12 - 07 - 2024

الفاشل يرفع إيده!!

الفاشل يرفع إيده!!

في العام 1962 أنتجت شركة "صوت الفن" فيلم الخطايا من إخراج المبدع الراحل حسن الإمام ، وشدا فيه العندليب عبد الحليم حافظ برائعته "وحياة قلبي وأفراحه" كلمات فتحي قوره وتلحين المبدع منير مراد ..

"الناجح يرفع إيده "كوبليه" خالد من كلمات أغنية تم إنتاجها العام 1962، عام صعود "الشهادة الجامعية" إلى قمة الهرم الاجتماعي في مصر ،وهو ماعبر عنه النجم الكبير عادل إمام (1964) في مسرحية "أنا وهو وهي " بجملته الخالدة :"بلد شهادات".ما يعكس مكانة التعليم و الشهادة الجامعية  داخل المجتمع كله بمختلف فئاته، يكاد يكون إجماعا وطنيا على أولوية التعليم في أجندة الأسرة المصرية.

بيد أن وَقْع التأثير "الثقافي ـالاجتماعي" للأغنية على الطبقة الوسطى (40% تقريبا من عدد السكان) كان أكثر بريقا ، فقد لمست الأغنية الوجدان العام لهذة الشريحة الاجتماعية الواسعة ، التى تنظر إلى الشهادة الجامعية باعتبارها وثيقة تأمين المستقبل كله، تساعده في الوصول إل مكانة اجتماعية مرموقة ،فضلا عن كونها أهم المسوغات الرسمية للحصول على وظيفة بالدولاب الإداري للدولة الذي يتضخم يوما بعد يوم لتنظيم عملية الإنتاج الضخمة التي يدرها أكثر من ألف مصنع تم إنشاؤها خلال 4 سنوات (1960ـ64) فضلا عن تجهيز الاحتياجات اللوجستية التي يحتاجها التوسع الأفقى للتعليم في الحضر والريف.. أتى التعليم الحكومي بثماره ، ولم يتأخر.

بالتعليم ، يدخل الخزانة العامة للدولة أكثر من 24 مليار دولار تحويلات العاملين بالخارج الذين تعلم أغلبهم في مدارس وجامعات الدولة، ليسجل الاسثمار الحكومي في التعليم أعلى مصدر للدخل القومي من العملة الصعبة.. هو استثمار أرباحه مضمونة للمصريين ، يؤمن لهم رغيف العيش منذ الامس وإلى اليوم وحتى الغد.

لكن رياح السياسة أتت بما لا تشتهيه الكتل الاجتماعية الكبيرة التي تعتمد على التعليم الحكومي، زهيد التكاليف..رياح بعثرت كل الأوراق، ونثرتها على أبواب مدارس وجامعات "الاستثمارالخاص" ، بتشجيع من الدولة التي ائتمنت رجال الاستثمار الجدد على التعليم ، وصدقت تعهداتهم بتطويره، واعتقدت أن رأس المال الخاص،الذي ينجح في التجارة والبناء والسياحة والصحة وغيرها، يمكن أن ينجح مع التعليم ..لكن الاستثمار أدار العملية التعليمية بمفهوم التجارة، ربح وخسارة ، أكثر من اهتمامه بالمنتج (الطالب) الذي يخرج من الجامعة إلى المجتمع كإضافة، وليس عبئا عليه.. تحول التعليم في مصر إلى "بزنس" مضمون الربح.

الدولة ساهمت أيضا (بقصد أو بدون) في توسعة سوق التعليم الخاص، من خلال ا

نسحابها خطوة ـ خطوة من "حوش المدرسة"، مرة بالإنفاق الهزيل ،ومرة بالتكدس الهائل للتلاميذ في الفصول ، ومرات بإزدراء المعلم ذاته، وتحويله إلى "أجير" يحصل على راتب شهري لا يكفل له كرامته وهيبته ، فيضطر إلى العمل بـ"اليومية" ويدخل سوق الدروس الخصوصية..

منذ الاحتلال الانجليزي لمصر وحتى "مدارس الحكومة "في الستينات ،لم تبادر وزارة تعليم واحدة طوال تلك السنوات بتغيير مناهج التعليم ، بما يقفز به إلى أعلى غاياته في الاختراع والابتكار، واعتقدنا أن رجال "البزنس" قد يفعلوها ، ويقدموا وثيقة "جدارة اجتماعية"  تعيد لرأس المال الخاص دوره الوطني العام في تنمية البلاد..لكن شيئا لم يحدث ، وأصبحنا أمام عملية تعليمية زائفة ومضللة تأكل العقول وتجرف الأفكار وتدوس على الابتكار بلا رحمة.. تعليم يعود إلى زمن البدايات .. زمن الكتاتيب.. زمن الحفظ والتلقين.

"الناجح يرفع إيده" أغنية الأجيال السابقة والحاضرة واللاحقة، في المدرسة والجامعة ، وأيضا في المستشفى والمصنع والورشة، صحيح أن ذلك لم يكن كذلك على الوجه الأفضل، إلا أن "الفكرة"في حد ذاتها (الناجح) تبقى خالدة في الضمير الجمعي للمصريين ، ومسطرة من بين "قياسات الفضيلة والشرف داخل النظام الاجتماعي العام ، إلى جانب أن الفكرة في حد ذاتها تقيم للعدالة آلية يراها الجميع بشفافية ووضوح تحقق الرضا العام.

في هذا الزمن الجاري، ليس مهما أن يرفع الناجح إيده ، فربما لا يجد له مكانا  على "السلم" فالأولوية باتت  لـ "المَرّضي عنه" حتى لو كان فاشلا في التعليم..غنوا "الفاشل يرفع أيده" فربما صوتك يطرب أحدهم ويرشحك وزيرا للتعليم.
---------------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

الفاشل يرفع إيده!!