الحُصْرِيّ(1917-1980م) t في قرْيَةِ شُبرَا النَّملَةِ، مركز طنطا، محافظة الغَربيَّةِ؛ حيثُ الحدائقُ الغنَّاءُ، والجنانُ النَّضِرَةُ.

لم يعشْ شيخُنا طَويلًا، بل مرَّتْ حياتهُ القصيرةُ طَيفًا عابِرًا، وسِراجًا مُنيرًا، انتقلَ فيها بصَوتهِ المتقنِ الرَّزينِ الوقورِ من شُبرا النَّملَة إلى المَسجدِ الأحمديّ فالمسجِدِ الحُسينيّ؛ ليغمرَ مصرَ ضوؤُهُ، وتُشِعُّ شَمسُهُ بعيدًا بعيدًا حتَّى يَصِلَ صَوتُهُ العَبقَريُّ إلى كثيرٍ من عَواصِمِ العالمِ الإسلاميّ شَرقًا وغربًا؛ بما أفاضَ الله عليهِ من نُورٍ، ملأَ بهِ قلُوبَ المسلمينَ وأَسمَاعَهُم ما يقربُ مِن قَرنٍ مِنَ الزَّمانِ، في هُدوء المتّقين،  ورَزَانةٍ النَّابغِين، وسَكِينةِ العارفينَ، وتمكُّنِ العالِمِينَ، وثقةِ الموصُولين بحبلِ الله المتينِ.

نُسبَ الشَّيخ الجليلِ إلى حِرفَةِ عائلتهِ في صِناعةِ الحَصِيرِ، وهيَ حِرفةٌصَغيرةٌ، لا تُدرُّ على أهلِهَا مَالًا مَوفورًا، ولا إرثًا مشهُورًا، ولكنَّ رُوحانيَّةَ أَبيهِ دَفعتْهُ ألَّايَتَقاضَى قِرشًا واحِدًا عَنْ فَرشِ بَيتٍ منْ بُيُوتِ اللهِ، بلْ ظلَّ يفتّشُ عنْ كُلّ مَسْجدٍ ليبادرَ إلى فَرشهِ دونَ أنْ ينتظِرَ جَزاءً ولا شكورًا؛ حتَّى وَهبَهُ الله طِفْلَهُ مَحمُودًا؛ فَرَأى رُؤيةً في مَنامِهِ، ولم يزَلِ الطِّفلُ في قِماطِهِ أَنَّ عُنْقُودًا مُمتدًّا مُتَجدّدًا منَ العِنبِ يخرجُ مِن بينِ فِقراتِ ظَهْرهِ؛ فيشتَهيهِ المشتهونَ لِطِيبِ طَعْمِهِ؛ فيأكلُونَ حتّى الشّبعِ والتّنعّم دونَ أن يُنقِصَ ذلكَ من عُنقودِهِ شيئًا؛ فسأَلَ الأبُ بعضَ المُؤوِّلينَ؛ فبشَّرَهُ بأنَّ الله قدْ وهَبَهُ مِن ذُريَّتِهِ مَنْ سيظلُّ نفعُهُ مُتَّصِلًا مادامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ؛ لِذَا وَجَّهَ طِفلَهُ مَحمودًا إلى المَسجِدِ الأحمديّ بطَنطَا،  الذي ظلَّ صِنوًا  للجامعِ الأزهرِ الشَّريفِ؛ لِما يَحظى بهِ  منْ أَكابِرِ العُلمَاءِ والفُقَهاءِ والشُّيوخِ والقُرَّاءِ الذينَ ينافِسُونَ عُلماءِ الأَزهَر، بل يَبُزّونَهم أَحيانًا؛ حتَّى عُرِفَتْ مدرَسَةُ الجامِعِ الأحمَدِيِّ بقُدْرتِها على احتضَانِ النَّوابِغِ، وذوي المَواهِبِ الخاصَّةِ؛ فَتخرَّجَ فيها الحُصْرِيُّ مَعْرُوفًا بعِلمِهِ وذَكائِهِ وتَفرُّدِه في القِرَاءاتِ والتَّجويدِ؛ حتَّى التَحَقَ بالجامِعِ الأزهرِ؛ فدَرسَ على  شُيوخِهِ الأعلَامِ المَعْرُوفينَ منْ شيوخِ القرَّاء حينئذٍ؛ كمحمَّد حمُّودة، ومحمد العُقلة، وعلي الضَّبَّاع، وحافظ عليّ، وإبراهيم المالكيّ... وغيرهم.

