27 - 07 - 2024

إبداعات | من ذاكرة طفولة تبتسم.. ولد صغير وطريق لا ينساه (2)

إبداعات | من ذاكرة طفولة تبتسم.. ولد صغير وطريق لا ينساه (2)

الرجل "الديزل"

فى الثالثة فجر كل يوم، من هذه الأيام البعيدة، لم يكن النيام يستيقظون فزعين، أن القطار قد يدهمهم ومنازلهم فجأة... باتوا يعلمون قصة الرجل، الذى حلّ مشكلة انضباط مواعيد القطار، رحيلا وقدوما، بمعرفته وبطريقته الخاصة.. أن أصبح 'الرجل الديزل".. أو "الرجل القطار". تقمص شخصية القطار، بشحمه وعرباته، وحتى صافرته المزعجة فى جوف الليل. يرى نفسه كذلك. صوته. حركته. 

الغريب أنه يرى نفسه قطارا بخاريا قديما، وليس أحد القطارات الحديثة. ربما خشى أن يستقله أحد، لو رآه كذلك. يقلد فى مشيته حركة العجلات القديمة، ذات الذراع البخارى الدافع .. يتنقل بين شوارع المنطقة، شارعا شارعا. وحينما يأتى لأول الطريق الذى يسبق منزلى، أستطيع أن اضبط ساعتى على موعده أدق من ساعة إذاعة القاهرة أو البرنامج العام. وربما زعق زعقة مدويّة في صمت الليل فجأة.. لنكتشف أن أحد الماكرين قد دسّ فى يديه شيئا ما، راشيا إياه، ليزعج جارا له، فى جوف الليل.. أو تلهيه الزعقة عمّا كان يفعل،.. لو كان مستيقظاً. إنها ألاعيب الجيران الخبثاء.

قالوا أنه صرع من صوت القطار، وهو صغير.. وقالوا أنه كان عاقلا، وزهق من مشكلة المواصلات فى مصر، ففقد عقله. لكن لم يعرفوا لماذا بالذات راق له أن يكون قطارا بخاريا وليس حديثا أو " مترو " يسير بالكهرباء، رغم أن الأسكندرية بها مثله.. وهو "المترو " الشهير ذو الطابقين يسير من فيكتوريا إلى ميدان محطة الرمل. ربما لم يحب وهو مراهق، فلم يستقله أبدا مع حبيبة..

كنت أخشى فيما مضى، أن أفقد الرجل الديزل فجأة، فلا أستطيع أن أعرف أن الساعة الثالثة صباحا...

***

مدد مدد 

قبيل الفجر، بقليل. يتراءى لى مجمع البحرين.. فركت عينيَّ، على صوت الآذان "خير من .. خير من" .. قلبّته يمينا ويسارا.. ولأعلى ولأسفل. لم يعيينى شكله العجيب.. فقط، عجبت من قدرة العقل الخارقة، التى وهبنيها الله. عرفت تلك النعمة، بقدر ما أدركت، ما يستغرقه هذا الأمر. مضيت، ومضيت.. فى ثوان خاطفة، إخترقت عتبات وعتبات، .. بسرعة البرق.. حللت الأحجية، كلها... بقدر، أعطتنى مفتاح الحل.. نفحة ربانيّة، أهدانيها القدر. المخ البشرى جبار.. شيء إلهى، عجيب. كشف، ظننت معه واهما، أنى ولىّ، من أولياء الصالحين.. لأطوى الزمن، وأعبر أبعادا، ربما أكثر من عشر، أو يزيد،.. لم يكونوا أربعا. خمسأ، من قال بذلك. زاعم واهم.. تربت يداه. 

