15 - 11 - 2024

الحاج محمد قاسم جبر .. بقيةُ الطيبين !

الحاج محمد قاسم جبر .. بقيةُ الطيبين !

أراني مَدينا لهذا الرجل بكثيرٍ من الفضل، رغم أن تعاملي معه كان محدودًا، والتقائي به كان نادرا، فلم تجمعني به يوما قاعةُ الدرس، أو فصلُ التعليم، كما جمعه بمن سبقني في السن، إذْ أدركتُه مديرا لمدرسة إمياي الإعدادية المشتركة التابعة لإدارة طوخ التعليمية، فرأيتُ فيه الحزمَ في أبهي صوره، والحكمةَ في أسمي معانيها .

تجسدتْ في صاحبنا - حفظه الله - الإدارةُ الرشيدة، وخليقٌ بمنهجه فيها أن يُدرّس في كتب التربية، إذ يزن الرجلُ الأمور بميزان حسَّاس، ويضع كلَّ شيء في موضعه، يمسك عصا تسيير الأمور من مُنتصفها، فلا يطغي جانبٌ علي آخر، للحزم عنده وقته، وللين موعده، وإن كان للحزم أميل، وعليه أحرص .

ورثَ أ. محمد قاسم الحكمةَ عن أبيه الحاج قاسم جبر شيخ مشايخ البلد، والذي كان هو وعمدة قريتنا صنوان .

الحاج محمد قاسم جبر - حفظه الله - واحدٌ من رعيل المدرسين الأوائل بقريتنا، وأحد عباقرة مادة الرياضيات، بدأ الرحلةَ من الصفر، ورغم كثافة الضباب، ووعورة طريق التعلم، إلا أنه آثر السّير فيه لنهايته؛ فرارًا من العمل بصناعة الأقفاص، التي فرتْ منها الجنّ، رغم قدرتها الخارقة علي فعل المُعجزات، والتي دلّ عليها وعدُ أحدها نبيَّ الله سليمان بأن يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه !

وحرصَ علي التعليم كذلك فرارا من العمل في الأرض تحت لهيب الشمس المحرقة، والجهد المضني في ريّ الأرض وحرثها، وجمع الدودة من المحاصيل، وهو ما يُكذب ( كوبليه ) الموسيقار عبد الوهاب : ( محلاها عيشة الفلاح ).

أولته الأسرةُ رعاية واهتماما، فاعترف بفضل والديه، وأكمل تعليمه في قرية غالبيتها بصمجية ( لا يفكون ) الخط كحال كلِّ القرى آنذاك .

تخرجَ في مدرسة المعلمين محطةِ وصول كلِّ من سلك طريق العلم في وقته، فلم يكتفِ بتلك المحطة، وأكمل مسيرته، فحصل علي بكالوريوس التربية، وعقب تخرجه احتضنته مدارسُ قريتنا والقرى المحيطة ليُعلم مادة الرياضيات بأسلوب جمع بين الشدة واللين، آثر فيه الشدة، ولسان حاله قول أبي تمام :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما / فليقسو أحيانا علي من يرحم !

احتضن الأبُ والمعلم أوائل الطلبة، ونثر عليهم درر حكمته، وفيض يديه، وكنتُ أحد هؤلاء، الذين رفلوا في نعيم نصحه وتوجيهه بالمرحلة الإعدادية، وأشرف علي مسابقات أوائل الطلبة، فربتَ علي أكتاف كثيرٍ من طلابه، وأنفق من جيبه علي جوائز المسابقات الرمزية، و(البونبون) والحلوي، التي تُهدي للفائزين .

أحببتُ هذا الرجل، مثلما أحبه أبي - رحمه الله - إذ كان جارًا لنا، يتعهد أهلَ الناحية بالسؤال، يزور مريضهم، ويعطي محتاجهم، ويصل جيرانه برغم كثرة مشاغله .

تعهدني كثيرا بالنصح، وأولاني بالرعاية كأبنائه، وتنبأ لي بمستقبل مُشرق، حال بيني وبينه، اعتمادي علي ذاكرتي، والخصومة المحتدمة بيني وبين الكتاب المدرسي؛ اعتمادا علي حافظتي القوية، شعاري ما ردّده تافهٌ لو عرفتُه لقتلته : ( العلم في الراس لا الكراس ).

في ظهيرة أحد الأيام عرجَ به المسير إلي بيتنا، ونادي أبي بصوت خفيض، لا يكاد يبين ينم عن حزن وأسي وقال يا حاج  محمد - يقصد أبي -  "صبري ترتيبه الثالث علي المدرسة"، ثم انصرف، ولم تر بعدها عيني إلا النور !

الحاج محمد قاسم جبر - أطال الله عمره - نموذجٌ للمعلم صاحب الرسالة والأب الحاني، والجار الشهم، فضلا عن هذا، فهو رجل بينه وبين الله عمار، يدل عليه حرصُه علي ارتياد المسجد في صلواته، ومشاركته في حلّ قضايا الناس العرفية، وتواجده في سرادقات العزاء، التي تُقام بدوار عائلته الطيبة .

يُعتبر هو وأخوه الأصغر الحاج إبراهيم قاسم قطبي عائلة جبر، وهو ما جعلهما يحرصان علي لمَّ شمل العائلة في المواسم والمناسبات، فيتجمعون علي مائدة واحدة، تذوب بينهم الفوارق، وتندمل الجروح، وتُمسح عبرات الباكين .

عُرف بجانب حزمه بروح الفكاهة، وله فيها أحاديثُ ونوادر، جرت بينه وبين صديقه الحاج محمد عبد المقصود أبو نعمة - رحمه الله - ربما يكون لها حديثٌ آخر .

أوصانا نبينا بأن نردّ الجميل لصاحبه، فقال : ( من صنع لكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ) .

وليس ما كتبتُ إلا برهانَ محبة، ومحاولة ردّ الجميل لرجل أخلص لعمله وأهله ووطنه وطلابه، فالله أسأل أن يبارك فيه وفي ذريته أجمعين .
--------------------------------
بقلم: صبري الموجي  
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

إلا تنصروه فقد نصره الله