امتصَّ الشّيخ رحيقَ هؤلاءِ الأعلامِ، وتمثّلهُ ليُخرجَ شَهدًا مُصَفًّى، يشهَدُ لهُ بِهِ القاصي والدَّانِي، مَعَ التّبريزِ، والسُّموقِ والتَّفوّقِ على جميعِ الأقرانِ والسَّابقينَ.

وعَلى دَأبِ القُدماءِ فيما أولعوا بهِ  من تصنيفِ كتبِ الأوائلِ التي يسجِّلُونَ فيها الأوَّلَ في كلِّ فنٍّ ؛ فإنَّ من حقِّ الشّيخِ الحُصْريّ أن يؤلَّفَ في شَأنِهِ كتابٌ مُسْتقلٌّ من كُتُبِ الأوائلِ؛ فالشَّيخ هُوَ أوَّلُ القُرّاءِ الذين تقَدَّموا لاختبارِ الإذاعةِ المصريَّةِ عَامَ 1944م، بعدَ أن شَهِدَتْ له اللَّجنةُ بالأداء المميَّزِ  والفرادةِ غيرِ المسبوقةِ، وهو أوَّلُ مَنْ تولَّى شيخَ مشايخِ المقارئِ المصريَّةِ عامَ 1960م، وأَوَّلُ مَنْ سجَّلَ القُرآنَ الكريمَ كاملًا بروايةِ حَفصٍ عن عاصِمٍ، وأَوَّلُ مَنْ جُمِعَتْ لهُ تسجيلاتٌ كاملةٌ للقرآنِ الكريمِ بروايةِ قالون والدّوريّ، وورشِ عنْ نافعٍ، وأَوَّلُ مَنْ اكتشفَ التّصحيفاتِ والتَّحريفاتِ في مُصحَفِ الكُويتِ، وأَوَّلُ نقيبٍ للقرَّاء، وأوَّلُ مبعوثٍ لتلاوةِ القُرآنِ الكريمِ وتدريسِهِ خارج مِصرَ، كما أنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَلاهُ في قاعاتِ الملُوكِ والأُمراءِ والرُّؤساءِ في المَملكَةِ المتَّحِدَةِ، وأَوَّلُ مَن قرأَهُ في الكُونجرسِ الأمريكِيِّ.

كرَّمتِ الدَّولَةُ الشَّيخَ الجليلَ بمختلَفِ الأوسمَةِ والعُضويَّاتِ والمَناصبِ العُليَا المُسْتَحقَّةِ عنْ جَدارةٍ؛ فهُو أَوَّلُ شيخٍ لمشايخِ عُمومِ المقارئِ المصريَّةِ، واختيرَ عُضوًا بمجمَعِ البحُوثِ الإسلاميَّةِ عام 1967م، ورئيسًا لقرَّاءِ العالمِ الإسلاميِّ عام 1968م، وعُيِّن رئيسًا للجنةِ تصحيحِ المَصَاحفِ، ونالَ وِسامَ العلومِ والفنونِ منَ الطَّبقةِ الأولَى من الرئيسِ جمال عبدالنَّاصر عامَ 1968م.

وللشِّيخِ مجموعةٌ مِن كتُب القراءَاتِ القرآنيَّةِ المُعتبرةِ؛ منها: نورُ القلوبِ في قِراءَةِ الإمامِ يَعقُوبَ، ومعالمُ الاهتِداءِ إلى مَعرِفةِ الوَقْفِ والابتِدَاءِ، والفَتْحُ الكَبيرُ في الاستعاذَةِ والتَّكبيرِ، والقِراءاتُ العَشْرُ مِنَ الشَّاطِبيَّةِ والدُّرَّةِ...إلخ.

وكما وَهبَ أبوهُ جُهدَهُ في صِناعةِ الحَصيرِ لِفَرشِ المَسَاجدِ وإِعمارِها وَهبَ ولَدُهُ الشَّيخُ محمودٌ ثُلثَ تَركِتِهِ لِحُفَّاظِ القُرآنِ الكَريمِ في مَسجِدِ الحُصْريّ ببَلَدِهِ شُبرا النَّمْلَةِ، ومَسْجدِهِ بالعَجوزةِ حيثُ أقامَ؛ فرحمةُ الله تَعَالَى على شَيخِ مشَايخِ المقارئِ في كلِّ ربوعِ المعمورةِ العامرةِ بصوتِهِ الفَذَّ الذي سَيظلُّ يُرتِّلُ كلامَ ربِّ العالمينَ إلى يومِ الدينِ...!
---------------------------------------
بقلم: د
. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
* وكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش

مقالات اخرى للكاتب

الرياضة المصرية والعربيَّة ونظرية التّشبيه والشَّبيهة والتّشبيهة وما أشبه!