أعماق الكون، لا متناهية، علمها عند ربّى.. أحاط بها، عالم الغيب والشهادة. لولا قدر تلك النفحة الربّانيّة، لادعيت الولاية.. هيهات، هيهات،.. هيهات، أنّى يكون لى مقام،.. وعمّة، ومولد،.. وعباءة خضراء.. فما أنا إلا مريد، وأحب الصوفيّة. بالأسحار، هم يستغفرون.. مدد، مدد..مدد.. لا أنكر، أنهم علمونى السفر فى الزمن،.. حقيقة الأمر، أهل الطريق، ومريدوه، علمونى.. وتعلمت من سالكي الدرب، كثيرا جدا.. يختلفون عن أهل الشريعة، تماما. قال لى أحدهم: "لنا الباطن، أضوأ من ظاهر الحواس، والمتون.." أوراد، وأحزاب كثيرة، أهدونى، إياها. قال لى آخر:"أصبحت، تعرف كثيرين منا،.. بخ بخ".. بالطبع، حفظّونى،  وصاياهم، وصُنتها، كالوصايا العشر. عند "الصخرة"، عبرت.. لم تكن نزغة وسواس خناس، فى صدرى، لأستعيذ بالله. على كل حال، سميّت اسم الله العظيم" بسم الله الرحمن الرحيم".. سافرت إلى أبعد.. ولجت أكثر، فأكثر.. مدد مدد.. لم أنوِ، أن أكون شيخ طريقة، فأنا مريد من المريدين، .. مدد، مدد..مدد.. نفحة الحزب، تفتح كل شئ. وِرد عظيم، حقا... مدد، مدد..مدد.. دوّى صوت راعد.. (حَيّ) رأيت التفاحة، وهى تسقط، فى عقلى.. سلك حوت طريقه، فى بحر مفتوح. هوت، فى قبضتى، الحقيقة.. لم يكن لى، المشى على الماء.. وربما، لو كانت هناك قارة أخرى، لاكتشفتها.. واهم. واهم. مدد، مدد..مدد.. ما زلت أسمع (حَيّ.. حَيّ).. سبّحت القدوس، سبحان الظاهر الباطن. قرأت الفاتحة، لآل البيت، وساداتنا، ومشايخنا، وآبائى وأجدادى.. مدد. مدد.. أمسكت بوِردى، .. حمدت الله كثيرا، وشكرت المريدين، فى الحضرة. يالها، من معيّة، وصُحبة، لا تنتهى. يدعو كل منا، للآخر، حضورا، وبظهر الغيب. مدد، مدد..مدد.. تيقنت، أنى كنت مستيقظا، ناظرا تجاه القبلة.. وضريح كبير أمامى.. مسحت وجهى، ببركة الفاتحة.. آخذين بأيدينا، بعضنا البعض. مدد. مدد.. حتما، سنزور معهم، الأزهر الشريف، والحُسين، ومقامات أهل الله الصالحين، كما دعونى، بحثا عن كتب صفراء أخرى، للصوفيّة، إستزادة من بركاتهم..

مدد، مدد..مدد..مدد، مدد..مدد.. سنقرأ الفاتحة، معا، صُحبة مريدى الطريق. مدد مدد.. إفترقنا، على موعد.. جزى الله أسيادنا، ومشايخنا، وأولياءنا، والمريدين، والسالكين، من أهل الطريق، عنا خيرا عميما.. يتراءى لهم، ما لايُرى"مدد، مدد..مدد..حَيّ.. حَيّ"..

***

تعويضة " إمرأة على الجسر"

الراحلة أو المختفية " تعويضة " تلك المرأة التى كنت أراها فى طفولتى البعيدة على الجسر. وهو منطقة تمتد بين محطتى قطار النقراشى باشا، وسيدى بشر. هذا الولىّ، من أولياء الله الصالحين، وله مقامه إلى الآن.

والجسر مرتفع من الأرض رملى. يحيط به من الجانبين تكسية من الحجر الكلسي، أشبه بتلك التى تُكسى بها جوانب الأنهار و"الترع"، فى مصر المحروسة.. جسر يسير عليه القطار. وما علاقة "تعويضة"  بالجسر؟

طالما إرتعب الأطفال من منطقة الجسر، الفاصلة بين عالمين:  قبلى وبحرى، كعوالم نجيب محفوظ.  " فبحرى السكة" حيث المنطقة السكنية الراقية المنارة، بأعمدة إنارة، وتمتد إلى شاطئّ "أبى هيف " وشاطئ " سيدى بشر " الشهيرين، ويقطنها السكان الجدد. أما " قبلى السكة " فقد كانت المنطقة الشعبية، ويطلقون عليها  "دربالة".

عالم أشبه بعوالم الحرافيش. وخلفها عن بعد، منطقة سكنها الأجانب قديما خاصة "الأرمن" أو الخواجات، مثل الخواجة الشهير "تشاكوس" الذى سميت المنطقة على اسمه، وموجودة حتى الآن.

وبين هذين العالمين المتناقضين "قبلى وبحرى" يقبع الجسر، كسد منيع، يحجز مانعا عبور الحرافيش، بمعاركهم الطاحنة، التى يُسمع بها كل حين، وتطيش فيها رقاب وأعناق بلطجية.

أما امرأتنا تلك "تعويضة" كم أحبت أن تأتى دائما، من صوب الجسر المرعب ليلا، حيث خط السكة الحديدية المفرد، يعلو الجسر، يشق بطن المدينة، قبل ازدواجه الآن.

