27 - 07 - 2024

عرفات .. أموالٌ تُهدر وشعيرةٌ تُنتهك !

عرفات .. أموالٌ تُهدر وشعيرةٌ تُنتهك !

لم تكن رحلةُ الحجيج إلي البقاع المقدسة بمكة المكرمة مبعثِ الرسول صلي الله عليه وسلم، والمدينةِ المنورة دار هجرته - مُذ أذنَ خليلُ الله إبراهيم في الناس بالحج - رحلة أبدانٍ وحسب، بل هي رحلةُ أكباد تتلظي، وقلوبٍ تنفطر، وأفئدةٍ تحترقُ من لهيب الشوق، وفرط الحنين لتلك البقاع، التي تُغسلُ فيها الأبدان، وتُطهر فيها الأرواح بعدما يتجردُ المرءُ من ذنوبه، ويعود صفحة بيضاء ناصعة كيوم ولدته أمه، تصديقا لقول المصطفي : (من حج فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .

ورغم عظم ذلك الركن الذي يؤصلُ لقيمة الطاعة، ومبدأ المساواة، إلا أنه تبدُر عن بعض الحجيج سلوكياتٌ سيئة تشوه جمال ذلك المشهد المهيب لأناسٍ خرجوا إلي صعيدٍ واحد في وقت واحد وزيٍ واحد، لا يُفرق بين غني وفقير، ولا بين أبيض وأسود، تلبية لدعوة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، واستجابة لأمر ربهم القائل : (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كلّ ضامرٍ يأتين من كل فج عميق) .

من تلك السلوكيات المقيتة الإسراف في الطعام والشراب، خاصة في يوم الحج الأصغر حسب أقوال أهل العلم، وهو يوم عرفة، أو يوم العتق الأكبر، كما أخبر المصطفي : (ما من يوم أكثر من أن يعتق اللهُ فيه عبدا من النار من يوم عرفة) .

والإسراف سلوكٌ يقع فيه بعضٌ من ضيوف الرحمن ممن نسوا أنه يومُ ذكر وتسبيح وتهليلٍ وإلحاح في الدعاء أن يقبل اللهُ حجهم، ويغفرَ ذنبهم، ويُنعمَ عليهم بالعتق من النار، وانشغلوا عن ذلك كله بالتزاحم علي شاحنات توزيع الطعام والشراب التي خرجت إلي ذلك المشعر طاعة لله وقربي ليجمعوا أكبر قدر من الوجبات المُغلفة والمعلبات والعصائر (ويدسوها) في حقائبهم، كما لو كانوا يحتاطون لمجاعةٍ أو قحطٍ، أو أيام جدبٍ كسني قوم يوسف، ثم يتحلقون بعد ذلك في حلقات ليأكلوا ويشربوا ما جمعته أيديهم بغير حق، ويُلقوا مخلفاتهم في طرقات عرفة، وسلال القمامة التي تطفح من أطنان الطعام والشراب السليمة التي لم تمسسها يدُ بشر، وألقي بها لتدوسها الأقدام وعجلات عربات رفع القمامة، رغم أن هناك آلافا من المسلمين في شتي البقاع يشتهون كسرة خبز أو جرعة ماء، يبحثون عنهما في صناديق القمامة !

وليست الجمعيات الخيرية والموسرون برآء من آفة الإسراف تلك؛ لأنهم أعطوا غير المُستحق، وأسالوا لعاب الطامع، فانبري يجمع طعاما وشرابا ليس له - حسب ظنه - صاحبٌ ، ولا يوجد ضبطٌ ولا ربطٌ في توزيعه .

إن الحج - يا سادة - هو دعوة للمساواة والنظام الذي بدونه يُهلك الناس بعضهم بعضا؛ لأن المقصد واحدٌ والأعدادَ غفيرة، وبالتالي فإنه لو لم يَحرُم الرفثُ والتدافع، لغلب القويُ الضعيف، ولبغي الغنيُّ علي الفقير، ولما قدرتْ المرأة علي أن تؤدي تلك الفريضة، وتسيرَ إلي جوار الأجنبي دون خوف علي نفسها ومالها .

أقول ومن مُقتضيات ذلك النظام، أن تُرشّد الجمعياتُ الخيرية، وهيئاتُ الوقف نفقاتها، وتحصر عطاءها في زجاجات المياه الباردة والعصائر والألبان فقط، وتحظر توزيع الأطعمة التي يُلقي معظمها في القمامة، وأن تُعطي المُحتاج علي قدر حاجته من طعام وشراب يقيم أوده دون إسراف، وهو ما سيوفر أموالا كثيرة يمكن توجيهها إلي بطون جائعة ألهبها الجوعُ ، ولكن الحياء يحُول بين أصحابها وبين الطلب .

إن قليلا من النظام من قِبلِ تلك الجمعيات - وذلك بإعطاء المُحتاج ما أراد من شراب عن طريق "بون" مُخفض القيمة، أو عن طريق تسجيل اسم المستفيد علي قاعدة البيانات، أو غمس إبهامه في حبر فسفوري وغيرها من الحلول - سيمنع من مزاحمة بعض الحجيج علي أخذ ما لا يحتاجون من طعام وشراب، فضلا عن ذلك، لابد من يقظة الوازع الديني عند كل حاج، ليعلم أنه جاء لقضاء ركنٍ عظيم ولم يأت للطعام والشراب، ومتي تحقق ذلك نكون قد حافظنا علي بهاء تلك الشعيرة ورونق ذلك النسك العظيم .
-----------------------------------
بقلم: صبري الموجي *
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

(صُباع) الكافر !