أشبه بجنيّة هاربة بشعرها " المنكوش " وجوال من القماش تمسك به دائما، لا يعلم أحد ما به، تجرّه أحيانا، وتحمله أحيانا أخرى.. وأشهد أنى لم أرً إلى الآن إمرأة فى حُسن هذه المرأة، وجمالها البارع، رغم أن الكل كان يخشاها، لأنها تأتي دوما، من صوب الجسر. ولكن هذا الكل، كان يجتمع على الصنبور العمومى، أو كما كان يسميه الناس فى هذا العهد البعيد "بحنفية الصدقة" التى كانت موجودة فى كل منطقة آنذاك، كما فى مصر كلها. إذا أرادت أن تستحم، فلا تخشى أحدا، ولا تستحى من مارة، أو وقوف ينظرون إليها، مشدوهين أمام حسنها الآخاذ.

أنظر إليها بعينين طفولية، مشدوها مثلهم، ولكن من منظر هذا التجمع البشرى الذكورى والنسوى حولها. تتحّمم أو تغتسل، لا تستتر بشئ ، وكأنها على حافة نهر أو جدول جار، و ليس أسفل صنبور عمومى، أمام برية الله.

تغار من جمالها الفاتن النساء. أما هؤلاء الرجال الماكرون، لا بد أنهم رأوا فيها، ما لم يروا فى زوجاتهم. أما الأطفال، وكنت منهم لا أفقه شيئا بعد، عما أراه فى نفسي، كجسد طفل صغير. ولا أذكر ربما كنت فى السابعة من عمرى، فكنا نتحلق حولها، خلف الكبار.  والكل يغنى لتعويضة، ذات الشعر المنساب جاريا، بفعل الماء إلى أسفل، فلم أرَ شعرا بهذا الطول إلى الآن، وأظن أننى لن أرى.   منذ هذا الحين البعيد، تمنيت أن يمسّ كل النسوة شئ من الجنون، ليطول شعر كل إمرأة منهن، فلا تقصّه أبدا.  وبات فى ذهنى أن كل إمرأة مجنونة جميلة شعرها طويل جدا.  ما أحلاه من جنون، وما أطوله من شعر.

ولم أحسن الإندماج مع الأطفال، ربما لاندهاشى البرئ ودهشتى الطفولية البريئة، بهذا الوجه الحسن، الخلاب جماله. كم كانت دهشتى من هذا الجسم البضّ، الذى تفترسه أعين الرجال. لم أفكر فى الغناء لتعويضة الرائعة، مع كورال الأطفال حولها : "تعويضة أهى.. تعويضة أهى " فقد كنت مشغولا، بملاحظة أعين القوم تتركز بؤرة رؤيتها، فى وسط المرأة، الذى يظهر ويختفى، مع تموج شعرها الطويل المبلل.

وكأننى أرجم غيبا، بأنى سأكتب عنها يوما ما، فى المستقبل البعيد بعد أكثر من ثلاثة عقود. وأنا منْ كانت أمى تحمّمّنى فتغلق أبوابا ونوافذ، كطفل فى السابعة، فأقارن بطفولتى. أتعجب، وليس لتعويضة أبواب تغلقها على نفسها، فى وجه هؤلاء الناس الأشرار.

رأيتها دائما كجنيّة جميلة، هاربة من ألف ليلة وليلة، وليست بإمراة مكلومة، فى أطفالها، كما قال الناس عنها آنذاك..أن زوجها العربى الغاشم، انتزع منها أطفالها، فى إحدى الدول العربية، ورحلّها إلى مصر، و لم تستطع رؤيتهم بعد ذلك مطلقا، فذهب عقلها، ومسّها الجنون.

لم يذكر أحد هل علم أطفالها، بما حدث لها بسبب فقدهم؟ هل بحثوا عنها فى مصر أم لا ؟

ولم يعد هناك تعويضة، ولا صنبورا عموميّا. وحتى الجسر أصبحت تغطيه من الجانبين حوانيت تجارية ،من كل صنف، ومن كل نوع، فأخفت حجارة الجسر البيضاء العتيقة، على خط قطار الرمل الشهير. أصبحت منطقة دربالة، فى الناحية القبلية من الجسر، تٌرى منطقة شبه صناعية، لتصنيع الملابس. ذهب حرافيشها، ومنهم من يذكره الناس فى أسمارهم باسمه  "البلطجى السيد كلوظة".

وذهبت تعويضة بذكراها غائبة، فى عينى كطفل فى السابعة، ولم أرَ عاقلة بشعر طويل غريب، فأطول شعر رأيته يوما ما، كان لإمرأة مجنونة، فائقة الجمال.

وما زلت أذكر أعين الرجال محدّقة، وأتساءل عما كانوا ينظرون إليه، آنذاك.

وأمر بالجسر على فترات بعيدة، وكلما مررت أتذكر تعويضة الجميلة، وشعرها المفرود الطويل جدا.
----------------------------------
بقلم: خالد حامد العرفى